مقاهي المدينة
هل الوطن مكان اجتازت انفاسنا في مراحل العمر دروبه ؟ ..أم هو ذاكرة يطوف حولها رنين تلك الأمكنة ؟
هي الذاكرة خلية جمعت عاملات التذكر عسلها من رحيق زهور تنوعت فيها الروائح والألوان بتعدد الأمكنة في حقول الوطن .
العودة بالذاكرة لأيام تخطى الزمن عتباتها كـ ارتماء المتعبين من قيظ النهار في أنفاس الليل الرطبة .
هي الأيام نستعيد لحظاتها عندما نتكيء بكوع التذكر على وسادة الاسترجاع حد تلاشي الشعور بالزمن الآني ..
ها أنا استرجع تلك الأيام وأتجمل بذكرياتها كالرجل الأشيب يعيد بصبغة السواد بياض شبابه
أدفع ثمن تذكرة العودة لأيام مدينتي دمعة حنين ..مدينتي المنورة , المجدلة شوارعها بالحب , المضيء على هامتها طوق الحنان , تلك مدينتي قبل أن تسقط أمكنتها في أشداق الفقد الحضاري , تلك مدينتي التي لم يتبق من ملامحها سوى تذكاراً تتشبث به جدران الذاكرة , تذكاراً أضمه لجوانحي كلما دهمها سيل الشعور بالغربة ..شوارع مدينتي الآن تزدحم بمحلات تفتقد الهوية ومقاهي ذات صبغة غربية. حتى العابرين أرصفتها تلونت أثوابهم وتلوثت نفوسهم
نتأبط الحنين ونعود إلى الماضي وطريق قربان المتجه جنوباً كالنهر يشق مزارع النخيل , إلى مقاهي من بين النخل والشجر تطل على ذاك الشارع العبق بما تفوح به تلك البساتين .
تلك المقاهي كانت ملتقى شباب المدينة ومتنفسهم , أرواحهم أستمدت من النخل شموخه , وأحلامهم أخذت من أغصان الشجر تهدلها .. نرتادها عصر كل نهار وتستقبلنا فيروز بأغانيها ودبكاتها , وعندما تغيب فيروز نجد الشحرورة تهتف لنا بصوتها المتيقظ على
مواويل الشوق والشجن ..
حين يجن الليل يصحو عبق النخيل وشذا الورد المحتضن تلك المقاهي ليعانق صوت أم كلثوم وهو يسكب ذاته في مسامع المرتادين آهة واشتياقا , في مداه يطوي موج الصوت الكلثومي حديث المتحاورين ويُغرق الجميع في متعة الانصات عمقا ..
تلك كانت مقاهي المدينة قبل أن يجتاحها هكسوس هذا الزمن وسيوفهم المسلولة من غمد ممنوع ..حرام ..............
يوسف الحربي