من ذكريات طفولتي ______________
لأول مرة ..
كنت أنــــــــــام مبكرة .. ولا أسهر لساعات الصباح الأولى ...
أرقب نهايات الليل ... وانكماش الغسق ...وإيماضات الفجر الضاحك ...
عندما يتسلل بهدوء .. لأنسجة سمائي الحالمة ..
فوق الشرفات والشبابيك الملونة ..تنثر صمتها الضبابي ... حلم مصلوب ..
على صدر جذع خادر ..
كأحتفال الروح .. في غياهب العروق ...
فأنا أسكن في مدينة ....ليست بساهرة .. كما المدن الأخرى ..
تغيرت وانكشفت أمور عدة ...
عن زمان مسيرات أفراحنا الأولى .. وسكون أحزاننا الأخيرة ..
أصبحت مدينة صمت ..
تغفو كل يوم بعد آذان العشاء مثل حمامة .. على غصن شجرة غافلة ...
تنتظر أصوات قد تنفجر .. ورياح قد تهب ..
وادعة ... على أحلامها .. ترفض الهجرة .. والموت والمنفى ..معا ً ..
وأنـا بذات الزمن .. لم يكن من عاداتي النوم لهذا الوقت .. في محاولة مني ..
لقتل الكسل الذي يسكنني ... من فترة لأخرى .. بل صار رفيقي ..
دون معرفة إحساس .. لهذا السبب الطارئ ...
بقيت أتململ في فراشي ... ربما لدقائق ...
أفكر في .........
لا شيء .. فقط ساكنة .. تسرح عيني .. في فضاء غرفتي الهادئة ..
كنت أشعر خلال حركة عيني .. بدوامات ألم .. في كل أجزاء جسمي ..
ولا أتذكر لماذا ..
حاولت النهوض ... على يدي .. فأحسست برعشة كهرباء ..
تصعق إدراكي ..
نظرت ليدي .. كانت لفافات من القماش الأبيض .. تفغو بها
و بدأت نجوم مضيئة تتراقص أمام عيني ...
إذن أنا أعاني من كسر في يدي ... وقدمي .. أيضا ..
ونوبة من الدوار ...
فاسترجعت ذاكرتي أسباب نومي الباكر ...
قبل يوم ... هويت من السلم بسقطة تراجيدية ...
إثر نزولي مسرعة لاهثة إلى الأسفل ...
كنت حينها فرحة بعودة أبي من سفره الأخير ..
بعد أن كنت قلقة ... لأنه سافر هذه المرة لوحده .. دون أن يأخذني معه ..
على حسب عادته ...
خوفا ً عليه بعد أن أصبحت طرق سفرنا الداخلي ... أكثر وحشة .. وخطرا ً .. من مغارات لصوص الصحراء ..
....................................
سقوطي ... وصمت لحظات ...ف بكائي المرير كطفلة صغيرة .. ثم مستشفى وتداوي ... فرجوعي إلى البيت .. حزينة غاضبة على نفسي ..
فنومي العميق ... هذا ..
في حياتي كلها ... وهي 29 عاما ً .. إلى الآن ..
لم يحدث لي كسر إلا في بدايات طفولتي الأولى ...
وكان كسرا ً في رسغ يدي .. وكعب قدمي ..
في مكان موحش ومهجور .. ومن على شجرة ( توكي )* أحمر عجوز لأفرعها طرق وجسور ..في بيت مجاور لبيت جدي ..
لكن مهلا ً... فشتان ما بين البيتين ...
كان بيت جدي .. كحدائق تجاور القمر .. في منطقة هادئة نسبيا ً ..
يطلق عليها أسم ( الوزيرية ) ..أصغر بيوتها ب 1000 مترا ً مساحة .. بفناء واسع ... وأشجار عالية ..
تتوزع على جانبي الطريق المؤدي لمدخل البيت ترحب على إستيحاء بالزوار ..
وكان زقاق جميل .. كقطعة فردوس نائم ... في أعالي سماء ...
حتى عصافيرها .. بمختلف الأنواع والأشكال ... وحتى الألوان ..
تزقزق من بدايات الفجر ... لنهايات مغيب أصيل الشمس ..
كانت أمي تأخذني لبيت جدي في فترات ليست بمتباعدة ..
ولمحبتي الشديدة في البقاء في جنة جدي .. تلك ...
ولعدم حصولي على صديقة بعمري في الحي الذي كنت أسكنه ..
كنت أهمس في أذن جدي دائما ًأن يطلب منها بقائي في بيته ..
ليوافق هو بسعادة غامرة في الحال ..
أما أمي فقد كانت ... تخاف والدي ... الذي كان لا يقبل ببقائي هناك ..
حرصا منه على تربيتي الخالصة على يديه ..
ولأنه كان يكره أفكار جدي المتصوف والمتطرف .. حسب رأيه ...
وكان يخشى أن آخذ منه أفكاره .. ومنطقه ... وحتى لغته ..وهذا ما حصل بالذات .. فكنت نسخة عن جدي .. بعقلي .. ومعتقداتي ..وروحي .. وثقافتي ..
صورة طبق الأصل ... عدا الصبر ..
وكنت ألعب في فناء منزله الكبير ... بحرية مطلقة .. وتعرفت على صديقة هناك كانت تكبرني بعامين ..كان أسمها ( عالية ) تأتي لتلعب معي ..
بيتها مقابل بيت جدي .. رقيقة .. وساذجة .. لا تعرف غير اللعب والثرثرة ..
في البداية ..كنت أقضي نصف نهاري الطويل معها .. على أن أذهب لجدي .. ليقرأ لي بعد العصر قصصه الرائعة .. ويعلمني الكتابة والقراءة .. بينما هي كانت في بداية الصف الثاني وكانت لا تهوى المعرفة .. والعلم .. قال لي جدي عنها .. لا فائدة ترجى منها ... هي لا تصلح إلا لللعب .. ولن تتعلمي منها أي شيء ..
وكان أخوها الصغير بعمري .. ( غازي ) طفل لم أحبه على الإطلاق .. ولم يوده قلبي ... منذ لحظات تعارفنا الأولى ...
ولد مشاغب ... بغيض ...بوقاحة .. لم أعهدها من قبل ...
لا يمشي على الأرض أبداً ..
يصعد على الحائط تارة.. وينط على الأرض ويعدو كحصان جامح تارة أخرى ... يتسلق الأشجار مثل طرزان ..
بل كان جدي يسميه( شيتا ) ونصحني أن أبتعد عنه .. قال لي أنك تعظميه عندما تسميه طرزان ..
وقد أظهر كرها ً لي منذ بداية تعارفنا .. وكان يقول عني إني ابنة التركي البغيض المغرورة .. والمدللة ..
وكان دائم الحيلة .. عفريت صغير .. كان له منطق في الكذب .. ومذهب في النفاق .. يدير رؤوس كل الذين حوله .. كانت أمه .. التي تشبه أبنتها .. ( عالية ) صديقتي تلك ..
إمرأة طيبة ...
تصـّدق كل ما يقوله .. من أكاذيب .. وتهويل للأمور و الحقائق ..
وكنت أرى تعابير التصديق في وجهها الطيب .. وهو يحكي لها عن ما يحصل له ..في يومه ..
واكتشفت ُ بعدها .. إن سر هذا التصديق ..والموافقة على كل ما يطلبه .. بأنه كان الولد الوحيد لديها .. لأربعة بنات ..
فكان السيد المطاع .. لديهم .. يأمر بأي شيء ... ليلبي الجميع أوامره .. ففهمت ُ أنه أُفسد لكثرة تدليلهم له ...
وكانت لا تأتي فرصة نكون فيها معا ً .. إلا تطاول علىّ ...وعندما أنهره بالكلام يشد ظفائر شعري بقوة .. لتنهمر دموعي ..بقوة ...واصرخ ..أنادي أمه ... ليدعي أنني كاذبة .. وأنه لم يمس شعرة من شعرات رأسي .. وأني طلبت منه الذهاب ( لبيت فاطمة المهجور ) ولم يقبل .. وكان بيت ( فاطمة المهجور ) هذا منزل امرأة رائعة الجمال ماتت وهي عروس ... في ليلة زفافها .. كما قد روت لي ( أم عالية ) القصة ...
أجبرت ( فاطمة ) على الزواج برجل قبيح عجوز .. له أملاك لا تعد ولا تحصى .. وكتب مهرها ..هذا البيت الذي يجاور بيت جدي ..
لكنها فيما يبدو فضلت الموت .. على الزواج بهذا الرجل ..
وقالوا لي أنه سافر حزيناً.. لفقدها إلى( لندن ) ...
من يومها وهو غائب عن البيت ولم يعد .. وأستقر هناك ...
ليظل البيت على حاله .. إلى أن أصبح موحش مظلم في الليل .. وقديم ..
لا يسكنه ... إلا حارس متوسط العمر .. وأمه ..
بسياج عالي جدا ً .. كثيف الأشجار والأدغال .. مستواها يصل لأعلى من السياج .. وسور الحديقة الكبير ..
تنمو بداخل سوره .. شجرة توكي أحمر غريبة .. كبيرة الحجم .. بشكل مخيف .. ومتشعبة ... كنت أظن حينها .. أنها شجرة إلى ما لا نهاية ..
حتى أن نصف جذعها .. قد خرج من بطن السياج ..
إلى خارج المنزل .. قطرها كبير يصل إلى متر تقريبا ًبتحدبات وتقعرات غريبة ..
أسفلها يابس .. وأعلاها أخضر تسكنه الطيور .. في عملية تضاد تدهش الأبصار ... وتأخذ بالألباب ..
تتوالد فيها طرق وجسور ... كما كان يقول ( غازي ) .. يستطيع الرائي أن يشاهد من أعلاها كل( بغداد ) بحسب روايته ... وأغراني كلامه .. وتمنيت وبدأت أفكر كل ليلة .. في صعود شجرة التوكي هذه .. ومشاهدة بغداد .. تلك .. وكنت أظنها إمراة ..
وأنها .. هي فاطمة ... في ثياب بيضاء حريرية .. في روعة ربيع قادم .. وأزهار حدائق جدي .. وقصصه المخملية .. ما قبل النوم ..
وأنها رائعة الجمال .. في هالة من الضوء ... وهدوء القمر ..
كان خيالي .. يسرح بي كل ليلة إلى تلك الشجرة ...
أحلم بالصعود إليها .. ومشاهدة الفردوس المفقود في مخيلتي ..
ورحت أسأل و أبحث كل يوم ... عن ( غازي ) .. رغم كرهي له ..
لأشاهد.. وأراقب عملية الصعود ... إلى شجرة التوكي .. ومعرفة طرقها وممرات الدخول لبيت فاطمة المهجور .. كنزي الجديد .. بعيداً ... عن أعين الحارس .. ومزاجه المتعكر دائما ً ... ووجهه الذي لا أذكر ملامحه .. من كثرة خوفي وأنا أسمع صوته المزمجر ..
وكانت أمنيتي .. وحلمي الوحيدة التي أخفيتها سرا ً .. حتى عن جدي ...
توسلت لأول مرة به .. أن يأخذني في رحلته اليومية .. فوافق بعد ممانعة ..
وأتفقت مع( غازي ) سرا ً .. في صعودي لتلك الشجرة .. وطلبت منه أن يفكر لي في حيلة ... تمنعني من الخروج كل يوم مع جدي .. وأعطاني حيلة مجاناً ..
فقد كان يمتهنها .. كانت عينيه .. تلمع إثارة .. وهو يقص على مسامعي ..
الخطة ..
وفي يوم .. خرج جدي لبستانه .. أدعيت المرض .. وعدم قدرتي على المشي .. فأستغرب لذلك ..
وآراد هو الأخر أن لا يذهب لبستانه .. ليبقى قريبا ً مني ..
لكني أستطعت بحيلتي .. أن أجعله يخرج ....
كانت لحظة خروجه ... كلحظة مجيء العيد وقتها ..
وأخيرا ً ..
سأحقق أمنية الصعود لشجرة التوت ... وأشاهد فاطمة ..
أقصد ( بغداد )
وجاء ( غازي ) ليأخذني لنصعد الشجرة ..
كانت عالية جدا ... لكنه بخطواته الرشيقة .. كقط بري ... كان قد وضع أشارات .. لأماكن الصعود الرئيسة ...
وصعدت معه .. وبدأت أخاف كلما أصبحت أعلى أكثر ..
لم أشاهد إلا البيت .. بأسطحه ... وكانت الشجرة قد أرسلت فروعها القوية .. للجهة الغربية .. من البيت .. وفيه بيت الحارس ..
مرت عيوني .. على خرائب .. وأحجار . .. وأدغال صفراء .. وخواء ..
وكان لا أثر للحياة ..في أية جهة .. منها ..
بقيت أمرر عيني من الأعلى ..ثم الى الأسفل ... فجأة ..
لمحت أمراة .. بلباس أسود .. وشعر أبيض ..
كانت تحت الشجرة .... وكانت قد أنتبهت لوجودي .. في أعلى الشجرة ..
فصرخت هي بصوت عالي .... وصرخت أنا معها ..
يالله ... !!!!!!!!!!!
أهي فاطمة ... ؟؟
أيعقل .. ؟؟؟؟
تلك العجوز الشمطاء ..
كانت بشعة .. بشعرها الأبيض ..
وثوبها الرث الأسود ...
وأخاديد وجهها الأصفر ..
وكان عويلها ... قد حفزني .. لأن يضيع عقلي ... مع الصراخ ..
وبدأ ( غازي ) الكاذب .. الهروب ضاحكا ً .. وأختفى بلمحة بصر ..
وليختل توازني ..
ولأهوي أنا إلى أرض فاطمة .. وتكسر يدي .. وقدمي .. ويتلطخ وجهي وجسدي في طين .. تلك الأرض ..
.....................
بقي جدي مدة طويلة مندهشا ً عندما سمع مني القصة .. باكية ..
وعلى إيقاعات غضب والدي .. من أمي ..
بأن جدي .. لا يصلح .. أن تبقى معه .. طفلة بحجم شقاوتي ..
انتهى عهد السكون والبقاء في بيت جدي ..
كان درسا ً قاسيا ً ..مؤلما ً لي
ربما لأن خيال الطفلة الذي سكنني .. كان خـــــــــــاطئ تماما ..
ولأني كذبت لأول مرة ... على جدي ..
ولأني ما عدت أبيت عند بيت جدي .. من وقتها ..
إلا بعد 14 عاما ً .. من حادثة شجرة التوكي هذه ...
• في لهجتنا العراقية ..
• نسمي التوت الأحمر ( توكــــــّـــــــــــــي )
عشتار البابلية