أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: بوح 1

  1. #1
    الصورة الرمزية مامون احمد مصطفى أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2016
    المشاركات : 60
    المواضيع : 35
    الردود : 60
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي بوح 1

    بَوْح

    " 1 "


    حين دعوت الليل ليستريح على صدري، ويلقي بظلمته الموغلة بالمجهول والغموض بأعماق ليل عمري وعتمة دربي، ضحك، بسخرية واستهزاء، واخرج من أمعائه المغطاة ببياض ناصع يذهل العين ويخطف البصر لسانا متقدا بفوهات بركانية تسيل من أحشائه إلى أحشائه، واندفع يشكل ملامح الساعات ببريق جهنمي الطلعة، وسالت منه روائح نار زكية، روائح حشائش دستها في طفولة عمر تقضى بين أحضان البيارات والجبال والسهول والربى.

    قال لي:

    صدرك صغير، غير مكتمل النمو، لا يتسع لفراش السهل، بل لا يتسع لبيت نمل في جبل، ولا يتسع لجذر نرجسة تسكن ربوة من ربى الأرض التي تعرفك ولا تعرفها، وأنا، طويل، ممتد، من حد الكون، إلى حد الكون، كبير، من حد الأرض، إلى حد السماوات، ثقيل، لا تسعني الأرض، ولا تسعني الشمس، والقمر أعلن عجزه منذ الأزل، وصدرك صغير صغير، تنحره حبة عتمة، وتذبحه حبة ظلمة.

    قلت:

    في صدري عوالم مفتوحة الآفاق والآماد، تترامى أطرافها إلى اللانهاية، وتمتد جذورها إلى أعماق لم تصلها عتمتك أبدا، ولم تغزوها ظلمتك، وعلى صدري جلد مغطى بشعر، غابة تغص بالغنى، تشعر بالبرد، تنتفض حرا، تتنسم رحيق النسيم المغادر ثرى الأرض لتؤصله بذاتها، في صدري تسكن حياة، تمور بها مياه الانفعال، وتتلاطم أمواج الحب، وتسجر بالغضب المشتعل، وتنساب جداول الرضى بين أروقة المجهول، وتزهر براعم عطف، تكبر، تنمو، تتحول دغلا متشابك الأغصان، كثيف الخضرة، ثخين الجذوع، تتفجر ينابيع الحنان، لتروي الدغل، لتمنحه البقاء، الثبات، الرسوخ، المتانة.

    تفيض أبحر الكراهية، وتعلو أمواج الحقد، تتشكل اعاصيرا جارفة، تضرب جنبات النفس والصدر، يكبر شعر الصدر، ويعلو الجلد، يسمك، هذا بعض من عوالم تسكن صدري، بعض قليل، قلة ظلامك أمام وهج شمس دافئة.

    قال:

    مسكين أنت، تستحق شفقة الديدان، هل تعلم معنى الرهبة؟ معنى الوحشة؟ معنى المجهول؟ معنى العمى؟ معنى السواد؟ ومعان أخرى تتلفع بصفاتي؟ حين أخيم، يسدل الستار على الأشياء والأمكنة، على الآماد والآفاق، على الشواطىء والكثبان، على الصحارى والأنهار والجداول، كلها تضيع في عتمتي، تختفي في ظلامي، يصبح لها شكلا آخر، ومعنى آخر، فالصحراء التي تغتسل بحمام شمس، ليست هي الصحراء التي تنخرها برودة ظلامي، ليست هي التي يتجرؤ الإنسان عليها، حين أخيم، يظهر جبن الإنسان أمامي، يتجلى، دون خجل أو حياء، حين تسقط دموع تيهه على رملي الناعم، لتذوي، تتلاشى، في حين ينمو الرعب في جوفه كصبار وحشي الشوك، يخزه في قلبه، في روحه، فتراه يسقط مكوما على نفسه، عاجز عن الحركة، ثابت بالرعب مكانه، بين طيات عتمتي.

    قلت:

    ولكن حين تشرق الشمس، ويتنفس الصبح، تراه ينطلق محلقا بين الأغصان، وعلى قمم الجبال، كنسمة عشق، وروح شهيد، يناغي الأزهار، ويرفع الحجر عن الأعشاب المخضوضرة، كقصيدة شعر، ترن حروفها بأعماق أبي القاسم الشابي، الذي قاوم حمى المرض، ووجع الليل، بالغناء الرقيق للطبيعة والجبال، وكأن تونس الخضراء أصبحت حية فقط بكلماته، هل زرت تونس يوما، لو زرتها لعرفت أنها بديوان الشابي، أجمل منها بالحقيقة، لأنه استطاع أن يعيد بناء خضرتها من قلبه المُدَمًى وروحه المرهقة، لكنه نسيك أنت، وتجاوزك، كما يتجاوز العمر لحظات الظلام وهو يمسك بين أحداقه بشعاع شمس لا تطفأ.

    هناك وفي الأرض الممتدة من نور الشمس إلى نور الغناء والمرح، تكبر الأشياء وتتجلى المكونات، تنهار عوالم، وتنهض عوالم، تتلاشى آفاق وتنفتح آفاق، يصعد الدَوًريُ ليوازي الغراب، وتخرج الأفعى وهي تتلع برأسها، تنضنض بلسانها، تبحث عن فأر أو جرذ، تسخن الأرض وتغلي الدماء، يقع في روع الموت نهايات، ويبرز من قلب العدم بدايات.

    قال لي:-

    جاهل أنت، بل ومغرق بغرور الجهل، لأنك ما زلت تحبو على أربع، تماما كما يحبو الجنون بأعماق خلايا العقل المكسور، الكسيح، أنت والغباء صنوان متقابلان.

    أتدري ما الفرق بين الإنسان المنتشر بالنور، وبين الإنسان المكور في الظلمة، هو نفس الفرق الكامن بين من يصول ويجول في لحظات الاستئناس بالوجود العارم للناس والأشياء المحيطة بذاته، وبين الإنسان المعرى أمام حقيقية ذاته وكينونته.

    فالإنسان بين الناس، وتحت شعاع الشمس، وبين خيوط النور والضوء، وبين هدير الحياة والحركة، هو ليس الإنسان الذي تلفه طبقات الظلام والعتمة في جبل مهجور أو صحراء خالية.

    هناك تبدأ الغلالات بالتمزق والتكشف، قسرا وقهرا وجبرا، ليتهاوى قناع الذات ويتهتك، ولتخرج النفس بأبهى وأنقى صورها المتماسكة مع الحقيقة والجبن، هناك تسيل زوابع الأشياء التي تختفي في الصدور تحت ضوء الشمس ونورها.

    انظر معي إلى ذاك الرجل المتروك على قمة جبل مهجور، وقد توغلت الظلمة فيه إلى حد الهوس واليقين، أتراه كيف يرتجف، خوفا ورعبا، هل تسمع دقات قلبه وهي ترج العظام وتخلخل الجمجمة، لو كنت مثلي تستطيع الانتشار بداخله، لعرفت كيف يمكن لصرخة مخفية في حنجرة يشلها الخوف، أن تمزق الكون وتفتت الوجود، انظر جيدا إلى شعر صدره الممتد كدغل متشابك، كيف ينتصب كالإبر والدبابيس، حتى يبدو وكأنه يود أن يخز الجبل فيؤلمه.

    هل ترى الدموع المنهلة كمطر لا يرحم، وهل ترى النظرة الزائغة الحيرى، اعلم بأنك لا تستطيع أن تدرك ذلك، لا تستطيع أن تفهم ذلك، ولو كنت قادرا على مثل هذا، لما كانت عتمتي كابوسا يمس تلابيب دماغك، وتنسكب في رؤاك كسواد عقيم لا يحمل غير الرعب والجنون.

    أنت الإنسان، ذات الإنسان، الذي ولد ليغذي ويتغذى بالغرور والجهل والغباء، بالتخفي أمام اشراقة الشمس، ليرى نفسه، وليقدم نفسه للإنسان كما يحب ويشتهي، والحقيقة، كل الحقيقة، بان الدودة الراقدة في جسدك، والتي تنتظر هبوطك للقبر، لتسبح في كل مكوناتك داخل العتمة، تملك من الرؤى والبصيرة أضعاف أضعاف ما تملك أنت.


    مأمون احمد مصطفى
    فلسطين – مخيم طول كرم
    النرويج – 1- 06- 2007

  2. #2
    الصورة الرمزية نسيمة الذيب قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 308
    المواضيع : 18
    الردود : 308
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    راقني هذا البوح الرقيق الراقي أستاذ مأمون

  3. #3
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,131
    المواضيع : 318
    الردود : 21131
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي


    فالإنسان بين الناس، وتحت شعاع الشمس، وبين خيوط النور والضوء،
    وبين هدير الحياة والحركة، هو ليس الإنسان الذي تلفه طبقات
    الظلام والعتمة في جبل مهجور أو صحراء خالية.

    أنت الإنسان، ذات الإنسان، الذي ولد ليغذي ويتغذى بالغرور والجهل والغباء
    بالتخفي أمام اشراقة الشمس، ليرى نفسه، وليقدم نفسه للإنسان كما يحب ويشتهي.

    في فضاءات بوحك تحلق الرؤى والصور ، في حوارية جميلة وبراعة تعبيرية بأسلوب تصويري
    وإن كنت مازلت لم استطع أن أصل إلى المعنى الكامل .. فلما نجعل الظلمة تتغلب على الإشراق والنور
    أتمنى أن تشرح فكرتك أكثر
    وأهلا بك وبقلمك.نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #4
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Feb 2015
    المشاركات : 1,269
    المواضيع : 38
    الردود : 1269
    المعدل اليومي : 0.38

    افتراضي

    قال:

    مسكين أنت، تستحق شفقة الديدان، هل تعلم معنى الرهبة؟ معنى الوحشة؟ معنى المجهول؟ معنى العمى؟ معنى السواد؟ ومعان أخرى تتلفع بصفاتي؟



    بوح فلسفي عميق الدلالة ..هل تفتح أبواب السعادة له بعد لأْي ؟

    مهما كان الشقاء طويلا ملحا ، ستكون السعادة سريعة خاطفة ..

    فائق احترامي لشخصك الكريم ..

    تحاياي
    كـلُّ الـشموس تـجمّعتْ فـي فُـلْكهِ
    ويَرانِيَ الشمسَ الوَحيدةَ في سَماهْ

  5. #5
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    لليل حديث تنصت له الروح فيتوغل بها وتحلق به الى فضاءات من التناقض والشفافية لنرى معالم نفوسنا بعيون سكنها الشوق والألم ممتزجا بفرحة لم تكتمل وأنصاف حقائق قبلنا بها ذات أمل لحلم مؤجل
    لبوحك بحة تشي بالحزن الرابض تحت الحروف
    فلسفة عميقة بحرف مكلوم
    أهلا بك في واحة الخير
    بوركت وكل التقدير

  6. #6

  7. #7
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    نصّ رائع بأفكاره وأسلوبه!
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  8. #8
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    أسلوب جميل ولغة طيبة وأداء تعبيري شائق جندها الكاتب في طرح فلسفته لتصل للمتلقي بمعانيها وغاياتها الدقيقة

    دمت بخير أيها الكريم
    تحيتي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  9. #9
    ناقدة وشاعرة
    تاريخ التسجيل : Jun 2013
    الدولة : في المغترب
    المشاركات : 1,257
    المواضيع : 62
    الردود : 1257
    المعدل اليومي : 0.32

    افتراضي

    التجربة التي صقلت النفس وحفزت العقل هي الدافع وراء هذا البوح، وهو خلاصة، ومحاولة توصيل وتواصل ،ومحاولة لقراءة النفس البشرية عندما ترسم الكلمات مرآها على مرآة اللغة .
    من مثل هذا الوعي الذي يمزج الذاتي بالموضوعي في شكل حر من التعبير ، هو مجرد (بوح ) لا تقيده شروط الجنس الأدبي يولد (الفن من أجل الفلسفة) الذي تنضج مع خبرته اللغة لتصبح وسيلة تعبير حرة.

المواضيع المتشابهه

  1. إختناق بوح !!
    بواسطة الأميرة في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 10-08-2006, 07:08 AM
  2. لِمَ هجرتُ الواحة ! بوحٌ سريّ جداً !
    بواسطة صدى الصمت في المنتدى الروَاقُ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 09-04-2005, 09:53 PM
  3. بعضاً من بوح خالد الغانم ..
    بواسطة يوسف الحربي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 30-12-2003, 10:59 AM
  4. بوح الروح ... الحب الذي إرتشفته
    بواسطة النجم الحزين في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 13-07-2003, 02:31 PM
  5. بوح مكحول بالكتمان
    بواسطة خلود علي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 11-06-2003, 12:30 PM