أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: بقية ُ موتٍ ....يحيا

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Apr 2009
    المشاركات : 59
    المواضيع : 24
    الردود : 59
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي بقية ُ موتٍ ....يحيا


    ما أعجبَ الدنياحين تجملُ شيخاً بظرفٍ كظرفِ الأطفال؛ فقد سكبَ اللهُ فى قلب أبى معانى الرقةِ والحنان سكباً لا مثيل له.....حتى شعرنا جميعاً أنه أصغرنا، وقد رأيتُ أبى من الذين أنعم اللهُ عليهم بأن جعل لهم أبناءَقرَّتْ بهم عينه، وتلك من حقائق السعادة الكبرى فى حياة الرجل، فلم يشعرأبى فى حياته قط بأنه غنىٌّ إلا بنا، ولم يعانى فقراً فى عِزِّ فقرهِ ونحن حوله...وكان يردد أبنائى عزوتى ...تركتى....ميراثى، فيعظم ُالفرحُ فى نفسهِ ونفوسنا فيكبرُ وإنْ بدا ضئيلاً....ويتضاعفُ لديه الأملُ ولدينا وإن كان بعيد المنال....فكنا منه نستدينُ الإرادةَ ويستمدها منا فى أغلب الأحايين، ومعه يصغرُالهمُّ ويتلاشى، ويتضاءلُ الفقرُحين نتقاسمه فيبدو تافهاً نهزأُ به، وكانت حياتنا فى جواره تمثلُ كل القوة والأمان ...فعاد موته يمثلُ لنا الضعفُ والحرمان، وكنا نتحسسُ أدرانَ الحياةِ وهو يهزأُ بها بنصفِ ابتسامةٍ ساخرةٍ فنراها مخففةً أو كأنها دعابة أو لا هموم....فعادتْ هموم الدنيا بدونه ثقيلة مضاعفة لا طاقةَ لنا بها، وكنتُ ألمحُ فى جواره كوةً من نور الجنةِ يفيضُ علينا صباح مساء....فحرمنا موتُهُ إياها.
    قبل وفاته بأسبوعين ترك غرفته التى كانت مآواه طيلة حياته قائلاً:دعنى أموت عندك لتلقنى شهادةً ألقى بها ربى فلم نأخذ كلامه بمحمل الجدِّ، لكن بسرعة البرق أنفذناه وهيأتُ له غرفته بجوارى ومنحنى الله القدرة على القيام بشئونه، وشعرتُ أن الحياةَ فى جوار وطاعة الأبِ يكسوها عبق وأريج الجنان، لكنه صار على غير عادته...طلباته تقلُّ يوماً بعد يومٍ، وكأنه قد فرغ من الدنيا وارتدى ثوباً من أسرار الموت وهيبته، فرغت عنده معظم الدنيا من معانيها وبدا الجسم يتخلى عن مكانه للروح تظهروتأبى نوماًوكأنه أراد أن يملأ ُعينه من كلِّ أحبابه، أو يقول فى صمتٍ وبلا آهٍ...وداعاً.
    فقد عاش أبى بقلوبنا لا قلبه، وبحناننا لا حنانه، وبحبنا الذى غرس نبته بيده، وحين اقترب أبى من ساعات احتضاره شعرتُ أنه يطرقُ برفق بابَ آخرته...يريد أن ينسلَّ من بيننا خفيفاً ليناً، وحين نسمعُ الآذانَ أقول له أتريد الصلاةَ فى المسجد ياأبى؟ يهزُّ رأسه ويطبقُ جفونه موافقاً، لكن هيهات هيهات...فقد خارت القوى...وصرنا حوله كمن يمسكُ بظلٍّ يتحرك ليمنعه ألا يذهب ....وأنى لنا هذا؟
    فما أعظم الفارق؛ وشتان شتان ...فلو أن كل كتب الدنيا التى تتحدث عن الموت قد أفرغتها فى عقلى ما كادت لتترك أثراً واحداً من ألوف المعانى التى علمنيه احتضار أبى، فحين يموت الأبُ الحنون بين يدى ابن يجتهدُ أن يكون باراً....هنا وهنا فقط يحفرُ الموت أخاديد فى النفس لا تمحوها السنون، أهٍ حين يغطى الوجه فى سويعاتٍ قليلةآلام عمرٍ كاملٍ ليشهدَ هيبة الموت وجلاله، وأهٍ حينَ تحين ساعة ما لا يُفهم.....ساعة اللاشئ عند من يحيا، وساعة كل شئ عند من يودع الحياة، فحين تحين ساعة الرحيل يتوقف الزمن ...يذوب...يموت كل كذب الدنيا وزينتها داخلك، حين تُخْتزلُ سنوات أعمارنا فى كلمة واحدة هى...أعمالنا، انقطعت الدنيا لدى من جلِّ معانيها وشعرتُ بثقل ما ألقى أبى على كاهلى أنْ ألقنه الشهادة، فكان يردد بصوتٍ خفىٍّ منقطع لا يكاد يُبينُ ...يا رب..وتضمُّ شفتاه الحرفين كمن يعانقهما عناقاً، فليرحمك الله يا أبى، ويا لحرقة دمعة الموت ولسعتها لمن يشاهدها، كانت دمعته تناجينا قائلة:لا تبكوا..لا تحزنوا...مشفقٌ علينا حين موته نفس اشفاقه علينا فى حياته، زفرات الرحيل علتْ ابتسامته التى رسمها على وجهه طيلة حياته، وأهٍ حين يتكلم المحتضرُ بعجزه عن الكلام، سلمت علينا دمعته وشهقته الأخيرة مودعة فى صمت وهدوء، وحين سكن الحىُّ الذى كان فى أبى تحرك فى داخلى كل تاريخه وقت كان يضيقُ على نفسه ليوسعَ لنا، وحين كان يخلعُ الثوب ويتقى البرد بجلده لتدفئتنا به جميعاً، امتد لسانُ الموتِ وكبر، وحقرت الدنيا وقلَّتْ، وتحاقرت الحياةُ وتجمعت فى حفرة واحدة هى قبر أبى.
    لقد خُيلَ إلىَّ ملك الموت فى غرفتى وأنا أمسك بأنامل أبى أتحسسُ حرارتها....يا إلهى كأننى أنا الذى أموتُ، تنظر عينى فى فضاءات الغرفة .....احسُّ أن أبى يملاُ الجو من حولى، جعل موته أعضائى مختلةً أو فقدت توازنها مما ألم بى من الحزن والوجد، صارت أفكارى تنحدر من رأسى إلى حلقى، ولا يفرجُ عنى إلا عبراتٌ تُسكبُ سكباً. كان جميع من حولى فى عالم الدنيا، وكنت مع أبى فى عالم الموتى، الناس من حولى يمشون لينتهوا إلى القبر وأنا امشى لأبدأَ مصيبة فقد أبى فى دنيا من الحب والخوف والقلق ولى عقل جديدلم أعهده.
    أهٍ من هذا المكان الذى تأتيه كل العيون بعبراتها، وتمشى إليه النفوسُ ثقيلة بأحزانها، وتحضرفيه القلوبُ إلى بعضهاأوبقاياها، فالحب الغائبُ فى جوف الثرى لا يتغير عليه الزمان ولا المكان فى قلب من يحبه، فحين تمتزجُ الروح بالروح تترك فيها من الأشياء التى لا تُمْحى لأن الروح خالدة لا تُمْحى.
    وبدا لىَّ القبرُ بغير ما كنت أعهده، فكنت أرجوه داعيا الله أن يحنو على أبى ويرفق به ويتسع له، ورأيتُ القبرَ فى داخله يشرحُ ويُفسرُّجلياً كلمة الموت، وارتفع صوت القبر مع لسان أبى الساكن بلا حراك فى جوفه، وتداخلت الأصوات فى رأسى وكلاهما يقول:
    أسرعوا واصرفوا الحياة كلها فى الخير فإنها لا تكفى، أصلحوا من شأنكم ما فسد وأسقطوا من أيامكم الشر والضعف، أميتوا فى نفوسكم شهواتها وأدرانها، فليس فى الدنيا أعظم موعظة من الموت.
    وحين عدتُ أدراجى متخاذلاً للبيتِ شعرتُ أنه قد تغير وتبدل، فقد طالته هو الآخر أنياب الموت، ونشب فيه بأظافره، وقد كانت غرفة أبى هى الأخرى تنتحب، سلمتُ على أمى ....نظرت إليها....مسكينة ...وقلت لها:
    إنك بقية.....موتٍ ....يحيا.
    أحمد الحارون
    تلبانة-المنصورة

  2. #2
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    المشاركات : 6,061
    المواضيع : 182
    الردود : 6061
    المعدل اليومي : 0.91

    افتراضي

    يقول:
    أسرعوا واصرفوا الحياة كلها فى الخير فإنها لا تكفى، أصلحوا من شأنكم ما فسد وأسقطوا من أيامكم الشر والضعف، أميتوا فى نفوسكم شهواتها وأدرانها، فليس فى الدنيا أعظم موعظة من الموت.


    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    عظّم الله أجركم أيها الصديق العزيز أحمد الحارون
    إنّا جميعا لله ,وإنّا إليه كادحون كدحا
    ليتغمد الله الفقيد برحمته, وليجعل مأواه الجنة مع كل الصالحين
    حسب وصفك أنه كان يتعامل معكم مثل طفل ,,أرى أنه أب مثالي وحنون ,,يبني ولا يدمر ,,يجمع ولا يبعثر ,,وكم من أبٍ كان السبب بدمار أفراد أسرته بسبب أنانيته وحبه للظهور على حساب الجميع
    له جنة الخلد ولكم الصبر من بعده
    هذه هي الحياة
    لا اعتراض
    ماسة

  3. #3
    الصورة الرمزية وفاء شوكت خضر أديبة وقاصة
    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : موطن الحزن والفقد
    المشاركات : 9,734
    المواضيع : 296
    الردود : 9734
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    شدني العنوان ..
    فكان النص أكثر دهشة ..
    بداية جميلة وتمهيد رائع لما سيأتي بعده حتى لا يكون نفاجأة للمتلقي ..
    سرد في العظة ولكن بترغيب ، وبتذكير لما غفلت عنه النفوس ..
    ودعوة إلى بر الوالدين لما يقدموه لنا من تضحيات ليهونوا علينا هذه الحياة بقسوتها حتى في لحظات فراقهم لنا ..

    أعجبني النص لفكرة ولغة ..
    تقبل مروري .
    //عندما تشتد المواقف الأشداء هم المستمرون//

  4. #4
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Apr 2009
    المشاركات : 59
    المواضيع : 24
    الردود : 59
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاطمه عبد القادر مشاهدة المشاركة
    يقول:
    أسرعوا واصرفوا الحياة كلها فى الخير فإنها لا تكفى، أصلحوا من شأنكم ما فسد وأسقطوا من أيامكم الشر والضعف، أميتوا فى نفوسكم شهواتها وأدرانها، فليس فى الدنيا أعظم موعظة من الموت.


    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    عظّم الله أجركم أيها الصديق العزيز أحمد الحارون
    إنّا جميعا لله ,وإنّا إليه كادحون كدحا
    ليتغمد الله الفقيد برحمته, وليجعل مأواه الجنة مع كل الصالحين
    حسب وصفك أنه كان يتعامل معكم مثل طفل ,,أرى أنه أب مثالي وحنون ,,يبني ولا يدمر ,,يجمع ولا يبعثر ,,وكم من أبٍ كان السبب بدمار أفراد أسرته بسبب أنانيته وحبه للظهور على حساب الجميع
    له جنة الخلد ولكم الصبر من بعده
    هذه هي الحياة
    لا اعتراض
    ماسة
    الأخت الفاضلة/ فاطمة
    السلام عليكم ورحمة الله
    ما اطيب مروركم! وما احسن نعيقكم!
    فلكم جزيل الشكر ومنتهاه....وجزاكم الله خيرا
    وغفر الله لنا جميعا ولموتانا
    دمتم بخير يا....فاطم
    لا هنتم

  5. #5
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Apr 2009
    المشاركات : 59
    المواضيع : 24
    الردود : 59
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة وفاء شوكت خضر مشاهدة المشاركة
    شدني العنوان ..
    فكان النص أكثر دهشة ..
    بداية جميلة وتمهيد رائع لما سيأتي بعده حتى لا يكون نفاجأة للمتلقي ..
    سرد في العظة ولكن بترغيب ، وبتذكير لما غفلت عنه النفوس ..
    ودعوة إلى بر الوالدين لما يقدموه لنا من تضحيات ليهونوا علينا هذه الحياة بقسوتها حتى في لحظات فراقهم لنا ..

    أعجبني النص لفكرة ولغة ..
    تقبل مروري .
    الأخت /وفاء
    السلام عليكم ورحمة الله
    مروركم حسن....وتعليقكم أحسن
    فدمتم الأحسن...ولا هنتم أخيتى
    وغفر الله لنا ولكم

المواضيع المتشابهه

  1. <| أسئلة الطالبِ المُجِدّ وإجاباتِ المعلِّم أحمد |ّّّّ>
    بواسطة براءة الجودي في المنتدى مَدْرَسَةُ الوَاحَةِ الأَدَبِيَّةِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 13-04-2016, 01:59 AM
  2. موت على موت /يحيى سليمان
    بواسطة يحيى سليمان في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 26-07-2010, 09:42 PM
  3. @ موت بلا .. موت @
    بواسطة منى محمود حسان في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 12-12-2006, 03:39 PM
  4. فلسطيني في قلبه جراحه ....ّّّ
    بواسطة خوله بدر في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 02-12-2005, 01:16 PM