لم أكن سوى مُسافرة عابرة في عيون الشمس و شاهدة يسكنها الحنين لوطن باتساع الكون, ذابت حدوده الواهية المتهاوية عند أول لقاء لي بها. كُتب لعدسةِ محجري أن تلتقط من بديع صنع البارئ ما ينوء عن وصفه كَلِم وما يفيض عنه كأسُ الحرفِ المترعةِ جودًا و بيانًا . أنى لريشةٍ و يدٍ لم تعتادا سوى تصوير فتات مشهد و بقايا خميلة ألوان أن تنقلا صورَ عرائش النور المتكئة على ضفاف بحر لا تخضع لججه لقوانين حنين المرافئ الراسية على قلوب أضناها الإنتظار. كان إبصاري لمندوحتين طُبِعتا على لوحةِ السّـماءِ و أخرى على الأرضِ وحيًا تلاقى فيهِ الزمانُ والمكانُ في مشهدين لا ينفكان روعةً وطباقًا في رحلَةِ أسفاري اللامتناهية نحو المغيب. ليس للشهود مثلي سوى الإختباء خلف صخرة تتبوأ مَنازِلَ المتلصصين كما فعَلتُ في يومي المشهود ذاك , و روايتي ليستْ إلا ما غَنِم بِهِ بَصـري و هو يَلتَقطُ صورَ أحلامٍ خِلتُها من رمالٍ و طريقًا كلما حـاولتُ أن أتهجى ملامحه غـرقتُ في أُتُونهِ.
تتسعُ قطيفةٌ زبرجديةٌ إلى ما وراءِ الأفقِ تترنم في زُرقةٍ متلونة بأطيافِ قيعانٍ تَتهادى أمواجُها بألفِ أُسطُورة خَفية ترتسم على أطرافها المذيلة بأسماء حواري لا يقرأ أسماءهم إلا ذوو الألباب , والرياح نواصي خيلٍ راكضة في مِضْمَارِ الرحيلِ. وحدها تِلك الممالك تَغوص في الأعماق, ارتأت الهُجوع في مَخْدعِها المائي لتذرَ مَعنى البقاء عَالِقًا في الأذهانِ.
حطوا رحالهم على شاطئه المسروج قمراً فضيًا و المرصع بِقوَاقِعِ خرائط مُدنهم الذاوية .استلقوا على ظهورهم يتنفسون الصعداء قبل أن يفتحوا أعينهم على مملكة السماء التي اغتسلت بالضياء, ثم تلاقت النظرات يغشاها الصمت المضني و التسليم للقدر. صغارهم يلاحقون فراشات صُبِغت أجنحتها خداعًا بأطلال حُصونِهم الشامخة , تجرب أقدامهم العدو على رِمالٍ ابيضت من كُرور وفُرور الأمل. يبنون قلاعهم التي تتهدم كلما صافحتها ألسنة الأمواج ولم يأسوا من معاودة البنيان.
خبيئةٌ نفوس كبارهم ! تتقاذهم الأقدار على مهلٍ فتحيلهم أسْرَى عَلى ضِفافها. هَاضت الحرب ألسِنتِهم فَلا يشكونَ بِلسان, ليس سوى خفقة جنان تشكو تباريح الحنين. كل يوم لهم وطن يمزقون أثوابه مع الفجر ويرحلون لآخر , و لفرط ترحالهم لم يبنوا خيمةً ولم يتخذوا دون الأرضِ مسجدا. أعينهم سابحة في اللاشيء , تصطف أمامهم مواسم الهجرة فيتخيرون منها أبكرها و أدناها منزلة للمغيب ثم يمتطون صهوتها. لا أثر لرحيلهم سوى رماد نارهم المحتطبة بأثرهم و صدى طفل باكٍ.
وحاسرةُ المُنى تهادت من بين غيوم لؤلؤية و لجج بحر غجرية تشخصُ ببصرها تشيع بقايا طيفهم , لينتهي مآل شمسٍ غرسًا بين دياجير طوقها الليلي. التقطت قواقعها المبثوثة هنا وهناك , و طوت بيديها ما تقادم من سرابيل معزوفةِ قيثارة بحرٍ تمادت في لحنها حتى طربت لها أشجار و أطيار . اتخذت مكانها المعتاد على مقعدها الحجري الهلالي الشكل , تشبثت بمغزلها تخيط به أردان معتقة الخيطان عل يومًا تُكتسى.