أرسلني القدر في مهمة استصعبها غيري في زمن المهمات داخل أغوار الشرايين والأعضاء المطلسمة، وفي قيعان البحار المعتمة وفي مدارات الأفلاك البعيدة . مهمة لم تكلّف السابقين أكثر من تمن السلاسل الحديدية والأقفال، بينما كلفت البعض سوطا أو خنجرا ذا بريق يذهب بالأبصار ، أو كلفتهم جهد حفر هوة في الرمال! أما أنا فمازلت أقوم كل يوم بتحديث قائمة المصروفات وأرحّلُ أعمدة اليومية للأستاذ كل أسبوع، فلا أستطيع إيقاف الزمن لحظة لأخذ نظرة عما تكبدت طوال الخمسة والثلاثين حزنا الفائتة في سبيل إنجاز المهمة العجيبة.
لم يزودني القدر بمال ولا بعتاد ولا بفريق مساعد؛ بل اكتفى بتلقيني كيف تنقش الحروف على وجه الزمن، وأعطاني خلال العقد الماضي محفظة وجدت بها حافظة نظارة وبضع أوراق بيض وقلما وحاسوبا محمولا، ودس في جيبي صكا مصرفيا قرأت عليه هذه العبارات :« ادفعوا لحامله ما يسدّ رمقه ليوم واحد فقط لاغير ! ». ولم أدر كيف وجدتني أسيرُ على الأشواك بهذا الفج ذي الحنوات المحفوفة بالمخاطر، تصفع الريح العاتية كل بوصة من جسدي، وتحمل إلى مسمعي نداءاتك المستاءة من القدر مذابة في أصداء متراقصة تتردد بين قنن الجبال.
سرتُ حتى ملّني السير وأدمت قدماي أنيابُ الحصى . آويت إلى جذع أيكة نطقت أوراقها بحكمة صبغت أجنحتها الأيام بما يوحي لرائيها بحلول الخريف... جعلت رأسي بين راحتيّ وأسلمت عقلي ليد التأمل، تحمله لعولم أغرب من دوامة الحيرة الرهيبة؛ لماذا يصورون لي فعل "كان" مصبوغا بالأبيض، ويلبسونه حللا وردية دائما ؟ ولماذا يكسرون همزة "إنّ" ويغمسونني في دم همزة ترتجف خوفا من حدّ ألف ينهال على جسمها المنكمش شكّا وتشريحا ؟ ولماذا يعلّقون "سوف" هناك بعيدا فوق سحب التمني دون أن يمدّوا سلّما ترقى درجاته نحو ذاك المكان، حيث يمكن أن أرى "كان" جذراً تتغذّى منه أوراق "إن" النامية إن أبصرت ما تحت الأمس، وإن تطلّعتُ لغد، أجد "سين" التسويف دانية في حيز الأمل؟ ولم الاستياء يزحف نحو سويعات الرجاء ما دامت الحياة سلسلة تتعاقب فيها اللحظات بما يصبه القدر فيها من حزن وفرح وألم ولذة ، وفزع وأمان، وقلق وارتياح، وظلام وضياء، وجوع وشبع، وريّ وظمإ، وكراهية وحب، ووحشة وأنس، وحرب وسلام؟
... وكأن شيئا ما تململ في المكان مؤذنا بتمزيق الوحدة من حولي مقتحما علي خلوتي في ذاك القفر . التفت في غير ذعر فوجدت التعب يقف واجما خلف جذع الأيكة يمد يده المنهكة نحوي وهو يلقي التحية في برود، نم بادرني قائلا: " أنت غريب في هذا المكان . ألست كذلك؟" لم أجب بل أبديت تجاهلي سؤاله. قال: " إنك لم تتعرف إلي قط . ولكني تعبت في اقتفاء أثر شخص يشبهك، وقد تكون هو . علمت منذ أربعين عاما أنه تقلد مهمة كان الناس قبله يختزلونها في كلمة تخرج من أفواههم جافة ؛ يخفون خلفها جهلهم وجبنهم ثم يصطنعون صمما كي لا يسمعوا دراً عليها ... ومازال البعض يعتقدون في جدوى التلفظ بغلظة تلك الكلمة في حفظ الشرف وصون العرض." ظللتُ أصغي لما يقول دون إبداء رأيي، فواصل كلامه " هل أنت ذاك الشخص أم أنني ضللت الطريق إلى مكانه؟" لم أجد بدا من الرد فأجبت محدّثي :" مهمتي كما وصفت ، وقد يكون تقلدها غيري كثير ..." قال: " الآن عرفت أي الناس أنت، وإني أود أن أرافقك !" فقلت: ومن قال لك إني بحاجة لمرافق؟" قال: "سأكون صديقا وفيا لك وستتعلم مني ما لم يسبق أن زودك به أحد ممن علموك !" قلت: إني لا أرفض عرضك . ولكن الناس يتحدثون عنك بغير ما فهمت من كلامك. قال: " دع الطريق يمحص تجربتك برفقتي وستتعلم أول الدروس!".
استأنفت السير، يرافقني التعب، وكان ملتحفا غلالة صمت لا يكاد حفيف أوراق الشجر المتناثرة على ذاك الطريق يخدش من تلابيبها شيئا... وكم من سؤال جال بخاطري ورمى بفكري لأبعاد كانت تتعدد كلما تمخض سؤال عن سؤال دون أن تهبّ نسمة لجواب على ذهني الحائر بين الرؤى. بينما ظلت أنياب الحصى تنهش جلد قدميّ؛ فيجيبانها بقطرة دم حرّى أو نتفة من نسيجهما الناضج، غادرتها الحياة بعد أن سلبتها حدة الحسّ كيما تبعدها عن مجال الألم . كان الوخز ينتابني منبها حسي بما لم تكن لي حيلة لتفاديه؛ والتعب سائر دون اكتراث بما أنا فيه. وكذلك قضينا عشية ذاك اليوم!
استرقتُ التفاتة صوب الشفق، حيث اصطبغت السماء باصفرار ينذر بقرب رحيل النهار علّي أنعم برشف السنا من أخر حزمة من خيوط الشمس الذهبية التي كانت تلاعب عيون زهرة تفرّدتْ بمنبت رمته العشوائية على صدر صخرة صلد، تجمّعت عليه حبيبات كونتْ حفنة من تراب، مدتْ بها تلك المتفرِّدة جذوها، تتلمس أسباب الحياة في تحدّ صارخٍ للوحشة بذاك المكان المقفر؛ لكن التعب تفوَّه ببضع كلمات طرقت مسمعي في صيغة سؤال ساخر، انتزعني من تأمُّلي على حين غرة قائلا :" أمازلت ترى الجمال في احتضار النهار؟ " أجبت بتلقائية : " وفي احتضار الليل أيضا !". وما لبث مرافقي أن غير لهجته وسحنة ملامحه، وقال:" أو تبصر جيدا إن واصلت السير ؟ أقصد وأنت تمشي ليلا ." لم أجب بل فضلت أن أجدّ لأجتاز أصعب الحنوات التواءا . غير أن التعب اقترح بصيغة المصرّ أن أسير خلفه، وادعى أنني إن تقدمته علّق الثقل على كتف الريح والخوف والوهن على جناح الظلمة المحيطة،وإذن لن يكون السير إلا في بطء متزايد سيرهقني فأضطر للتوقف حتى أستريح! لم تقنعني حجة التعب فتمسكت بعزمي مواصلة السير أتقدّمه، لعلمي أن الليلة ستكون مقمرة، ولن أحفل بظلمة يهلهلها مشط اللجين الوضّاء. أما الريح فكانت تشدّ أزري بلطيف النسمات المسائية المنعشة، وتهمس في أذني كلاما يذكي الحماس في نفسي لنبذ ما كان عالقا بتجاويف الظن من تردد.
وانتبهت حين لبست الأشياء ثوبها الليلي، على صوت أشبه ما يكون بما يصدر من خروف يجتر مخزون جوفه من الكلأ ؛ فإذا هو التعب يلوك شيئا ما... وما لبث أن نحنح قائلا : " أنا أقاوم الجوع بما أمضغ !" قلت : " أوتجوع أنت؟" قال:" بلى ! وإن طعامي من دفء الجهود، وشرابي من الإرادة. وإن وجدت طبقا من القدرة يكون أشهى وألذّ..." قلت :" ومن أين تحصل على كل هذا ؟" قال:" من الأجساد وأحيانا من النفوس . وإني اعتدت منذ سنوات جني طعامي من النفوس لأنها غدتْ أقرب ما تطاله يدي هذه الأيام ... غير أنني لا أستسيغ طعاما من مثل نفسك. فهو يشبه التين الشوكي قبل ينعه؛ صعب جنيه، ذو طعم حمضي، وعسير الهضم. وقد نصحني صديقي الطبيب باجتنابه. " قلت :" ومن صديقك الطبيب؟" قال :"الأرق". ومضى يلوك ما كان بين أضراسه، بينما كانت قدماه تلتمسان الخطو في خلف مواطئ قدميّ...
ولما توسط وجه البدر صحن الليل، لفّني سكون مريب . لم أعد أسمع صوت أقدام التعب ولا تهجّد الكائنات الذي كان يشق كبد الصمت لحظة بعد أخرى... هنالك بدأت أترقب ما قد يعقب اللحظة؛ فراعني فجأة اختفاء رفيقي التعب، ووجدتني أمشي طريقي وحيدا مثلما اعتدت أن أسير ...
يا الله ! حتى التعب ملّ رفقتي. أم لعله انهزم كيما لا يجابه ما ينتظرني من خطوب وأهوال؟! فما زال الطريق يتثاءب فيمتدّ طولاً، والدراية بالمسالك ماتزال طفلة من سذاجتها وفضولها تقطر الرهبة في كف الألغاز المحيرة...
---------------------------------------------------------- (يتبع)