أراقبهُ كل صباح ، يتهادى إليها ، وتتهادى إليه ، فيطوفان في دوائر صغيرة ، حول أسلاك الكهرباء ، دوائرٌ تحمل في داخلها أبلغ معاني الأُلفه ، والأُنس .. والحُب ، دوائر صغيرة حول سلك ، كذا الموتور ، وكأن هذا العصفور .. يشحن طاقة الأمل ، طاقة الحرية ، طاقة الإبداع ، ويملؤ قلبه بعبق الصباح الباكر ، وتغريد رفيقته .. لينطلق بعدها .. يسابق الريح .. مُغرّدا ، فرِحاً ، يُلملمُ رزقَه ، ذاك الذي بحجم كف اليد .. لكنه غلب دنيا البشر وما فيها .. وغلب ذلك الآدمي المهزوم ، ضعيف البصر ، الذي يراقبه كل صباح .. وفي يده فنجان القهوه ربما العشرين .. وسيجارة من أردأ أنواع السجائر .. بعد ليلة طويلة لم يغض له فيها جفن ، فلم يستطع أن يكمل ولو دائرة واحدة في حياته .. فقط .. إستطاع أن يعوج ظهره في عمر الثلاثين .. شائبا قبل المشيب .. ويكتب شعرا ً لا يقرؤه أحد .. ويقرأ كتبا باللغة العربية التي لما يحترمها أصحابها اليوم ! ويغترب في كل مكان سنوات وسنوات ليعود أسوأ مما كان .. يرتشف سُمّه ، ودخانه .. وهمومه .. ويراقب .. هه !
عصفور .. نعم .. بحجم كف اليد .. لكنه لم يَحْتَجْ إلى سَتْر عَورته كالبشر .. لأنها لا تتدلّى منه .. ولا يَمُدّها إلى الشَّر أو الحَرَام ، أو لها يعيش .. عصفور .. بيتُهُ .. كومَة قشٍّ على عامود نور صَدِء .. قد يذهب مع دلو ماء ٍقذر ترميه إحداهن من شرفتها .. أو يشعله " عقب سيجارة " يرميه أحدهم من شباكه ! أو يرمي به عامل الصيانة عند توصيله لأحد الكابلات .. كان له نصيب من كل ذلك في السابق .. وكنت أراقبه ورفيقته .. كلما هُدم لهما عشا ً ، دارا في دوائر .. وصنعا غيره من جديد .. بلا كلل أو ملل .. فقط .. يغدوا كلا منهما ويروح وفي منقاره عود صغير من القش .. يتحدى به كل المصاعب .. معلنا به أنه سيظل .. يأبى إلا أن يعيش .. ويملؤ صدَره بعبق الحياة .. ويملؤ صَمتَها تغريدُه .
عصفور .. يؤكد الفيزيائيون " الغلابة " أنه لا تصعقه الكهرباء التي يقف على أسلاكها ، لأنه لا يلمس الأرض ! ولا تكتمل الدائرة الكهربائية إلا إذا لمس الأرض .. لم يفهموا الواقع أبدا ً .. لم يفهموا أن ذلك المخلوق الذي يقف على أي شيء دون أن يتأذى أو يموت .. إنما هو كذلك ، لا بسبب جسمه الصغير الذي لا يلمس الأرض .. وإنما بسبب روحه .. روحه التي هي ليست أرضية .. ولا تمت لأهل الأرض .. وشهواتهم .. وشرورهم .. بأي صلة !
عصفور .. هو أكثر الكائنات سفادا ً .. وغزلا ً لرفيقته .. وأقصرها عمرا ً.. لكنه يعيش عمرَه كله ، بسعادة .. يغني وقتما شاء .. وأينما شاء .. لا يحتاج إلى ورقه تثبت أنه حيّ ، أو أخرى تثبت بها رفيقته أنه ميت ! ، لا يحتاج إلى ورقة ليعمل ، أو يسافر ، أو ليظهر بمظهر الحكيم العارف ، لا يحتاج إلى فتاوى ، ولا إلى شيوخ يحرمون ما أحل الله ، ويحددون له السماء والأرض ، أين يذهب ، وكم متر يطير .. ولا يستقي معرفته بالوجود من شاشات ولا مربعات تصور له كل شيء على غير حقيقته ، وتؤكد له أن السماء اليوم مغلقه ، وأن الطريق مسدود ، وأن الفضاء يضيق ، والخطر يداهمه ورفيقته .. لا يحتاج إلى الخوف .. ليسكن ، او إلى الإندفاع والتهور ليسعى .. لا ينتمي إلى حزب ، أو جماعه ، أو فصيل ، أو مجموعة من الطيور تحسب نفسها من ذات الريش الملون ، والمميز عن البقية ! فيحق لها وحدها أن تحلق وأن تقود السِّرب وأن تجني الرزق وتقسمه على هواها .. وأن تختار أولا .. أجمل الرفيقات !
عصفور .. فقط .. يعيش .. ويموت .. بسعادة ..
محمد إسماعيل سلامه
الأحد 3 مارس 2013