11[SIZE="5"][align=justify]
-الإمام عبد القاهر الجرجاني والصورة الأدبية :(
المتوفى 471.) : وبعد الشوط الطويل يأتي فارس الميدان، وأستاذ النقد العربي القديم الإمام القاهر، ويصلنا وهو في القرن الخامس الهجري بما انتهى إليه النقد الحديث في القرن الخامس عشر، في توضيح معالم الصورة الأدبية. ولا يظن القارئ الكريم أن من ذكرتهم قبل الإمام من النقاد العرب ليسوا هم وحدهم الذين تكلموا في اللفظ والمعنى، وما تفرع عن ذلك من النظم والصورة. بل هناك غيرهم كثيرون منهم الصاحب بن عباد، والمرزوقي وغيرهما، وكذلك فعل جار الله الزمخشري بعده، وغيره مما سار على نهج ما ذكرت من فهمهم للصورة وتحليلها ونقدها. مما جعلني أستقصي في نمو وتحليل، وتفصيل وموازنة واستنتاج كل المراحل التي مر بها مفهوم الصورة الأدبية، وذلك ما دعاني إلى الاكتفاء بأشهر الأعلام في النقد القديم. على أن الإمام عبد القاهر، يكفي عمن ذكرتهم، ومن لم أذكرهم، لسعة ثقافته، وفرط ذكائه، فقد أفاد من هؤلاء جميعًا حتى انتهى إليه القول في النظم والتصوير الأدبي قديمًا. فإذا حدَّد الإمام معنى النظم، ليصل عن طريقه إلى الصورة، فإنما يحدِّده بناء على مشاركة منه مع النقاد الذي سبقوه، فهم جميعًا قد شاركوا كلٌّ بقدر، واستقطبت عبقرية الإمام كل المنابع الثرة، وتجمعت في نفس واحدة، لتخرج قضية النظم والصورة، ممتزجة بروح ذلك الناقد القديم، وفاضت عن ذوقه الأدبي وأصالته المتميزة، مما يخيل للدارس أنها من صنعته، ومن ابتكار شخصه. وتلك عظمة العباقرة في قدراتهم، فإنها توهم الغير بأن أصحابها وحدهم هم أهل الفضل فيها وصلوا إليها، ولا فضل للعصور السابقة عليهم، ولا لمن سبقه ومهد له الطريق ولا لعصره عليه. والحق أننا في الحكم عليه بشخصيته الفذة وعقليته الخارقة، وعبقريته المجددة المتنكرة، لا يصح أن نغمط حق من قبله، وحق العصور السالفة عليه، وفضل عصره عليه، الذي هام الناس فيه باللفظ، وقد ثبت أركانه الجاحظ، حتى كاد الشكل في الصورة يقضي على الأدب، ووقف بجانب أنصار اللفظ وهم كثير، وجمع قليل بناصر المعنى، ثم تلك العامية التي انتشرت في عصره، وأوشكت أن تقضي على جمال اللغة. وفي وسط هذا الصراع بتياراته المختلفة تمكن أهل المجال والطاعنون في إعجاز القرآن وبلاغته من المساس بأعظم مقدساتنا لرأي باللفظ جعل الطاعنين يذهبون إلى دعاوى باطلة كمثل قولهم: إن اللفظ عربي، والعرب أقدر على الناس على مجاراته، ولذا فهم يستطيعون الإتيان بمثله، ولكن الله صرفهم عن ذلك لتظل هيبة القرآن في النفوس متفردًا بالجلال والإعجاز، والرأي بالمعنى جعل طائفة تنفي الإعجاز أيضًا لأن الأمر يتصل بالمعنى وليس هذا في طاقة العرب وفي قدرة البشر. في أحدهما، إلا إذا أمكن التحدى حتى يتحقق العجز من المعترض من ناحية، ويسمو القرآن بإعجازه في ميدان المعارضة من ناحية أخرى، يقول الإمام عبد القاهر في خط نصرة المعنى: "واعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب ما بلغوه، إلا لأن الخطأ فيه عظيم وأنه يقضي بصاحبه، إلى أن ينكر الإعجاز، ويبطل التحدِّي من حيث لا يشعر، وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أنه لا يجب فضل ولا رمزية إلا من جانب المعنى ( دلائل الإعجاز: عبد القادر الجرجاني ص 257 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.) "وهذا الصراع هذا الذي اضطر الإمام إلى حسم القضية في عمق، وإلى أن يقيم الأدلة والبراهين - في تحليل أدبي وإطالة وتفصيل- ليقف على مصادر العظمة، وموارد البلاغة في كتاب الله، وأساس التفرد والإعجاز في معجزته الخالدة. ويضيف في حديثه عن القرآن الكريم نماذج رائقة من الأدب العربي، لأن اللغة واحدة وهي اللغة العربية، وردَّ الأساس والمصدر في ذلك إلى ما نحن بصدده الآن وهو النظم، وما يتبع ذلك من التصوير الفني الأدبي، في لغتنا الحية الثرية. والإمام عبد القاهر يتناول الصورة الأدبية في موطنين: أحدهما حينما يتحدث عن قضية النظم، وثانيها حينما يتكلم عن مشكلة السرقات الأدبية في الشعر العربي، وسنتناول ذلك بإيجاز، نقصد من ذلك بيان مفهوم للصورة الأدبية ومعالمها في نقدنا العربي الأصيل القديم، ومدى الصلة بينها وبين مفهومها في النقد الحديث.
أولا النظم: وقف الإمام قبل أن يرسي قواعد النظم ويحدّد معالم الصورة موقف الباحث الدقيق، والناقد الذواقة الأديب، من أنصار اللفظ، وأنصار المعنى، ليضع الأساس الثالث وهو النظم ويفنّد ما انتهى إليه السابقون حيث قالوا: "إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث ( دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 425 تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي.) نبيّن موقفه من المعنى على حدّة، ثم اللفظ على حدّة، ليسلم له الأساس الفني الدقيق في الصورة وهو النظم. وما تلجلج الإمام في موقفه من كل من اللفظ والمعنى، قبل أن يستقر في النهاية إلى قضيته كما زعم بعض المعاصرين ( د. محمد خلف الله أحمد في كتابه "الوجهة النفسية" ض 113، وعز الدين إسماعيل في الاسس الجمالية في النقد العربي.) . ولكن الرجل على عادته، كان يهدم جزءا جزءا وقيل أن يهدم يحدّد الخصائص اللازمة للفظ على انفراد، وكذلك المعنى، فيحدد صفات اللفظ البليغ، ويتخير منه ويعلي من قدره منفردًا على المعنى ثم في موطن آخر يبرز سمات المعنى ويعلي من شأنه منفردًا فإذا انتهى إلى النظم، لم يعط الميزة للفظ وحده حتى يفضل المعنى، ولا يمنح الدرجة للمعنى حتى يسمو على اللفظ، فلا هذا ولا ذاك، وإنما الفضل الحق أن يكون للثالث وهو النظم وكفى( أسرار البلاغة: عبد القاهر الفاتحة ص 3 تحقيق السيد محمد رشيد رضا. ) ، فالإمام أعطى لكل حقه على انفراد، ولا قيمة لكل منهما وحده في الصورة وإنا يستحقان هذه القيمة، بل أكثر منها، إذا ارتبطا بالنظم وهو وحده له القيمة الكبرى في الصورة الأدبية. فأما سمات اللفظ عنده، والخصائص التي ينبغي أن تكون فيه هي كما يقول: "أن اللفظة مما يتعارفه الناس واستعمالهم، ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيًّا غريبًا، أو عاميًّا سخيفًا سخفه بإزالته عن موضوع اللغة، وإخراجه عما فرضته من الحكم والصفة (" دلائل الإعجاز عبد القاهر 425، 37، 88.) ، ويقول: "أن يكون حروف الكلمة أخف وامتزاجها أحسن، ومما يكد اللسان أبعد(" دلائل الإعجاز عبد القاهر 425، 37، 88.) ولكن الإمام يخشى على نفسه أن يكون متهمًا بأنه من أنصار اللفظ وحده، والجمال مقصور عليه فبعثور عليهم وينكر عليهم ذلك بشدة فيقول: "لا جمل في اللفظ من حيث صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، وإنما تكون ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب(" دلائل الإعجاز عبد القاهر 425، 37، 88.) . ويقول: "هل تجد أحدًا يقول هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمته معناها لمعاني جارتها، وفضل مواستها أخواتها ( دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 425 تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي ) ". ويضربهم بأنصار المعنى فيقول: "إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرًا في ترتيب الألفاظ بل تجدها تترتب لك بحكم أنها حدم للمعاني وتابعه لها وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ والدالة عليها في النطق5 ". ويطمئن أنصار المعنى لمذهبهم لوقت ما، بعد أن انتقض مذهب منافسيهم فيقرّر الخصائص التي يشرف بها المعنى، بأن تكون غريبة نادرة، أو تشتمل على حكمة أو أدب " يقول: "واعلم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه، من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدبًا، أو حكمة، وكان غريبًا نادرًا، فهو أشرف مما ليس كذلك بل عابوه. لأجل الاعتداد بهذا الشرف وحده، وعدم النظر إلى ما سواه، وإن كان من الأول بسبيل أم متصلًا به اتصال ما لا ينفكّ عنه ( أسرار البلاغة: عبد القاهر الفاتحة ص 3. تحقيق السيد محمد رشيد رضا.) ".ثم ينور عليهم ليحطم مذهبهم في المعنى مع اعتماده خصائص في ذاته فيقول: "واعلم أن الداء الدري والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه، وأقل الاحتفال باللافظ، وجعل لا يعطيه من المزية، إن هو أعطى إلا ما فضل من المعنى يقول: ما في اللفظ لولا المعنى، وهل الكلام إلا بمعناه( دلائل الإعجاز. عبد القاهر ص 425.) ".وبعد أن هوى بالمذهبين أخذ يترفق بأصحابهما، لعلهما يجدان الصواب معه كما وقع له فيقول: "أتراك استسغت تجنيس أبي تمام":
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت ... فيه الظنون مذهب أو مذهب
أو استحسنت تجنيس القائل:
حتى تحيا من خوفه وما يحب
وقول المحدث:
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني
لأمر يرجع إلى اللفظ؟ أم لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول، وقويت في الثاني ورأيتك لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفًا مكررة، تروم لها فائدة، فلا تجدها إلا مجهولة منكرة، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة، كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك أنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة (المرجع السابق ص 37. وهو أسرار البلاغة: عبد القاهر) . ووفاها ... إن ما يعطي التجنيس من الفضيلة لم يتم إلا بنصرة المعنى، ولو كان فيه مستحسن ولما وجد فيه معيب مستهجن". إذن فلا بد عند الإمام من الانتصار لهما معًا، ولن يتم الفضل للكلام إلا بالنظم وبعد أن أقنع الفريقين، أخذ يقرّر مبدأه الهام ونظريته في اللغة، وليست هي حشدًا من الألفاظ، ولا اهتمامًا بالمعاني الغريبة النادرة، بل اللغة علاقات بين ألفاظها لا تعرف إلا بارتباط بعضها ببعض لتوضح ما في الذهن من علائق على جهة الرمز لا النقل يقول الإمام: "إن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسهان ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف، وأصل عظيم والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، إنما وضعت ليعرف معانيها في أنفسها، لأدَّى ذلك إلى ما لا يشكّ عاقل في استحالته وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها.... حتى كأنهم لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنها تجهل معانيها، فلا نعقل نفيًا ولا نهيًا ولا استفهامًا ولا استثناء، وكيف والمواضعة لا تكون ولا نتصور إلا على معلوم؟ فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة فكما أنك إذا قلت: خذ ذاك لم تكن هذه الإشارة، لتعرف السامع المشار إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي نراها ونبصرها، كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له، ومن هذا الذي يشك أننا لم نعرف الرجل والفرض والضرب والقتل إلا من أساعها؟ لو كان لذلك مساغ في العقل لكان ينبغي إذا قيل زيد أن تعرف المسمى بهذا. الاسم، من غير أن تكون قد شاهدته، أو ذكر لك بصفته ... وإذا عرفت هذه الجملة، فاعلم أن معاني الكلام كلها معانٍ لا نتصور إلا فيما بين شيئين الأصل والأول هو الخبر، إذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع، ومن الثابت في العقول، والقائم في النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبريه ومخبر عنه، ومن ذلك استمتع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء، وكنت إذا قلت أضرب لم تستطيع أن تريد منه معنى في نفسك من غير أن تريد الخير به عن شيء مظهر أو مقدر، وكأن لفظك به إذا أتت لم ترد ذلك، وصوت تصوته سواء ( دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني ص 473، 474 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.) " والإمام هنا يقرر أن ألفاظ اللغة لا أهمية لها مفردة، لنتعرف على معانيها في ذاتها، ولكنها وضعت لأن يضم بعضها إلى بعض، ويتعلق بعضها ببعض حتى تعرف معانيها، وتبلغ الغرض منها، فلو أردنا أن نعرف ما يدل عليه كلمة "فرس" محددًا محصورًا، لما استطعنا ذلك، لأنه اسم جنس عام لا وجود له، إلا في أفراده فإذا وقع بين ألفاظ أخرى في عبارة كما تقول: "فرس في الحديقة" فقد دلَّت الكلمة في التركيب على منظور، ورمزت إلى شيء معين، ولم يكن المسمى في الحديقة هو كل المعنى للكملة السابقة. ولذلك استطاع عبد القاهر عن طريق الكشف لرمزيه اللغة، أن يعتبر اللفظ الذي يرمز إلى معنى لا وزن له مفردًا، ولا ينهض وحده بتصوير معناه، إلا إذا اشترك مع غيره، وارتبط بألفاظ أخرى، في نظم محكم، عند ذلك يكون لكل لفظ قيمة يقدر اشتراكه في تحديد الصورة العامة للمعنى المراد، ويكون حينئذ للنظم وحدُّه الميزة في الكشف عن المعاني المبهمة واضحة ومحددة، بينما يعجز اللفظ عن النهوض بالمعنى وحده، ولا يتصور حدوث ذلك بالمعنى الذهني المجرد، لأن السامع لا يعرف عنه شيئًا إلا إذا أشار المتكلم إليه بكلمة ترمز إليه، فيحرك الرمز الصورة الذهنية المترسبة في الباطن، ازدحام الصور الأخرى في الذهن لألفاظ اللغة التي اكتسبها الإنسان في حياته". وقد فسر ذلك د. مندور بالرمزية في اللغة، التي وصل إليها النقد حديثًا في القرب وألحق عبد القاهر يواضع هذه النظرية "فقت"( الميزان الجديد. د. محمد مندور ص 186. ). وألا مع الدكتور نايل (نظرية العلاقات للدكتور محمد نايل أحمد ص 100. ) في أن الإمام قد سبق النقد الحديث إلى هذه النظرية وبرع فيها واتخذها وسيلة للكشف عن أهمية النظم، وقدرته على تصوير المعنى والغرض بدقة وإحكام. ولم يبق للإمام عبد القاهر بعد هذا الصراع إلا أن يحدّد معنى النظم، لترتقي منه في النهاية إلى توضيح معالم الصورة الأدبية عنده. وفي تحديد معنى النظم يقول: "واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه للشك، أنه لا نظم في الكلم، ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك ... وإذا كان كذلك تعاقبنا أن ننظر إلى التعليق فيها والبقاء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها، ما معناه وما محصوله ؟.. فيصبح الاسم فاعلًا لفعل أو مفعولًا أو خبرًا أو مجرورًا أو استفهامًا أو شرطًا إلى غير ذلك من ألوان العلاقات في علم النحو، الي يربط بين النظم فيقول عبد القاهر: واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيع عنها ... وذلك أن لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه فينظر في وجوه الحال، وفي الحروف والفرق بينها بعضها عن بعض وفي حروف العطف والتعريف والتنكير والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإضمار والإظهار والجمع والتقيم، والتشبيه التمثيلي . وحينما نتخذ الكلمة بخصائصها السابقة مكانها من النظم المبني على معاني النحو، تتألف الصور الأدبية عند الإمام، لأن في الصيغة كلمات مرتبطة، وجملًا مشدودة بعضها ببعض في اتساق وإحكام ليتم عن التصوير الدقيق للغرض من الصياغة والنظم يقول عبد القاهر عن الصورة الناتجة من النظم: "إنك ترى الرجل فلا يهتدى في الأصباغ، التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج، إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها، إلى ما لم يهتد إليه صاحبه فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، وكذلك حال الشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه، التي علمت أنها محصول النظم ". لذلك أصبح النظم عنده وسبيل الكلام لديه هو "سبيل الصياغة والتصوير وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع عليه التصوير والصوغ كالفضة والذهب، يصاغ منهما خاتم أو سوار، فكما أن محالًا إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم، في جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع عليه العمل والصفعة كذلك محال إذا أنت تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرد معناه، وكما أننا لو فضلنا خاتمًا على خاتم، بأن يكون فضة هذا أجود، أو فضته أنفس، لم يكن ذلك تفضيلًا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتًا على بيت من أجل معناه ألا يكون تفضيلًا له، من حيث هو شعر وكلام، وهذا قاطع فأعرفه ( دلائل الإعجاز: عبد المقاهر ص 255 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي. )". هذا إذا كانت الكلمة التي اتخذت مكانها من النظم قامت على الحقيقة، لا تمت إلى الخيال بصلة، فكيف يراها الإمام إذا نبعت الكلمة من منابع الخيال الثرة، والخيال كما نعلم حديثًا عنصر حيّ من أهم عناصر الصورة الأدبية في النقد الحديث، وعبد القاهر يرى أنه رافد من روافدها الكثيرة، وأعظمها هو النظم، وهو الأساس الذي بدونه لا يقبل الخيال ولا تحسن وسائله، فلو وقعت استعارة في نظم، فالجمال في الصورة لا يرجع إلى الاستعارة فقط، ولكنه يرجع أولًا إلى جمال النظم، وإنما الاستعارة التي وقعت موقعها من الجملة، أو التركيب قد زادت النظم جمالًا على جمال. فالكلمة المستعارة مثلًا هنا حققت غايتين: إحداهما الجمال الذي نبع من موقع الكلمة في النظم، واتخاذها الوضع اللائق بها، وثانيهما الجمال الذي أضافه الخيال على الكلمة، ولكن الجمال الثاني لا اعتبار له إلا بالنظم الذي تتألف منه الصورة، ولذلك لو اختلَّ النظم - مهما حوى من وسائل الخيال - سقطت الصورة وتجرَّدت من كل عناصر الجمال. وهذه نظرية دقيقة من الغمام في الصورة، أغفلها النقد الحديث إلا نادرًا كما سنرى ويذكر اتجاهه في مواطن كثيرة منها قوله بشأن الاستعارة: "واعلم أن هذا - أعنى الفرق ب ين أن تكون المزية في اللفظ، وبين أن تكون المزية في النظم - باب يكثر فيه الغلط، فلا تزال ترى مستحسنًا قد أخطأ بالاستحسان موضعه فينحل اللفظ ما ليس له، ولا تزال ترى الشبهة قد دخلت عليك في الكلام، قد حسن من لفظه ونظمه، فظنت أن حسنه ذلك كله للفظ دون النظم، مثال ذلك أن تنظر إلى قول ابن المعتز:
وإني على إشفاق عيني من العدا .......... لتجمح مني نظرة ثم أطرق
فترى أن هذه الطلاوة، وهذا الظرف، إنما هو لأن جعل النظر يجمح، وليس هو لذلك، لأن قال في أول البيت "وإني" حتى أدخل اللام في قوله "لتجمع" ثم قوله: "مني" ثم لأن قال: "نظرة" ولم النظر مثلًا؟ ثم لمكان "ثم" في قوله "ثم" أطرق" وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف كلها، وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله: "على إشفاق عيني أخرى نصرت هذه اللطائف كلها، وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله: "على إشفاق عيني من العدى"، وغير ذلك كثير من ألوان الخيال التي وفد إليها الجمال عن طريق النظم. وبهذا العمق في التناول والاستقصاء، اعتدّ عبد القاهر بالنظم وحده في تأليف الصورة وتكون أركانها، كما هو واضح في نقده لأبيات كثيرة عزة، التي استحسنها بعض النقاد قبله لتفرد ألفاظها بالجمال، مع أنها لا تحمل كبير معنى، وخالفهم الإمام وبين لهم أن الجمال فيما يرجع إلى حسن النظم، وبه يرتفع حيث يقول عقب قول كثير السابق:
ولما قضينا من منى كل حاجة ........ ومسح بالأركان من هو ماسح
.... إلخ الأبيات. قال الإمام لائمًا عليهم صفيفهم "ثم انظر هل تجد لاستحسانهم وحمدهم وثنائهم ومدحهم متصرفًا إلا إلى استعارة وقعت موقعها، أصابت غرضها، أو حسن ترتيب تكامل معه البيان، حتى وصل المعنى إلى القلب، مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن.... إلى قوله الذي بين فيه وجه الصواب، فقل الآن هل بقيت عليك حسنة تحيل فيها على لفظة من ألفاظها، حتى إن فضل الحسنة يبقى لتلك اللفظة، ولو ذكرت على الانفراد، وأزيلت عن موقعها من نظم الشاعر ونسجه وتأليفه وتوصيفه، ثم يقول بعد أن يشبه النظم فيه اللآلي، في العقد بل حق هذا المثل أن يوضع في نصرة بعض المعاني الحكيمة والتشبيهية بعضًا، وازدياد الحسن منها بأن تجامع شكل منها شكلًا، وأن يصل الذكر بين متدانيات في ولادة العقول إياها ومتجاورات في تنزيل الأفهام لها". ولاهتمام عبد القادر بالنظم وعنايته به جعل بعض النقاد يزعم أنه شكلي لا يهتم بشرف المعنى وندرته، لذلك استحسن الصورة الأدبية السابقة للشاعر كثير، مع أنها لم تحفل بمعنى شريف. والذي أراه أن نظرية عبد القاهر في النظم والصورة بريئة من الشكلية الصرفة التي اتهم بها، ونستطيع دفعها بالتالي:
أولًا: أنه اهتم أولًا بالمعنى المفرد، وأعطى له سمات النبل والشرف وسبق ذلك في موضعه.
ثانيًا: النظم ينبني على اختيار معاني الألفاظ، وانتقائها، ثم تآلف هذه المعاني والتوخي بينها، ولا شك أن هذا يثبت المعنى في النظم شرفًا ونبلًا( دلائل الإعجاز: راجع منهج عبد القاهر في الكتاب للدكتور خفاجي ص 27.)
ثالثًا: الصورة الأدبية التي تألفت من خيوط النظم إنما يرجع جمالها وسحرها إلى ما تحققه من شرف الغرض وسمو المغزى.
رابعًا: وعلى ذلك فاهتمام عبد القاهر بالنظم والصورة إنما هو من أجل المعاني والأغراض، التي تكون الصورة خير سفارة عنها، وأقواها توصيلًا إلى النفس وتأثيرًا فيها.
خامسًا: وأدَّى اهتمامه بالمعنى والغرض، إلى أن يرتقي بالصورة إلى ما وراء الحس الظاهر عن طريق الوحي في الصورة، وهو ما يسميه عبد القاهر "بمعنى المعنى" "الذي يزيد المضمون شرفًا. ويرى أنه ليس من المراد من الألفاظ في التراكيب ظواهر معناها فقط، ولكن يراد فوق هذا أن يشار بمعانيها إلى معانٍ أخرى "حتى يكون هناك متجاز واتساع، وحتى لا يراد من ألفاظ ظواهر ما وضعت له في اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معانٍ أخرى" ( دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 264.) ويجلي "معنى المعنى" وضوحًا، لعنايته التامة به. ولكن بذلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية إلى الغرض ويضرب لذلك أمثلة عدَّة منها قولهم: "كثير رماد القدر" وينتقل اللفظ فيه إلى المفهوم الذي هو المعنى الوضعي للغة إلى معنى الكرم، وهذا المعنى هو معنى المعنى، والمعنى الأول، هو الوضعي بمثابة الوشي والمعارض للمعنى الثاني، الذي قصد إليه عن طريق معنى المعنى، والمعنى الثاني، هو الذي كسى ذلك الوشي وزينه وحلى به ( دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 88.) ، ويضيف إلى مفهوم الصورة فوق ما تقدم إيضاحًا لمعالمها، وكشفًا لجوانبها، مشاركة الألفاظ، بموسيقاها، ودلالتها الصوتية مما يزيد حسن النظم وجمال التأليف فتثري الصورة بعناصر عديدة تمنحها القوة والتأثير. ولذلك ينبغي ألا تكون الكلمة غريبة وحشية، بل مألوفة للسمع، مستعملة غير مهجورة، وحروفها خفيفة، منسجمة بعضها مع بعضن متلائمة مع معناها، وأن تتواءم بسماتها الساقة مع جاراتها في النظم، إذ لا اعتداد بها مفردة، إلا حينما يتسق مغانيها بعضها مع بعض يقول "أن تكون حروف هذه أخف، وامتزاجها أحسن، وهل تجد أحدًا يقول هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها ". ويقول: "فلا جمال إذن في اللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، وإنما يكون ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب. فالملاءمة بين حروف الكلمات، وخفة المنطق بها، وتناسبها مع معناها شدة أو لينًا وخفة وثقلًا، كل ذلك حسن للألفاظ لا شكّ فيه، راجع إلى ذاتها ولكنه يزيد النظم فضلًا، إذا وقعت منه في مكانها، كالشأن في ألوان الخيال. وينتقي أقوى أنواع الإيقاع في النظم، وأعمق موسيقى في التأليف، كالمزاوجة بين معنيين في الشرط والجزاء، والتعليق والتقسيم مع الجمع، والتنبه المتمدد والمركب حيث تتجاوب أصداء النظم مع أنغام الموسيقى، التابعة من زوايا متعدّدة لتشارك في جمال النظم الذي تتألف منه الصورة الأدبية ويذكر تحت عنوان "فصل في النظم يتحد في الوضع، ويدق فيه الصنع" فيقول: "واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر، ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت أن تتحد أجزاء الكلام، ويدخل بعضها في بعض، ويشتدّ ارتباط ثانٍ منها بأول وأن يحتاج في الجملة إلى أن تصعها في النفس وضعًا واحدًا، وأن تكون حالت فيها حال الباني، يضع بيمينه ها هنا في حال ما يضع بيساره هناك نعم وفي حال ما يبصر مكانًا ثالثًا، ورابعًا بعضهما بعد الأولين، وليس لما يجيء في هذا الوصف حدّ يحصره أو قانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتَّى، وأنحاء مختلفة فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط، والجزاء معًا كقول البحتري:
إذا ما نهى الناهي فلج به الهوى ... أصاخت إلى فلج بها الهجر
ويضرب الأمثلة لأنواع مختلفة من موسيقى النظم إلى أن يقول: ونوع ثالث هو ما كان كقول كثير:
وإني وتهيامي بعزة بعد ما ... تخليت مما بيننا وتخلت
لكالمرتجى ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للعقيل اضمحلت
ثم ذكر منه التنسيم مع الجمع والتشبيه المتعدد والمركب ( دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 127 -وما بعدها بتصرف. ) وملاءمة وضع الكلمة مع أختها في الشطرة، ثم ملاءمتها مع الشطرة الأخرى، ثم ملاءمة البيت مع البيت، ومع أبيات القصيدة، وهكذا حتى يتم النظام الهندسي الموسيقي للقصيدة، لأن الرجل مغرم في الاهتمام بالأجزاء إلا نادرًا، لاعتقاده أن استقامة الجزء، وملاءمته مع الآخر سيؤدي في النهاية إلى سلامة الإيقاع في القطع أو القصيدة( نظرية العلاقات: د. محمد نايل أحمد ص 48.). واهتمام الإمام بالجزئيات في النظم دعا بعض النقاد ( د. محمد غنيمي هلال في النقد الأدبي الحديث. ) أن يقصر عنايته التامة بالجزئية فحسب، ولم يهتم بالصورة الكلية في الأدب العربي ونقده. والحق أنه وجه اهتمامه للصورة الجزئية إلا نادرًا، وكان الدكتور نايل موفقًا حينما أثبت أن الإمام تناول الصورة الكلية في نقده قليلًا، نظريًّا وتطبيقيًّا، ومن أراد تفصيلًا فليرجع مشكورًا إلى كتابه دفعًا للإطالة (نظرية العلاقات: د. محمد نايل ص 44 وما بعدها.) . والذي أحب أن أذكره هنا ما أشار إليه الإمام من العناية بالصورة الكلية في قوله: "واعلم أن من الكلام، ما أنت ترى المزية في نظمه الحسن، الأجزاء من الصيغ تتلاحق، وينضم بعضها إلى بعض، حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لم تكبر شأن صاحبه ولا تقضي له بالحذق، والاستاذية، وسعة الذرع، وشدة المنة، حتى تستوفي القطعة وذلك ما كانت من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري ( دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 124.):
بلونا ضرائب من قد نرى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا
إلخ الأبيات ( دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 120) ، ومن الصور الكلية التى تناولها أيضًا قول ابن الرومي:
خجلت خدود الورد من تفضيله ... خجلًا توردها عليه شاهد
لم يخجل الورد المورد لونه ... إلا وناحله الفضيلة عاند
للنرجس الفضل المبين وإن أبي ... آبٍ وحاد عن الطريقة حائد
وفضل القضية أن هذا قائد ... زهر الرياض وأن هذا طارد
شتان ما بين اثنين هذا موعد ... بتسلب الدنيا وهذا واعد
ينهى النديم عن القبيح بلحظه ... وعلى المدامة والسماع مساعد
اطلب بعقلك في السماع سميه ... أبدًا فإنك لا محالة واحد
والورد إن فكرت في اسمه ... ما في الملاح له سمى واحد
هذي النجوم هي التي ربيتها ... بحيا السحاب كما يربى الوالد
فانظر إلى الأخوين من أدناهما ... شبهًا بوالده فذاك الماجد

أين الخدود من العيون نفاسة ... ورياسة لولا القياس الفاسد