font=Arial]الطموح المدمر[/font]
بقلم د. جمال مرسي
كان النهار قد انتصف حينما أهابت مضيفة الطائرة المتجهة إلى فيينا ـ عبر مكبرات الصوت الداخلية ـ بركابها أن يلزموا أماكنهم و أن يربطوا أحزمة الأمان استعدادا للإقلاع .
امتثل أحمد للنداء على الفور و هو يهمس لنفسه هكذا يجب أن يكون الالتزام .. من هنا يبدأ.. من الطائرة .
و لما كانت هذه هي المرة الأولى التي يستقل أحمد فيها طائرةً مبتعداً عن وطنه فلقد بدا مرتبكا و هو يربط حزام الأمان إلى ان اقتربت منه إحدى المضيفات هامسة بصوت رقيق :اسمح لي أن أساعدك سيدي .
نظر أحمد لها بطرفٍ خفي و دون ان ينطق ببنت شفة اسلم عنان نفسه ليدها و هي تعلمه بحكمة و لباقة كيف يربط الحزام. وبدون أن يقصد فلقد لمست يده يدها فسرت القشعريرة في بدنه سريان الكهرباء و تسمرت عيناه فلم تحركا ساكنا حين وقعتا في أسر عينيها الخضراوين .
كان احمد جادا في دراسته متفوقا فيها لإحساسه مع أمه بالمسؤولية الملقاة على عاتقيهما بعد وفاة أبيه
و لكنه كان عجولاً لا يصبر على شئ و يتمنى الوصول إلى غايته في أسرع وقت ممكن .
و كان زملاؤه في كلية الهندسة يلقبونه بالأستاذ " نشا أفندي " لأنه كان قليل الاختلاط بهم فلا يكلم أحداً إلى من أرنبة انفه إذ كان يشعر بأنه أفضل منهم جميعا رغم الفارق الاجتماعي الكبير بينه و بينهم .
فلقد نشأ أحمد في أسرة فقيرة مات عائلها و لم يترك لها إلا معاشا ضئيلاً تتقاضاه والدته التي اضطرت للعمل سراً عند أحد الأثرياء كي يتم ابنها البكر تعليمه و يحقق أمل أمه في أن يكون مهندساً كبيراً .
و لقد كان أحمد يحتل إحدى غرفتي المنزل المتواضع الذي تركه له والدهم بالإيجار بينما كان اخوته الثلاثة يقطنون مع أمهم في الغرفة الأخرى .
اما زملاؤه في الجامعة فقد كانوا من الطبقات الراقية ( الهاي لايف).. و كان مصروف الواحد منهم في اليوم يعادل المعاش الشهري الذي تركه لهم أبوه .
أثر ذلك سلباً في شخصية أحمد و سبب له عقدة نقص أخذ معها يحقد على زملائه
و يحسدهم و لكم تمنى ان يتخرج سريعا فيمتلك الفيلا و السيارة الفارهة و شركة المقاولات الضخمة و حينئذ يأتيه هؤلاء لطلب وظيفة فيفعل لا لشئ إلا ليرغم أنوفهم .
أوصلته هذه الحالة من عدم الرضا إلى التمرد على أوضاع أسرته وكان برغم بره بأمه إلا أنه كان ساخطاً على تلك المعيشة و كثيرا ما كان يقول لها :
يبدو إننا مكتوب علينا أن نعيش في الوحل و نموت فيه .
.. سامحك الله يا ولدي ، ألا تصبر ، ألا تقنع بحكم الله ؟ هكذا كانت والدته تقول له دوماً فما كان عليه إلا أن يصبر و لكن على مضض .
ظل أحمد سابحاً في بحر ذكرياته إلى أن قاطعته المضيفة من جديد :
.. هل من خدمة أخرى أؤديها لك يا سيدي ؟
.. نعم من فضلك ، هذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها إلى فيينا التي يسمونها عاصمة الحب و الجمال.
هل تعرفين احداً يمكنه مساعدتي في الحصول على عمل يليق بي ..فأنا أحمل بكالوريوس الهندسة بتقدير امتياز و لكني ضقت ذرعاً في الحصول على عمل و لهذا قررت السفر .
.. حسناً ، هذه البطاقة تحمل اسمي و رقم هاتفي في فيينا ..سأمكث بها ثلاثة
أيام ، حاول الاتصال بي فربما تجد الحل عندي . إلى اللقاء .
شعر أحمد بقلبه يرقص بين أضلاعه حتى ليكاد يقفز من بينها فيستقر فوق بطاقتها
التي تحمل اسمحا و توقيعها .. ماهي أحمد .
يا الله .. لكم هو جميل اسم ماهي .. و لكن أي صدفةٍ هذه التي جمعت اسمها و اسمي في بطاقة واحدة ، كيف ستساعدني ؟ ، و لماذا ، و هي لم ترني إلا مرة واحدة كواحد من مئات الركاب الذين يمرون عليها كل رحلة .
أتراني أوقعتها في حبي بنظرة ساحرة تماما كما فعلت هي بي ؟ أتراها شعرت بنفس الرعشة التي شعرت بها حين لامست يدي يدها .
هكذا راح احمد يتحدث إلى نفسه و تكاد شفتاه المرتجفتان باسمها تفضح هذا الحوار الداخلي .
كانت الطائرة قد ارتفعت عاليا إلى عنان السماء و أحمد لا يزال غارقا في بحر أحلام عميق ، تارة في الفيلا و السيارة و الشركة و تارة أخرى في تلك المضيفة الحسناء التي خفق لها قلبه من أول نظرة ، و أخيرا في أمه التي طالما ترجته إلا يسافر و أن يصبر فيرتقي درجات السلم في وطنه سلمةً سلمة خيراً له من بلاد
الغرب التي ينظر فيها للعربي نظرة دونية فاقتطعت من قوتها و قوت اخوته و باعت أثاث منزلها لتوفر له ثمن تذكرة السفر .
كانت الأحلام تأخذه بعيداً بعيداً إلى أن أفاق هذه المرة على صوتٍ ينطلق من مكبرات الصوت و لكنه كان لقائد الطائرة الذي حاول ان يكون ثابت الجأش و هو يدلي برسالته الصوتية للركاب :
.. حضرات السادة الركاب ، نرجو التزام الهدوء و ربط أحزمة الأمان جيداً
فقد نضطر إلى الهبوط لحدوث عطل في أحد محركات الطائرة .
سنوافيكم بالتطورات أولاً بأول .
و ما أن انتهى قائد الطائرة من رسالته الصوتية حتى ساد الهرج و المرج بين الركاب . فقد شعروا أن الطائرة قد تسقط بهم في أي وقت ، فتتحطم بمن فيها .
أما أحمد فلم يكن بأحسن حال منهم .. راح يحدث نفسه من جديد :
ربما تكون هذه هي الرحلة الأولى و الأخيرة في حياتي . نعم إنها رحلة الطموح المدمر التي طالما حدثتني عنها أمي.
سقطت من عينه دمعة فوق بطاقتها ، و راح يتمتم : ليتني أطعتها ، ليتني أطعتها.
و دمتم[/QUOTE]