النظر إلى الخلف
قصة قصيرة، بقلم: حسين علي محمد
.......................................
كان مرتدياً جلبابه الفلاحي المتسع، في ذلك الصباح الشتوي من يناير، واضعاً يديْه خلف ظهره .. يمشي مشية متئدة حتى لا يظهر العرج الخفيف الذي أصاب خُطاه بفعل داء «النقرس» اللعين، تصحبه زوجته وقد هبطا درج العمارة الكبيرة حيث زارا ابنهما الوحيد المهندس «طلحة» لتهنئته بافتتاح مكتبه الهندسي، الذي افتتحه بعد عودته من ألمانيا حاصلاً على الدكتوراه في الهندسة. ذلك المكتب الذي يعمل فيه معه مهندس ومهندسة وأستاذ استشاري كبير.
توقفت زوجته «الدكتورة منى» ـ الأستاذة بكلية الزراعة، والمعروفة في المنطقة ـ عن المشي لتكلم سيدة استوقفتها. يبدو أنها تُريد مساعدتها في شيء، أو تسألها عن نتيجة ابنها أو ابنتها في الفصل الدراسي الأول.
قلل خطواته لتلحق به زوجته دون مشقة، بعد أن تنتهي من أمر هذه السيدة.
الزقازيق التي كانت تبدو كقرية كبيرة أيام أن كان طالباً بالمرحلة الثانوية في منتصف الستينيات .. ها هي تتسع وتتسع في السنوات العشر الأخيرة التي ترك فيها جامعته مستقيلاً، وذهب إلى الإمارات ليتخفف من الصراعات والمشاكل التي كابدها في جامعته التي أسسها.
سمع صوت السيدة التي استوقفت زوجته يأتي من الخلف:
ـ الدكتور محمود الأنصاري؟
رد في تلقائية، دون أن يترك لزوجته فرصة الرد:
ـ نعم يا أفندم، محمود الأنصاري.
نظر، وجد امرأة سمراء عجفاء تُقارب الخامسة والخمسين. ظنها لأول وهلة سائلة، فأدخل يده في جيبه ليُخرج صدقة تليق به، ليُعطيها .. ضحكت:
ـ أنا سميرة عاكف.
أخرج يده من جيبه بسرعة، وضرب جبهته كأنه يوقظ ذكريات مر عليها أكثر من ثلاثين سنة.
ـ ياه .. ليس معقولاً؟
صافحها بحرارة، وهو يقول لزوجته:
ـ كانت سميرة زميلتي في كلية الاقتصاد من ثلاثين سنة. كانت مع أول دفعة التحق بها أبناء الفلاحين بعد هزيمة 67.
وقال وهو يؤكد على كلماته:
ـ لكنها ليست فلاحة! فأبوها كان مدير أمن الشرقية الأسبق.
ضحكت سميرة، فأنارت ضحكتها وجهها الأسمر، وهي تقول في حرج:
ـ مازلت تتذكر؟
كاد أن يكمل «كان نفسي أشوفك يا سميرة من زمان» .. ولكنه كتمها في فمه!
ومر في فكره أنه توجه إليها خاطباً بعد التخرج، ولكن والدها لواء الشرطة (اللواء محسن عاكف) أوصد الباب في وجه ابن الفلاح الصغير.
قال لها مبتسماً ابتسامةً عريضة اعتاد أن يراها من يعرفه كلما تحدّث:
ـ إلى أين أنت متجهة؟
أشارت إلى الطابق الرابع من العمارة التي هبط منها:
ـ طالعة لرؤية ابنتي المهندسة «شيرين» التي تعمل في «مكتب طلحة للاستشارات الهندسية».
صافحها متعجلاً، ولم يسأل زوجته إذا كانت تعرف سميرة أم لا؟
ووجد ريقه يجف، فلم يسأل سميرة:
ـ أتعرفين أن طلحة ابني؟.
مشى عدة خطوات، ووجد زوجته مشغولة بتصفح واجهات المحلات، فنظر إلى الخلف خلسةً، ووجد سميرة أيضاً تنظر خلفها!
الرياض 5/3/2004م