أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: الوقوف على الجمر

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : May 2003
    الدولة : الخبر
    المشاركات : 249
    المواضيع : 54
    الردود : 249
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي الوقوف على الجمر

    لم يبق من البيت إلا إطار الباب وجزء من جداره عندما هرع أحمد إلى الأنقاض يتفحص ما بينها وما حولها، هنا وفي هذه اللحظة تكمن مشكلته ومأساته، هنا وفي هذا الزمن تنقض عليه المواجع تذبح نياط قلبه، هنا استفاق من حلم له عويل، أخذ يقاوم ويقاوم راكضا حتى استنفر كل قواه، لقد نزل الصاروخ الأعمى من الطائرة دون رحمة واتجه نحو المنزل الواقع في الشارع المقابل، سمع أحمد الانفجار فخاف واختبأ هنيهة ثم خرج وقد لمح الدخان يتصاعد من محطة قلبه ومهوى فؤاده، إنه منزلها، منزل عائشة، هدأت الدنيا إلا من أصداء دوي يخرق السكون العالمي ويطبق على القلوب النائمة، تسارعت النبضات والتهمت الأفكار خلايا الدماغ الحاضر والباطن، ثم توقفت الأفكار عند منزل عائشة بل عند عائشة بالذات، وتجمدت الأحداث جميعها بين هموم العيش وبين الاحتلال والقضايا الإقليمية والعالمية عند عائشة، أخذ يهذي ويصرخ باسمها وهو يركض مادا عقله وأفكاره قبل يديه لانتشالها وهي تزحف ببطء نحو إطار الباب المهدم، قضى الصاروخ على أبويها وإخوتها الثلاثة ومزق أجسادهم، وهي ترمي بما تبقى لها من قوة بجسدها نحو الباب تجر خلفها ذيلا من الدم يتقاطر من ساقيها المهشمتين، وصور خراب الدنيا تتراءى أمام عينيها ويتداعى تاريخ العراق أمام بصيرتها... لا لبلاد الرافدين مع الاحتلال البغيض، لا لكل متآمر جبان، لا للحياة تحت جنح اغتصاب الشعوب ومصادرة حق الحياة..
    هي في عيني أحمد العراق كله والمستقبل كله وكل شيء عنده، لا حياة له إلا بها وهي تمد يدها نحوه عله ينقذها لأول مرة ولآخر مرة وفي إنقاذها يحيا العراق كله وفي حياتها يتشكل رحم الحياة من جديد لبلاد جثم الظلم عليها سنين متعاقبة، هي في عيني أحمد الحياة كلها ببؤسها وشقائها ثم بزينتها القليلة في أحياء تلك المدينة الراقدة على شط فرات العرب، لأول مرة يلمس أحمد يدها فقد رآها منذ يومين تشير إليه وتداعبه ببراءتها المعهودة، تبسم وأومأ برأسه علامة القبول وقد آن الأوان ليأتي بأبيه وأمه لخطبتها، وهل يستطيع العيش بغير ذكرها أو من دونها وقد ملأت عليه سكون الليل وضوضاء النهار وأعملت فيه التفكير، وهي من أوقد في نفسه معالم الطريق لحياة الشراكة الزوجية... وهو من رفض العمل والحياة في بغداد وعاد إلى الفلوجة كي ينعم برؤيتها وهي تنضج على نار هادئة في فرن الحياة تحت أجنحة أبويها، كانت قرة عين لهما وهما يحترمان أحمد ويقدران نواياه الحميدة..
    قفز أحمد فوق الطوب المتكسر وأعجاز الأخشاب المبعثرة ثم أمسك بحافة الإطار بيد ومد الأخرى نحو عائشة وعائشة تمد يدها المرتعشة بإعياء ووهن، ها هو يلمس يدها المغبرة الناعمة لأول مرة في حياته وهي تصارع الحياة والموت معا، ارتفعت اللهفة ولامست القلوب القلوب، ما إن لمست يده يدها أحاط بمعصمها متلهفا ومتوجسا ومتهافتا، صرخت متأوهة بصوت تعب مكتوم: أحمد أحمد. ثم فجأة مال شعرها وتبعه رأسها مرتطما بالأرض تحت قوس إطار الباب وهذا ذيل من الدم ينسلُّ إلى داخل المنزل المتهدم، ترك يدها ووقف ينظر إلى الجثة تحت قوس الباب، يد غالية حانية ممدودة نحو الأمام خارج المنزل المهدم، وقف يتأمل المنظر بخشوع ويندد بنقم الحياة، قال إنا لله وإنا إليه راجعون ولا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين، أتته من خلفه أمه بشرشف غطى به شعرها وجسدها، وقف على كتل أحر من الجمر، وقف على عتبات جحيم المحتل ينظر إلى الرافدين وهما يتهاديان نحو شط كل الصدور، وقف يمزج الدم بالكرامة والإباء وهو ينبس كلمة الحق فوق جثث الغاصبين، اقتنى السلاح ثم اختفى عن الأنظار رويدا رويدا، وراح إلى حيث يدري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  2. #2
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Dec 2004
    المشاركات : 20
    المواضيع : 10
    الردود : 20
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي

    الأستاذ ريان ..
    تحية طيبة..
    قصتك.. كلماتك.. أثارت شجوننا وأحزاننا .. تلك الآلام التي نسمعها، نراها، ولكننا نقف وبعجز صامت ، نكتفي بالتحديق إليها يوميا ..
    أستاذي قصتك اعتبرها بمثابة تنبيه أو تذكير لنا، حتى لايظل الصمت عنواننا..

    ودمت طيبا

  3. #3
    شاعر
    تاريخ التسجيل : May 2003
    الدولة : الخبر
    المشاركات : 249
    المواضيع : 54
    الردود : 249
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    الأخت الفاضلة فاطمة
    أصبت بعنوان التذكير فهذا أقل شيء نفعله إزاء الإعلام الصارخ في وجه الحقائق
    تحية
    ريان

  4. #4
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Aug 2003
    المشاركات : 684
    المواضيع : 55
    الردود : 684
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    سرد ماتع
    ولغة سليمة
    وصور رائعة

    أما القصة فقد أدمت القلوب

    لكن ياليته يجاهد في سبيل الله ابتغاء مرضاته لا ثأرا لحبيبته

    أخي الحبيب ريان سلمت اليراعة والكلمات

  5. #5
    شاعر
    تاريخ التسجيل : May 2003
    الدولة : الخبر
    المشاركات : 249
    المواضيع : 54
    الردود : 249
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    عزيزي الدكتور محمد
    لم يذهب ويتوارى من أجل الثأر لحبيبته، هذا هو الجسر الذي أوصله لغايته، أرجو قراءة القصة مرة أخرى لاستخلاص الدلالات وما وراء الأحداث الظاهرة وهي التي تتمثل في تمثيل البلد بالشخصيات و سلوك أحمد السليم وتغطيته لشعرها وتلفظه باسم الله بعد الحادث الأليم و.. و..
    تحياتي
    ريان

  6. #6
    الصورة الرمزية إسلام شمس الدين عضو
    تاريخ التسجيل : Apr 2003
    الدولة : مصر
    المشاركات : 646
    المواضيع : 50
    الردود : 646
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي


    أديبنا الرائع ريان الشققي

    أبدعت نثراً مثلما أبدعت شعراً ، كلما قرأت لك أدركت المعنى الحقيقي للفظة "السمو"

    بارك الله بك وبقلمك وبفكرك الواعي
    دمت بكل الخير ، وتقبل وافر تحياتي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    إسلام شمس الدين


  7. #7
    شاعر
    تاريخ التسجيل : May 2003
    الدولة : الخبر
    المشاركات : 249
    المواضيع : 54
    الردود : 249
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    عزيزي إسلام
    لك السمو ولك التحية ولك ولكتاباتك المتنوعة والثرية أرسل الإعجاب
    تحياتي وشكري
    ريان

  8. #8
    الصورة الرمزية د. سمير العمري المؤسس
    مدير عام الملتقى
    رئيس رابطة الواحة الثقافية

    تاريخ التسجيل : Nov 2002
    الدولة : هنا بينكم
    العمر : 59
    المشاركات : 41,182
    المواضيع : 1126
    الردود : 41182
    المعدل اليومي : 5.27

    افتراضي

    أخي الحبيب ريان:

    لا أراك إلا أدميت القلوب هنا في هذا السرد الموفق بتمكن أديب متميز وشاعر كبير.

    نعم لا يزال جرح الأمة ينزف وجسدها يمزق ولا نجد من يعين على البلاء.

    الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.


    أشكر لك هذا الأسلوب الراقي والإبداع المتميز والملامسة العميقة لآلام الأمة ومشاكلها.


    تحياتي وتقديري
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. الوقوف على الأطلال
    بواسطة ثناء صالح في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 51
    آخر مشاركة: 03-03-2022, 07:52 PM
  2. القابض على دينه كالقابض على الجمر)
    بواسطة مصطفى امين سلامه في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 09-05-2011, 06:05 AM
  3. الوقوف على الأطلال
    بواسطة فهد السبيعي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 30-03-2009, 07:59 AM
  4. رجال المقاومة ينتظرون المعركة البرية على أحرّ من الجمر .. ويتوعدون بالمفاجآت
    بواسطة الطنطاوي الحسيني في المنتدى نُصْرَةُ فِلِسْطِين وَالقُدْسِ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 31-12-2008, 01:37 PM
  5. على جفنات الجمر بالجمر يحتمي..
    بواسطة محمد الأمين سعيدي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 14-08-2007, 05:30 PM