نزل فيمن غادروا الحافلة من زملائه, واتجه نحو المكتب ...
أدار مقبض قفل الباب دون نتيجة مثلما كان متوقعا .
لم يحضر أحد بعد !
استدار معرضا وجال بصره في مشهد الورشة الفارغة من الأحياء ؛ ألا منه، هو المحكوم عليه بالانتظار ربع ساعة بعد الموعد القانوني للحضور.
خمس عشرة دقيقة !
ستطحن باكر النشاط المتبقي في مزاجه؛ وتمضغ منه حبال الصبر واحدا واحدا. لولا أن سيارة كهربائية صغيرة تربض إلى جانب المكتب الأيمن؛ ستوفر له كرسيها للجلوس تحت وطأة الانتظار، حيث سيقاوم سأمها بدخان سيجارته الصباحية الأولى ، لن يعبأ بضجة الآلات الصاخبة إذ أن سمعه اعتاد الصخب الهادر حتى الإدمان.
تهاوت فرائسه على الكرسي ومدّ يداً كسلى إلى جيب بدلته الزرقاء قصيرة الأكمـام ، فاستخرج علبة حمراء تناول منها سيجارة أشعلها في لهفة وأخذ أول جرعة من دخانها لم تلبث أن ضاقت بدواخل صدره المائجة فطلبت سبيل الحرية من منافذ منخريه وفتحة فيه ثم انتشرت في الفضاء من حوله كالغيمة، وعانقت خيوط الدخان المتصاعد من جميرة السيجارة المأسورة بين أصابعه.
واستبقت صور من خياله متن الخيوط الآيلة للذوبان في جو القنوط ومضت تتراقص في ذهنه وكأنها تمسح سطور الملل بمنشف الذكريات الجميلة ؛ فاستسلم للسباحة في عالم تتقاسمه رؤى الماضي وسوم الأماني الباهتة ...
خمس من السنين مرّت !
أبلت شرايين الطموح في نفسه فأحس نار مهجته أخذ وهجها يخبو مع مطلع شمس كل يوم ؛ وكأن وهج نهارات الصحراء يصبُّ غبارا جليديا في عروقه، يشلّ الحيوية المعهودة في أفكاره، ويدهن جلد أطرافه يوميا بمزيج مسحور مقيت يبثّ الخمول والكسل في كل عضلة ويخدّر كل حواسه دونما رحمة...
وبدا غارقا في تأملات شتى وهو يدندن في همس يكاد لايبين:

مـا ضر أني زرعتُ الصِّبر في كبدي = جـمرًا لِـُينْبِتَ ناديكِ الرياحينا

مرّ به طيف أيام خلت منذ زهاء عقد من المحن ...
كانت صباحات الأيام سنية تبعث الإشراق في كل شيء، حين كان يحضر إلى مكتبه بالطابق الأرضي من المبنى الذي كان مالكه بحي «البسطاء» ، فيجدها قد أعدّت ملف التوقيعات وملف البريد وملف المتفرّقات – على قلّتها- .
تلك السيدة الرقيقة ذات الابتسامة اللطيفة الجادّة الطاغية على سمات أنوثتها . مازالت نبرة تحيتها الصباحية تتردّد في ذاكرة سمعه وصورة حركاتها النشيطة تعبر مرّة بعد مرّة مسار خيالاته وكأنها تزور مسرح تأملاته تلوم رضوخه لما هو فيه ...
لم تعرف غيره مذ كانت طفلة . فهي التي ذاقت في رفقته معنى «غرابة الأطوار» رغم بساطة مستواها التعليمي . ركبت سفينةً جموحا لا تطيب لها الريح حتى تشق عباب الموج الهادر عكس التيار! تبعته في أسفاره نحو المجهول دون خوف أو تردّد . كانت تداري عشقه الطفولي كلما مالت به ريح الصبا شرقا، نصبت نفسها أمينة على ذاته المكدودة تحت طموحات روحه التي لم تعرف لها حدود بعد ...
ولم ينتبه إلا ووهج جميرة السيجارة يكوي جلد أصابعه، فرمى عقبها بحركة آلية. ترى هل سيبصقه العالم خارج دائرته فيرميه مثل ذلك العقب ؟
وإذا صوت مفتاح يعالج قفل باب الورشة، تلته تحية زميله «آنجي» بالإنجليزية:
- صباح الخير...
رد التحية وهو يغادر كرسي السيارة الصغيرة . دخل المكتب وهو يمدّ يده-متثاقلا- إلى جيبه . تناول القلم ومشى إلى حيث سجل الحضور قد فتح على صفحة جديدة تنتظر توقيعه ليضيف يوما آخر جديدا يبصقه في غيهب المجهول اللا متجدّد.