أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: س

  1. #1
    أديب وناقد
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    الدولة : بعلبك
    المشاركات : 1,043
    المواضيع : 80
    الردود : 1043
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي س

    س

    ليست هذه هي المرة الأولى التي أستمع فيها إلى نشرة أخبار و لن تكون الأخيرة على أية حال .
    كل ساعة على هذه الشاكلة : يطلّ المذيع أو المذيعة بكامل الأناقة على المشاهدين قائلا: أهلا بكم و هذا موجز لأهمّ الأنباء .
    ويروح يقرع الأسماع بأخبار الزعيم المفدّى:استقبل – ودّع – عقد اجتماعا – أقام مأدبة- طيّر برقية – ألقى خطابا- سيلقي خطابا – س س س .
    ثم ينتقل ليسرد الأخبار المحلية مشدّدا على أن السلم شامل والعدل كامل و الأمن حاصل والشعب قابل .
    بعدها يعرّج على الوضع الإقليمي منوّها بأن زعيم البلاد قد استنكر المجازر المرتكبة بحق الشعب الأعزل وأنه سارع إلى إرسال برقية تضامن هذا نصّها .....
    ثم يطوف بنا العالم حاكيا أخبار الحروب و الكوارث والإرهاب و الديمقراطية .
    وفي الختام يقول :هذا كل شيء حتى الساعة ،على أمل اللقاء بكم بعد دقيقتين ..
    و أظلّ مكوّما مكاني محدّقا إلى القِبلة الجديدة خاشعا كراهب بوذيّ،أنتظر ما سيدلقه المذيع في رأسي بعد دقيقتين رغم علمي التام والأكيد بأن الأخبار هي هي : لقاءات – مفاوضات – كوارث – يالطيف ، تكرار تكرار تكرار ، حتى صار اليوم كالأمس كالغدِ؛ لا شيء مبتكَر. وحدها الحكومة تبتكر :
    قانون جديد يحظر السيارات العاملة على الديزل.
    ضريبة جديدة على القيمة المضافة .
    قوانين ، قوانين و كلها طبعا لخدمة المواطن الصالح وأنا – و أعوذ بالله من كلمة أنا – مواطن صالح ولكنني كربّ أسرة فلَستُ صالحا؛ الراتب محدود و الداخل مفقود و الرزق على الله .
    حين أعمى الله بصري و بصيرتي و تزوّجتُ غنّت لي زوجتي_ وخِلتها رابعة العدوية آنذاك –
    ( لقمة صغيّورة تشبّعنا – عشّ العصفورة يقضّينا.)
    تمسكنَت حتّى تمكّنَت وعكمتني بخمسة من الأبناء فصارت تطلب و تتطلّب؛تريد مثل باقي الجارات و (السَـلّفات )
    قصرا شرعيا فرعيا كبيرا كبيرا وأكلا جاهزا متنوعا كثيرا كثيرا والعين بصيرة و اليد قصيرة .
    وحين أعلنت الحكومة رفع أقساط المدارس و الجامعات بسبب الأزمة الخانقة و بسبب الظروف العويصة و الحالكة التي تمر بها المنطقة و العالم هرع البقّال و القصّاب وأصحاب (البوتيكات )التي تستلف منها زوجتي إلى منزلي ورابطوا فيه معتكفين آكلين شاربين مطالبين بما لهم في ذمّتي من ديون متراكمة .
    أفّ ! ما لي وهذه الأفكار السوداء التي تهاجمني الآن وترفع ضغط شراييني ؟!
    أين صارت نشرة الأخبار !؟
    خبر عاجل : جاءنا الآن ما يلي :
    " اغتيل القائد( ) بقنبلة تزن طنًّا،وأودت بحياة حيّ( درج ) في غزّة و عجنت خمسة عشر طفلا .. هذا و قد ..."
    سمّرتني الكارثة في مقعدي و شعرت بالغثيان وبألم حقيقي يعتصر كياني .فُجِعت بأعمار طريّة تختزلها قنبلة وتنتهك براءة أحلام وردية رهيفة !
    لم أصدّق هذه المحطة الفضائية و لست مُجبرا على متابعة أخبارها .
    أين الريموت كونترول : خمسون محطة صعودا ، خمسون محطة نزولا .المشهد يتكرر بعينه . العالم كلّه في غزّة و غزّة في سمع العالم و بصره .
    مشهد مروّع يندى له الجبين .
    ستنطلق المظاهرات الهادرة الآن . لن يبقى أحدٌ في داره.عشرات، بل مئات المظاهرات ستنطلق .
    لماذا قلتُ ستنطلق؟ ربما انطلقت بالفعل و أنا الكاتب الحالم آخر من يعلم .
    عار عليّ أن أكون آخر المنضمّين إلى المظاهرة .عيب فعلا ! سينظر الناس إليّ شزرا و سيقولون :مُنظِّر برجعاجي،دقّاق حنك.
    سأخفّ إلى شاشة التلفاز.. ما زالت ساخنة من شدّة الانفجار وهول المجزرة .سأقبض حفنة من رماد الجثث المحترقة و سأحثوها فوق رؤوس المتظاهرين .
    سأسير في مقدمة المظاهرة .. تماما إلى جانب المقامات الرفيعة ووجوه البلد . لن يتأخروا عن المشاركة في المسيرة الحاشدة (لايفوتهم شيء من الواجب ) ستتشابك أذرعهم عند المرافق و سيسير وراءهم الساهرون على أمنهم الشخصي .
    سيلحظ الحرّاس وجودي في المكان المحرّم .سيزْوِرني أحدهم في البداية علّني أفهم قصده،فإذا تغابيت و أصررت على حشر نفسي في الصف الأول فسأتلقّى لبطةً على قفاي تقتلعني من الصفّ المبارك .
    سأبلع الإهانة و أمسحها بذقني و أنتقل إلى الخلْف إصرارا منّي على المشاركة و سأنضوي تحت لواء الهيئات الحزبية و النقابية . وأعلم أنني لن أنجح في شقّ صفوفهم المتراصّة كأقراص العجين .لذا سأبتدع حُجّة تقرّبني إليهم درجة وتحشرني بينهم . سأقول لهم : محسوبكم كاتب وأنا بارع في نظم الشعارات !
    سيقهقهون حتى تلامس هاماتهم أستات السائرين في الصفّ الأوّل.ثم سينصحني أحدهم قائلا: لا تَبِعْ الماء في حارة السقائين .
    سيدهشني ردّه! وسأقرّ بأن الحقّ معه ؛و بأنني أنا المخطئ . كان عليّ من البداية أن أصنّف نفسي وأحترم التسلسل الطبقي الاجتماعي ،فأنا ابن هذا الشعب الكادح ،ومقامي بينهم لا بين السائرين في الصفوف الأولى.
    سأرتدّ إلى الخلف وأتحاشر بين الناس البسطاء الكادحين ، سأهتف معهم .
    لا .. لا . لن تعجبني هتافاتهم الساذجة؛ والخارجة في معظمها على المناسبة التي انطلقت المظاهرة من أجلها . أسمع هتافاتهم تتلاطم و تتصادم كحوار الطرشان ؛ كلٌ يغنّي على ليلاه :
    سائقو السيارات العاملة على الديزل سيهتفون :
    بدنا نمشي عالمازوت ** و اللي بدّو يموت يموت .
    البقّال والقصّاب وأصحاب البوتيكات - التي تستلف منها زوجتي – سيلحظون وجودي و سيهتفون بصوت عالٍ:
    يا أستاذ تكرم هالعين ** اليوم نقدي و بُكرا دَيْن.
    زوجتي – الوطنجية حتى النّخاع – ستقود موكب النّسوة هاتفة :
    طلِّقني لآخر مَرّة ** العيشة معك صارت مُرّة
    حشد ثائر من الفقراء الذين لا يحتملون الضرائب الجديدة سيتعمّدون إيصال أصواتهم إلى السائرين في الصف الأول و سيبحّون حناجرهم صارخين :
    بدنا نحكي عالمكشوف ** ضرائب ما بدنا نشوف .
    شلّة من شباب (الهمبرغر ) سيطلقون الصيحات :
    يا أسامة سلِّّم حالك ** راح ناكل هَوَا كرمالك .
    ستفشل المظاهرة وأنا لن أسمح بذلك .سيحين دوري . سأجد شابا ضخما طويلا عُتُلا يحملني على كتفيه وسأدلّي ساقيّ على بطنه.
    سأكشف المشهد من منبعه إلى مصبّه ،ستتطامن الرقاب إليّ،و ستخشع الأصوات في انتظار ما سيندّ عن شفتي .
    سيستغرب السائرون في الصف الأول هذا السكون المفاجئ وسيلوون أعناقهم إلى الخلف لاستطلاع ما يجري .
    ستدور الألسنة و آلات التصوير باتّجاهي .سيدهشني أن أتبوّأ عرش الاهتمام و أن أُصبح بؤرة الأنظار و محور التعليقات والتوقعات وستطرب الآذان و أنا أصرخ بأعلى صوتي :
    حتى ما يدوسوا الشوارب ** هاتوا سلاح بدنا نحارب .
    ستبحّ الحناجر و تتقطّع حبال الصوت و سيزمجر الحشد وستشق الهتافات أجواز الفضاء ولسوف يزداد تدافُع المتظاهرين و سيختلط الحابل بالنابل ويتعثّر الشيوخ و الأطفال و ستعلو نداءات الاستغاثة و ستزعق سيارات الاسعاف المسموح لها بأن تمشي على المازوت و سيهبّ المنقذون لنقل الجرحى .. لا بأس .. لا بأس ..وإن يكن ! فلا حلاوة بلا نار و لا مظاهرة بلا أضرار .
    سيَغار منّي أحد المطربين ويشعر بأنني سلبته الأضواء و سيعتلي الرقاب صارخا :
    يا جماعة .. يا جماعة .. غنّوا معي :
    ويلك يا اللي تعادينا ويلك ياويل ** شبه النار تلاقينا بظلام الليل
    حِنّا للسيف .. للسيف ** حِنّا للضيف .. للضيف
    حِنّا لليل و الويل يا ويل يا ويل ** يا ويل
    حِنّا نعادي اللي يعادي ** ونصادق مين اللي يصادق
    صحّ يا رجال ؟ ** أيوه صحّ .......
    ستتجاوب الجماهير الكادحة مع المطرب الرخيم الصوت أيّما تجاوب و سأصرخ أنا بصوتي النشاز كمن يُؤذّن في مالطا و سيضيع صوتي أدراج الرياح و سيقذف بي حاملي كيفما اتّفق ليلحق بحلقة الدّبكة ؛سيدير ظهره لي قائلا: لا صوت يعلو فوق صوت الطّبل .
    ستنقسم المظاهرة إلى حلقات يتوسّطها الطبل و المزمار و الدُربكّات المُعَدّة سلفا و تُشكّلها خصور تداعب خصورا وإناث تُغامز ذكورا .
    المسؤولون أيضا سيشاركون في الدّبكة سيتمايلون في حركات رزينة مدروسة أمام الشّعب و سيأمر صاحب الأمر بمكافأة سخيّة للمطرب الموهوب الذي هدّأ الخواطر و أخمد البراكين الثائرة و أطرب النفوس الفائرة و ربما يأمر بتعيينه وزيرا للثقافة و الفنون الجميلة أو ربما يعيّنه نائبا في البرلمان أو .. أو ...
    أما أنا ( يا شحاري يا أنا ) ويا ويلي ويا سواد ليلي .ماذا سيحلّ بي؟!
    سأُطرَح أرضا وسيتكالب عليّ الحُرّاس والغيارى على الأمن و النظام ولسوف أغدو كالوسادة التي يتدرّب بها الملاكمون وسأُعجن باللكمات و الرّفصات وأُسحَل أما الراقصين و الراقصات و لن ينتبه لمصابي أحد .
    وربما تتسلّل الرحمة إلى قلب صاحب الأمر فيأمر لي بالسجن المؤبّد و ربما يقول :أطلقوا سراحه بعد أن تقطعوا لسانه و نَسْله!
    وفي مطلق الأحوال فإن قرار الاتّهام سيُختصر بجملة واحدة : تأليب الأنام لقلب النظام .
    و بعد انفراط حلقات الدّبكة سيفترش الناس الأرض و سيلتحفون السعادة ، لاحسين شفاههم ، متلمّظين متلهفين للمناسف العامرة باللحم و المرق والمكسّرات مكافأة لهم على المجهود الذي بذلوه في سبيل القضايا المُحقّة ثم سيمضون إلى بيوتهم حامدين شاكرين و بالنعمة محدّثين ، على أمل مجزرة جديدة تُخرجهم من بيوتهم للترويح
    عن النفس و لملء البطون في جوّ كرنفالي شائق ومشهد خيالي لذيذ تختتمه زوجتي بزعيق يخرق طبلة أذني ويجعلني أنتفِضُ مذعورا من مكاني :
    هيه.. ما لي أراك مُتحجِّرا كالصنم ترنو إلى التلفاز و تضحك وحدك كالمجنون ؟!
    سأقف على رِجليّ متحسّسا لساني و.. نَسْـلي ثم أبتسِم في وجهها قائلا بهدوء:
    لا شيء .. إطلاقا .. لا شيء . إنّما كنت أنتظر نشرة الأخبار .

  2. #2
    الصورة الرمزية حسام القاضي أديب قاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+الكويت
    العمر : 63
    المشاركات : 2,213
    المواضيع : 78
    الردود : 2213
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي

    الأخ العزيز والمبدع الرائع / سعيد أبو نعسة
    تحية عطرة
    ما زلت يا صديقي تمارس هوايتك معنا ألا وهي إستدراجنا إلى عالمك ببساطتك وسلاستك المعهودة حتى إذا ولجنا إلى عالمك لا نخرج منه أبدا كما دخلنا فلا بد من حصد بعض الأشواك الممتعة التي تأبى إلا أن تنثرها في الطريق.
    س عنوان لكل ( سوف ) لا نفعلها أبدا السلبية الشاملة في كل شيء.
    أصبحنا لا نفعل شيء سوى المشاهدة أدمننا مشاهدة نشرات الأخبار حتى تعودنا رؤية الفواجع التي تحدث لنا ،وأقصى ما نستطيعه هو محاولة تحويل القناة .. نقبع تحت سيطرة أحلام اليقظة فهي الطريق الوحيد لتغيير الواقع س ، وس ، و س ، ولا نفعل أبدا أي شيء وهذا حال الشعوب المسكينة ( المستكينة ) التي استلسلمت استسلاما تاما حتى المفكرين فيها عندما قرروا الفعل جاء فعلهم أيضا من خلال التلفاز ( سأخف إلى شاشة التلفاز ...سأقبض حفنة من رماد الجثث المحترقةوسأحثوها فوق رؤوس المتظاهرين ) ولكن حتى في أحلام اليقظة ينهزم المفكرين و ممن؟ من أصحاب الحناجر الجوفاء ! وهكذا تستمر سخريتك المريرة والتي اراها ( كوميديا سوداء ) مرورا بمنتفعي الفواجع والكوارث ويظل البطل في أحلام يقظته يسوف ،ويسوف حتى يفيق إما على كارثة عامة تدمر كل شيء او كارثة شخصية تكون هي الزوجة ( أحيانا ) ثم يكمل المشاهدة أيضا !
    وكأنما كتب علينا أن نظل مشاهدين من المهد إلى اللحد .
    أخي العزيز أشكرك على الألم الممتع الذي سببته لنا .
    حسام القاضي
    أديب .. أحياناً

  3. #3
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    ابو نعسة.................

    لااعلم اين ...كلن في هذا المنتدى ..في مكان ما...كتبت اليوم عن ...س...سأ...

    المهم....
    س...سأ.... هذه آفة الشرقيين...

    انهم دائما ينخدعون بها...

    مؤمنين كعادتهم بانها تحمل لهم الوعد...

    انك ببساطة معانيك...وواقعيتها قد وصفت حال العشيرة...اقصد القبيلة...
    اسف اسف....الامة.....

    تقديري واحترامي لك ولحرفك

    جوتيار

  4. #4
    أديب وناقد
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    الدولة : بعلبك
    المشاركات : 1,043
    المواضيع : 80
    الردود : 1043
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي

    أخي الحبيب حسام القاضي
    تعليقك الشافي الوافي نص على النص يثريه و يغنيه و يكشف أبعاده و مراميه .
    و ماذا عساه يفعل الكاتب المحبط مثلي غير سخريته من نفسه و من الأمة .
    دمت في خير و همة و نشاط .

  5. #5
    أديب وناقد
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    الدولة : بعلبك
    المشاركات : 1,043
    المواضيع : 80
    الردود : 1043
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي

    أخي الحبيب جوتيار تمر
    أشكر لك هذا التعليق على حروفي .
    دمت في خير و عطاء

  6. #6
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,124
    المواضيع : 317
    الردود : 21124
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    حدوتة قصصية جميلة السرد والحبك بروح ساخرة تهكمية
    في نص متقن صياغة ومعنى
    اجتمعت السخرية والطرافة ليشكلا معا صورة كاريكاترية لواقع مؤسف.
    أحي قلمك السامق
    أبدعت ـ دمت ودام ألقك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي