متليلي صيف 1957
تفاجأت عيشة برؤية زوجها جلول يلم ملابسه وبعض حاجياته ويضعها في كيس , في عجلة من أمره . ما الذي دهاه في هذه الساعة المتأخّرة من الليل عندما نام جميع من في الدار , ولم يمر الّا بعض أيام على زواجهما , ومكوثها معه في منزل عائلته . سألته وهي لا تزال في الفراش تفرك عينيها : ماذا تفعل ؟ أين أنت ذاهب في هذا الوقت ؟ لم يجبها , وواصل جمع أغراضه, وربط الكيس , وكأنّه لم يسمعها . قامت من فراشها مسرعة ووقفت أمامه , وكأنّه كان ينتظر هذه اللحظة , أمسك أعلى ذراعيها بيديه , وقابلها بكل وجهه , وبلهجة جادّة قال لها : لقد استدعوني الإخوة في جبهة التحرير , ووجب علي تلبية الدّعوة . ثم اقترب بوجهه أكثر , وقال هامسا بجديّة أكبر : لو أرادني الله للشهادة , وعرفت أنّني سأستشهد حتما , سأرسل لكِ إشعارا بشهادتي , يأتيك مرسل بأي شيء من أغراضي يُخبرك أنّني نلت الشهادة , وان لم يصلك أي شيء اعرفي وتيقّني أنّني حي , وانتظري عودتي . لم تنطق عيشة بكلمة وظلّت واجمة . نزل سريعا وأسرعت هي إلى شباك السّطح حيث توجد غرفة النوم الخاصة بهما . أطلّت فرأت شخصا ما ينتظره , ثم مشى معه ودخلا واحة النخيل التي تفصل البيت عن الجبل , وغابا في الظلام الدّامس الذي يسبق الفجر .
صيف 1962
عيشة في منزل عائلتها تجلس وحيدة في إحدى الغرف , دخلت عليها أمّها وبادرتها بالقول : كل الناس خرجت تحتفل بالإستقلال وأنتِ تجلسين وحيدة . لم تتكلّم وبقيت مطرقة برأسها كأنّها منشغلة التّفكير بأمر أهمّها , وواصلت الأم حديثها : لا تحزني على جلول , إنّه شهيد , والشهيد لا نحزن عليه بل نفرح ونزغرد . هنا انتفضت عيشة وقالت بكلام يشبه الصراخ : جلول لم يمت , جلول حي , لم يصلني منه أي شيء يخبرني باستشهاده , أنا متأكدّة أنّه حي . لم تفهم الأم من كلامها أي شيء حتّى أخبرتها بما قاله لها زوجها ليلة مغادرته , وشرحت لها الأمر جيّدا , وفهمته .
1977
جاءت الأم إلى عيشة غاضبة : لقد جاء جارنا رابح يطلبك للزّواج , يجب أن تخرجي من أوهامك وترضين بمكتوب الله , زوجك جلول مات , كل المجاهدين رجعوا , وجلول لم يظهر أثره , قصّتك غريبة , الحي هو الذي يُرسل إشعارا بحياته وليس العكس , كيف لميّت أن يقول أنّني ميّت . لقد انتهت الثورة وأخذنا الإستقلال , أنتِ الآن زوجة شهيد . ثم تكلّمت بحنو وعطف : أنتِ الآن تكبرين يا ابنتي وفرص زواجك ستقل ونحن سنموت ولن نستمر معك طول الدنيا , وأنا أخاف عليك أن تبقي وحيدة في هذا الزمن الصعب . مع الضّغط الشّديد وكثرة الإلحاح , رضخت عيشة وتزوّجت رابح جارها . كمن فقد روحه , انتقلت إلى بيت زوجها وهي هيكل إنسان , يفقد الإنسان روحه عندما يتنازل مرغما عن قناعاته وعقيدته .
1979 ( بعد عامين )
عاد جلول , دخل البلدة في موكب أعادها إلى احتفالات الإستقلال . خرج الأهالي فرحين بمقدمه ومتعجّبين من عودته . لم تتغيّر ملامحه رغم تقدّمه في العمر , وحكى للجميع قصّته : خرج مع الثوار إلى ليبيا , وتعرّض إلى إصابة في رأسه أفقدته ذاكرته , تزوّج هناك , ثمّ تعرّض إلى إصابة أخرى في رأسه حين سقط من مكان مرتفع أثناء عمله في البناء , مكث مدّة في المستشفى , أفاق وقد عادت ذاكرته , وعاد إلى بلدته . سأل عن زوجته عائشة , أخبروه أنّها تزوّجت من رابح جارها . انتفض حين سمع اسم زوجها غاضبا أكثر من غضبه على زواجها , وصرخ : كيف تتزوّج من رابح ؟ وذكر أنّه عدوّه اللذوذ , أعمته غيرته منه وحقده عليه حتّى عن وطنه وأهله , فقد أفشى خبر التحاقه بجبهة التّحرير إلى المستعمر الفرنسي , حتّى شغّلوه معهم , وكلّف المجاهدون جلول بتصفيته , وحين وجده وعرف أنّه قادم اليه هرب منه . ذهبت عيشة مسرعة إلى أمّها ونسيت أنّها متزوّجة من رجل آخر , قالت لها بنبرة تجمع بين الفرحة والأسف : لقد عاد جلول , لماذا لم تُصدّقوني حين قلت لكم أنّه سيعود ؟ لقد أخبرتكم جميعا أنّني متأكّدة من حياته . وصلت المسألة إلى القضاء , ورأى القاضي أن يتم تطليقها من الإثنين , جلول ورابح . وعادت عيشة تعيش في منزل عائلتها .
1985
تعود الأم تلح من جديد على عيشة أن تتزوّج قريبها الأرمل مسعود , لم يعد عند عيشة أي قوّة للرفض أو القبول , فقدت أحاسيسها وانهارت معنويّاتها , ومع زواجها الجديد فقدت أعصابها .
2018
عيشة امرأة مجنونة , تعيش وحيدة في بيت مهجور , تمشي بشعر منكوش تكلّم نفسها , تبكي وتضحك وتقول : أنا صادقة , أنا متأكّدة , جلول لم يمت , جلول حي .
تمت
-----------
- متليلي : مدينة في جنوب الجزائر شهدت ثورة الشعانبة , تابعة لولاية ( محافظة ) غرداية ( 600 كلم جنوب العاصمة الجزائر )
- مستندة عن قصة حقيقية مع بعض التصرّف
- شاركت بها في المسابقة الوطنية التي نظمتها وزارة المجاهدين في ذكرى اندلاع الثورة التحريرية الكبرى 1 نوفمبر 1954