مدخل
كل حي يصبح ميتا حين يصبح الزمن لديه مجرد عكاز يتكئ عليه خوفا من السقوط
ذات ليل بعيد مضى يحتسب فيه ساعات من عمره الفائت
سألته عنه، فأجاب :مازلت أتنفس.
سألته: أيعقل أن تتنفس فقط لتطيل البقاء أكثر؟
فابتسم ولم يجب
ومضى الزمن يجر معه بعضا مني وبعضا منه، مضى يجر معه بعضا من ذكريات حينا القديم،أختي تلعب بدميتها في شرود ،وأنا أرسم في الفراغ قوس قزح،أخي يمحي ما رسمت في يقظة سرعان ما تنتهي بصوت أمي الناهي:ألن تكفوا عن اللعب !!
وفقيه الحي يردد:
الله أكبر الله أكبر
أبي يمر من حديقة منزلنا الخالية من الزهور ،فوق الطين العائم تحت بعض الماء يحاول أن لا يفقد توازنه وهو يخطو من حجر لأخر كي لا يعلق الطين بحذائه ،يدس في جيب سترته وردة حمراء أهديتها له في ميلاده الخمسين قبل وفاة الوردة بعشرين سنة ،يعبر سياج المنزل نحو الجامع الكبير
وفقيه الحي يردد:
حي على الصلاة حي على الصلاة
وأطفال الحي يلعبون في هدوء،ونسوة الحي يتهامسون ،يضحكون
وفقيه الحي يردد :
حي على الفلاح حي على الفلاح
وتكثر الأرجل الحائرة على عتبة مسجدنا،سلمى تبتسم لقوس قزح ،تقتطع منه لونا لتطعم به أختها الصغرى
تبتسم أختها في فرح طفولي ،وتختفي كما اختفى قوس قزح من قبل.
وفقيه حينا يردد:
قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة
يعبر أبي سياج منزلنا و يسألنا في غضب:ألن تدخلوا الجامع !!
يضع حذائه بين يديه ويخطو بيمينه للداخل،وأنا مازلت أرسم قوس قزح،وما زال أخي يمحي ما رسمت ،وما زالت أمي تصرخ فينا في ملل ،وسلمى مازلت تمد يدها نحو قوس قزح الشبه المختفي في الفراغ، وأختها تعاند لأجل البقاء، ونسوة الحي خففن من ضحكاتهن ،وفقيه الحي يردد:
قد قامت الفلاح قد قامت الفلاح
أسرع فيسرع خلف الجميع موسم من حصاد لن يقطف
وصوت الفقيه يصاحبني:
الله أكبر الله لأكبر
لا حول ولا قوة إلا بالله
فيدخل الحي في سيمفونية صمت تطول لدقائق عدة، قبل أن يتغلب الضجيج عليها من جديد
سلمى تسألني في شبه همس:
أيمكنني أن أصلي معك في المرة المقبلة؟
أبتسم لها فتبتسم بالمثل،تجلس على إحدى الدرجات تراقبك ،وأنت تجلس على كرسي مصنوع من خشب مهترئ،تراقب كل ما يحدث أمامك كـ هي
تسألك أمي: أأتيك بكأس شاي؟
تبتسم ،فأكف عن اللعب،فليس هناك أجمل من كأس شاي مع قطعة حلوى مذاقها كـ أمي ..
تحضر أمي معها صينية الشاي ،تجلس بجانبك على كرسي خشبي فقد أحد قوائمه،فأفقدها القدرة على الجلوس بهدوء عليه ،تضل تراقبه بين الحين والحين مخافة السقوط
تبتسم أنتَ وابتسم معك ،نهزها فتصرخ بنا أن نكف على فعل ذلك فنكف،سلمى تبتسم ببلاهة ،تمد يدها باتجاه أمي فتبعدها ،فتمد يدها نحوك تخيفك بأصابعها النحيلة ،تدعي الخوف منها وتظل تخيف الجميع حتى هي،
استغرب منها كيف تجعل لها لحظات خاصة بها حتى عندما نكف عن رؤيتها.
تضحك سلمى بصوت مسموع يوقظ قطتنا السوداء النائمة على سياج المنزل، نصفها معلق في الفراغ ونصفها تلصقه بالسياج،تنضر نحونا في مللـ ،تجر جسدها وتجلس عند قدم أمي ،ترمقها أمي بتلك النظرة تخيفها بها كما تفعل بنا سلمى، فتمضي من أمامها لتجلس عند قدميك،تقدم لها قطعة حلوى، تلعقها وتبتعد عنها. أذكرك أن القطط لم تعد تأكل الحلوى وقطع الخبز اليابس .
فتسألني بصوت حزين:ومتى كفوا عن فعل ذلك ؟
أجيبك :مند كففنا عن أكله الخبز اليابس بالمثل
تسألك أمي بهمس:هل سترحل غدا ؟؟
ترقب الفراغ وعيون سلمى العالقة بك،تمسك كأس الشاي بيدك وتبتعد
تسألني أمي في حزن:أأخطأت بالسؤال؟
أربت على كتفها ،أمسك بيدها أقبلها وأمضي خلفك،عيونك مازالت تراقب الفراغ..
أتذكر قبل رحيلك بزمن
سألتك إن كنت ستكون بخير؟
أجبتني ستكون كذلك فالحياة رحلة بحث وعليك أن تبحث عما حسبت أنه ضاع منك،
وفي أعماقي كنت أذرك أنك لن تكون بخير.
فليس لكل رحيل مسافات
ولا لكل واقف ساقان.
مخرج
كل ميت يصبح حيا حين نطيل التفكير فيه في السر والعلن