قرأت هذا الموضوع الجميل للدكتور أحمد كريم بلال وأنقله لحضراتكم راجيًا أن ينال إعجابكم واهتمامكم كما نالها مني ..
قراءة أدبية في الخطاب الأول للرئيس المصري ( محمد مرسي ) بقلم:د. أحمد كُريِّم بلال
فن الخطابة من الفنون الأدبية العريقة في التراث العربي. وهو – على عراقته – فن ممتد وموصول، اقتضت ضرورات الحياة وتبعاتها بقاءه وامتداده ( على حين اندثرت كثير من الفنون الأدبية التي لم تستطع بنيتها الفنية ولا تكوينها الأدبي أن تجعلها قادرة على مواكبة تطورات الحياة وتغيراتها ) .
ومن حسن الحظ أن التقاليد الشفويّة التي أنعشت الخطابة وهيأت لها جمهورًا من المتلقين لم تزل قائمة، بل أتيحت لها – أيضًا – الكثير من التطورات العصرية في ظل تقدم وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.
والخطاب السياسي – على الأخص في فترات الثورات والصراعات السلطوية – من أكثر أنواع الخطب رواجًا؛ لأن جمهورًا عريضًا من المؤيدين والمعارضين ما بين أتباع وخصوم؛ كلٌ يتابع ويتطلع ويستشرف..
وقد يكون من قبيل المبالغة الاعتداد الكبير بأدبية الخطاب السياسي في التأثير والاستحواذ على الجمهور، أو اعتباره من أكبر المقومات النفسية التي تستقطب المتلقين، وإن كنا لا ننكر أن ثمة دورًا لأدبية النص، لكننا لا نعول كثيرًا على هذا الدور في ظرف حياتنا المعاصرة. ولنصارح أنفسنا بأن مستوى الذائقة الأدبية منحدر بشكل مفزع!! ولنضع في الحسبان القطاع العريض من الأميين وأنصاف المتعلمين، وجهلاء المتعلمين الذين يتابعون مثل هذا النمط من الخطب. وأمثال هؤلاء – وغيرهم – معنيون إلى حد كبير بالمضمون والدلالة اللغوية – في حد ذاتها- دون أدنى اعتبار للقيم الفنية أو الأدبية التي يتضمنها ( نص الخطاب ).
راودتني مثل هذه الأفكار حين كنت أتابع بشغف شديد خطبة الرئيس ( محمد مرسي )؛ الرئيس الأول لجمهورية مصر العربية ( بعد الثورة المصرية العظيمة ). كنت أستمع إلى نمط مختلف – كل الاختلاف – عن نمط الخطب السياسية السائد. ولا عجب في ذلك، لأن شخصية الرئيس المصري وتكوينه الفكري والثقافي جدّ مختلفة عن غيرها من الرؤساء السابقين الذين فرضتهم المؤسسة العسكرية على شعب مصر.
إن خطبة الرئيس محمد مرسي أميل إلى الجانب التراثي الإسلامي، مع محاولة عدم الحيدة عن الظرف العصريّ الذي اقتضاها. ومن المنطقي – تمامًا – أن تُستهل خطبة الرئيس الإخواني بعبارة " الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد بن عبد الله "صلى الله عليه وسلم " ، وأن يكثر فيها الاقتباس من القرآن الكريم لتأييد الموقف تأييدًا وجدانيًا وعقائديًا. وأن تتخللها عبارات كثيرة تدل على التسليم بالفضل الإلهي والمنة الربانية.. والخضوع لمشيئة الله والاستعانة بقدرته .. وما شابه ذلك.
وقد لا يخفى على قارئ هذه الخطبة ولا سامعها محاولة الخطيب محاكاة سيدنا أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) في أول خطبة له عشية توليه خلافة المسلمين بعيد الخلاف بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، ومن ذلك مما جاء في خطاب الرئيس مرسي : ( وليت عليكم ولست بخيركم.. ) ( .. أعينوني ما أطعت الله فيكم.. فأن عصيته ولم التزم بما تعهدت لكم به.. فلا طاعة لي عليكم .. ) . وهذه الاقتباسات من خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليست مجرد اتباع وتأسي واقتداء، بل يصح اعتبارها علامة دلالية إشارية توجه إلى بداية عهد جديد، فكما افتتحت خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه عهدا جديدا يمثل علامة فارقة في تاريخ الإسلام؛ ستحاول الدولة الإخوانية الوليدة الانتقال بالمصريين إلى تلك ( اليوتوبيا الإسلامية الرائعة التي لم يشهد تاريخ العالم مثيلا لها بعد انقضاء دولة الراشدين ).
من الناحية الدلالية لم تخض الخطبة في تفاصيل تتعلق بالقضايا الشائكة التي ينتظر من الرئيس أن يواجهها في عهده المقبل، لكنها حاولت تقديم مصالحة كبرى وشاملة بين جميع أطياف الشعب ( مسلمين ومسيحيين ) ( جيش ، وشرطة ، وقضاء ) ( أحزاب وتكتلات سياسية مختلفة ). وتعرضت للخطوط السياسية العريضة التي تمثل ثوابت الحكم : ( احترام المعاهدات الدولية / الحفاظ على أمن البلاد / علاقة متوازنة مع دول العالم / عدم السماح بالتدخل في شئوننا الداخلية ... إلخ ). لكن السمة الأسلوبية الغالبة التي يمكن استشفافها من هذه الخطبة ( محاولة الخطيب تكوين علاقة وجدانية وروابط حميمية تجمعه بالشعب المصري، وتدعم شعبيته ) . فلم نجد ما يدل على أي درجة من درجات التشفي أو محاولة إغاظة الخصوم، بل على على العكس حاول الخطيب استقطاب خصومه السياسيين واستمالتهم نحو صفه، فهو – كما جاء بين ثنايا خطبته – رئيس لكل المصريين بكل أطيافهم وتنوعاتهم.
ومحاولات تأسيس العلاقة الوجدانية لم تقتصر على استقطاب الخصوم واسترضاءهم، وإنما تعدت ذلك إلى تدعيم الانتماء إلى الشعب، ( جئت حاكما بإرادتكم ) ، بل والمبالغة في استخدام صيغ النداء الذي أضمرت فيه أداة النداء تدعيمًا لهذا الانتماء، واتخدام عبارات من قبيل ( أيها الأحباب / أحبابي / أحبائي / أهلي وعشيرتي .. ) ومثل هذه العبارات قلما استمع المصريون لها من حكامهم طوال تاريخ ممتد.
واستخدم الخطيب الإطناب التفصيلي لدعم هذا الانتماء الوجداني :
( .. إنني اليوم رئيسٌ لكل المصريين اينما وجدوا في الداخل والخارج وكل محافظات وقرى مصر وعلى حدودها الشرقية او الغربية او الجنوبية او الشمالية أو في وسطها، أرضنا مصر الواسعة وشعبها الكريم ، الأهل والعشيرة والاحبة أهل النوبة ورفح والعريش وجنوب سيناء ومرسى مطروح والغرب والشمال، ومحافظات الدلتا وبورسعيد ومدن القناة الاسماعيلية والسويس والشرقية والدقهلية وكفر الشيخ والغربية والمنوفية والقليوبية والاسكندرية والواحات والبحر الاحمر وجنوب سيناء وجنوب الصعيد بني سويف والفيوم والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا والأقصر وأسوان أهلي جميعا المصريون جميعا المسلمين والمسيحيين الرجال والنساء الكبار والشيوخ والشباب الاباء والامهات فلاحين وعمال والموظفين والمعلمين واساتذة الجامعات ورجال الاعمال العاملين في القطاع العام والحكومة وقطاع الاعمال والعاملين في القطاع الخاص والعاملين في كل مؤسسات الدولة تجاء سواقين الاتوبيس والقطارات التاكسي و"التوك توك" والحرفيين واصحاب المهن والدكاكين الصغيرة انهم هؤلاء جميعا أهلي .
وهذا الإطناب المبالغ فيه قد لا يحمل قيمة أسلوبية كبيرة، فليس ثمة ما يقتضيه لغويًا
أو أسلوبيًا؛ لكنه – من ناحية أخرى – يدعم قيمة وجدانية ضخمة أراد الرئيس الأول المنتخب بعد ثورة وطنية تأكيدها، إنه يلح على كونه خادمًا لكل المصريين ، وإن تدنت مراكزهم الاجتماعية، ومن ثم لم يجد حرجًا من ذكر ( سائقي التوك تك ) و ( الباعة الجائلين ) . كما يلح على إثبات كونه منتميًا لكل شبر من التراب الوطني المصري العظيم، ولا يفوته ذكر من هُمِّشوا في العهد الماضي : ( أهل النوبة وسيناء وأهل الصعيد ) .
لقد أعدت هذه الخطبة – دونما شك – في عجالة، ولم يجد كاتبها فرصة للتأنق البلاغي والأسلوبي بشكل كبير، وأظن الريس قد ارتجل بعض العبارات التفصيلية التي لم يحوها النص الأصلي للخطبة الذي كان بين يديه. لكن هذه الخطبة – مع ذلك – تمثل خطوة فارقة في أدب الخطابة السياسي المعاصر، ربما كان هذا الأمر وليد طبيعة التحول السياسي الذي تشهده المرحلة التاريخية التي نمر بها. وهو مما يقتضي الحفاوة الكبيرة بالدعم الديني لمضمون الخطبة، والتركيز الكبير على الاستمالة الوجدانية التي يقتضيها الظرف التاريخي الجديد.