اقترب منه و بدأ يهمس في أذنيه :
- لعلك لم تعرف بعد كيف تطوي صفحة الماضي ، هل أدلك على طريق أفضل من تلك التي ما زالت تراود أفكارك ، فأنا هنا لهذا الغرض ، إذا كنت موافقًا على ما سأقوله لك فقط أشر لي بيدك تلك التي لم تتقطع شرايينها عند آخر محاولة فاشلة قمت بها لوضع حد لمعضلة وجودك فوق هذا الكوكب.
توقف قليلًا ليرى ردة فعله لكنه عاد وتابع كلامه:
- نعم وجودك معضلة يحتاج إلى حل سريع ، يحتاج إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة لتكييف وضع هذا الكوكب مع إشكالية وجودك ، فالهواء الذي تستنشقه يكلفهم كثيرًا ، وها أنت ترى أن ثقب الأوزون لم يعد يحتمل كل هذا الهراء والصياح وهم يعتبرون أنك ومن هم على شاكلتك من الأسباب الرئيسية لهذه الكارثة التي ستفتك يومًا ما بهذا الكوكب ، ولا أخفيك فقد بلغ تذمرهم منك حدًا لا يمكنك أن تتخيله ، وهم لديهم رغبة بل أمنية كبيرة في رؤيتك خارج هذا القطار الذي يسمى الحياة وأنا مضطر لأن أزعجك بهذا الكلام ، فهم من طلبوا مني أن أنقله إليك حرفيًا.
سكت هنيهة ثم نظر في عينيه وتابع قائلاً :
- إذا كنت تفهم ما أعني أشر لي بعيونك ، فكما أرى أنت لا تستطيع أن تحرك كلتا يديك ، لا بأس ، لحظة واحدة توقف ، قلت لك أشر لي بعينيك ، لا تبكِ ، أنا أقدر ظروفك ، لكن أرجوك لا أريد أن أرى دموعك ، بعدما أذهب افعل ما تشاء ، فقلبي لا يحتمل رؤية هذه المواقف التراجيدية ، وكما قلت لكِ أشر بعيونك ، أو ، لا لا انتظر ، بعينك اليمنى ، يبدو أن عينك الأخرى قد ذهبت و انتهت هي أيضًا ، حسنًا سنعتمد على اليمنى في حوارنا ، اسمعني جيدًا منذ آخر لقاء بيننا قلت لك أن لا تفعل ما فعلته ، فهذا العالم بات الوجود فيه يرتكز على عنصر القوة المتمثل بالمال ، فوزن مالك يساوي قوة شخصيتك وسطوتك وحياتك ، لكنك لم تنتبه إلى ما قلت ، مما دفعني إلى التفكير أن ما فعلته كان تكفيرًا عن الخطايا والذنوب اتجاه من أعطيتهم كل ما تملك أو ربما لشدة حبك لهم ، ولعلك في لحظة ضعف ظننت أنك تقوم بعمل نبيل لكنك نسيت أن العمل النبيل يحتاج أيضًا إلى من يحميه حتى يضمن له الاستمرار خصوصًا إذا كان هذا العمل فريدًا من نوعه بمعنى أنه لا يمكن أن يتكرر في ظروف عادية ، إنه استثناء ، والاستثناء غالبًا ما يترك آثارًا مدمرة إذا لم يكن منسجمًا مع واقعه ، وما فعلته كان غريبًا بل كان أحمقًا ، لذلك اسمع مني ما سأقوله لك ، هناك طريقة واحدة لإنهاء هذه المشكلة وأنا مكلف من قبلهم لإبلاغك بها ، وأرجو أن تعذرني فأتعابي دفعوها لي ، لذلك فأنا الآن أمثلهم هم ، لا أنت .
تراجع إلى الوراء قليلًا ليريح ظهره من كثرة الانحناء ثم اقترب منه :
- يقولون لك إن أفضل طريقة لإنهاء هذا الوضع هو أن توافق على إعادة ملء استمارة بوليصة التأمين على حياتك تلك التي قمت بإلغائها قبل أسبوعين - وهي ما زالت بحوزتي - فهم يعتقدون أن مجال التوبة بالنسبة لك قد فات أوانه مع كل ما فعلته في حياتك ، لذلك أعد ملء تلك الورقة وأوصي لهم بـــ ... عفوًا هل تسمعني أشر لي بعينك اليمنى حتى أكمل ... يا إلهي يبدو أنه قد سقط في غيبوبة أخرى .
اندفع نحو الباب وهو يصيح :
- أيها الطبيب تعال وأنظر ماذا حصل له ، لقد كنت أكلمه وفجأة توقف عن الحديث ، ويبدو أنه قد أغميّ عليه ، أفحصه يا سيدي أريد أن أعرف ما إذا كان حيّا أم لا ؟
دخل الطبيب إلى الغرفة مسرعًا :
- ماذا وجدت يا سيدي ، هل ما زال حيًا ، أريد أن أعرف أرجوك ؟
أغمض الطبيب عينيه ووضع الغطاء على رأسه ثم ذهب مسرعًا
- حسنًا أخبرهم وأنا سأنتظر هنا ، لكن لا تطل الغياب .
اقترب منه ليتأكد من موته ، ثمّ تناول حقيبته وهو يتمتم :
- في لحظة ينتهي كل شيء ، يبدو أنه قد فارق الحياة ، عليّ الآن أن أجهز الأوراق قبل أن يأتوا إليّ ويطاردوني بأسئلتهم ، ماذا قال وماذا فعل ، وهل وقع أم لم يوقع ... أين هي الأوراق اللعينة .. أين ذهبت آه ها هي ، يا إلهي هذه الحقيبة الملعونة دائمًا ما تعيق عملي ، غدًا سأشتري واحدة أخرى وأحرق هذه ، أين ذهب القلم ها هو نعم لنبدأ الآن .
بسم الله الرحمن الرحيم ، أنا الم ....
لكن رنينًا غاضبًا قطع حبل أفكاره ، التقط السماعة بعصبية :
-آلو من هذا الذي يتصل ، نعم أيها الطبيب ، ماذا تريد يا سيدي ، ستبقيه على الأجهزة ريثما ننتهي من العمل ، لم أفهم أي عمل تقصد ؟ نعم ، هل هو من قال ذلك ، نعم... سيأتي إليّ بعد قليل ماذا ...لكن هل هذا الأمر مضمون ، نعم أعلم أن هذا مستشفى خاص ولا يحق لأحد أن يدخل غرفته إلا بإذن خاص ، لكن ... ماذا .. ؟ هو سيشرح لي ، مفهوم .. مفهوم ، سأنتظر شكرًا لك.
رمى الأوراق التي بين يديه جانبًا وطلب كوبًا كبيرًا من القهوة وجلس ينتظر وصوله ، وهو يحرك يديه خلف رأسه وظهره كمن يحاول أن يعيد النشاط إلى جسد ستموت فيه بعد قليل أشياء كثيرة .