قصة حقيقية
يعرفونها منذ سنين , تسكن معهم في هذا الحي الشعبي المزدحم , وحيدة في بيت ضيّق , تخرج صباحا تلتحف رداءا ابيضا , لايظهر من جسمها الاّ عين واحدة , كما تفعل جميع النسوة هنا , تلف البلدة مشيا على الأقدام , صامتة , ثم تعود , وتغلق على نفسها باب البيت .
نفس المشوار تقطعه يوميا , تدخل السوق المجاور , وتذهب الى مقر الضمان الاجتماعي , تدخل المكتب المسؤول عن منحة المرضى من ذوي الاحتياجات الخاصة , فهي تعرف أنّهم يعطونها مبلغا ماليا كل شهر , كونها مسجّلة عندهم في فئة المتخلّفين ذهنيا , تقف صامتة أمام الموظف في المكتب , ثم تنصرف , وقد تعوّد على زيارتها كل صباح .
يعتبرونها مجنونة , يتكلّمون عنها كثيرا , لم يفكّر أحد يوما أنّها تحتاج الى بعض المساعدة , لا يرحمونها , ويكلّمونها بجديّة عندما يحتاجون اليها , فقد تجد من يسألها عن أمر ما عندما تقف صامتة في الطّريق , ولا تجب عادة عن أي شيء , ولا تسمع لها صوتا .
في موسم الحر , تصعب الحياة في هذه البلدة , ولا أحد يقدر على قضاء الصّيف كلّه فيها , أغلب السّكان يتّجهون شمالا الى المدن السّاحليّة , والقليل ممّن يمكثون , داخل الغرف المكيّفة , والصّامتة بيتها ضيّقا , وليس فيه أي تكييف .
غابت لفترة , لم ينتبه لغيابها أحد , لا باعة السّوق المجاور , ولا مرتادي الطّريق , ولا موظّف مكتب الخدمات الإجتماعية , وبعدما اكتشفوا موتها مخنوقة من الحر , وأخرجوا جثتها وهم يتصبّبون عرقا , تكلّموا كثيرا , عن هذا الزّمن , وكيف صار الشخص يموت فيه داخل بيته ولا يعلم به جاره , لاموا الزّمن وما لاموا أنفسهم .