هاج نحل خلايا دماغي، وانغرست إبر لسعاته في عظامي، وغاب عن البال طلب البرء أو التّداوي، حين ماجت الذّكرى، وفتحت جراحات من أحاطهم القلب بهالات الودّ والتّسامي، وأرشفهم رحيق محبّته، وإخلاصه أياما وليالي... فآثر صاحبه أجاج البعد، وفضّله على عذب تجديد التّداني، وعَشقَ التّسهيد على ذكرى الوداد، وما غَزَلَ من جميل الأماني؛ رغبة بإبقائها حيّة تروي العطش للأيّام الخوالي، ولتطفئ نيران ثورة لسعات مسببّات التّجافي... وخوفا من الكفر بقيمة جوهرة يتزيّن، ويعتزّ بها بعض من الأنام، وتراهم بها كثيري التّباهي إن ظلّت تزيّن تاج الإخلاص والتّفاني...
كتبوا عنه الكثير، وجاءوا بالحكم والأقاويل... وكلّ في جعبته ما يسرّه أو ما يبكيه. منهم من اعتبره الكساء الذي يستره ويحميه، والبيت الذي يأويه، والجوهرة التي تغنيه، وإن خسرها، كلُّ تعويض لا يجديه، ولهيب مشاعر حبّه لها يكويه.
ومنهم من اعتبره الجواد الذي يمتطيه حتّى تحقيق ما يبغيه ، ولا يهمّه إن كان بعد ذلك قتيلا يرديه؛ طالما نال منه كلّ ما يشتهيه...
واحتار الناس في تقييمه بين مؤمن بأفضاله وجميله، وكافر ببرّه ووجوده... وباتوا حيارى بين الإثبات والنّكران، ونظموا في ذلك الأشعار...
صادُه صِدقٌ ينسج خيوط الوداد في كلّ تعامل دون اجتهاد؛ لتغدو المشاعر بعيدة عن بريق الزّيف، غارقة في بحر الهناء الذي يغدق دون تسويف. وتصبح الحياة جنّة محبّيها، وملهمة عاشقيها، وفردوس مقدّسيها... لا شيء يعكّر صفو مريديها، ولا ضباب يحجب الرّؤيا عن عيون ناظريها.
وهي الصّبابة للعيش الرّغيد برفقة تزيل الشّجن عن القلب الحزين؛ مخاطبة النّجوم... تطلب ضوءها؛ لتزيل الغمّة وتلقي بها في أحضان كوكب بعيد يشحنها بنور الفرح، ويصقلها من جديد، ويعيدها إلى الصّدر بهجة دائمة تتحدّى أيّ تهديد، وتهدهد إرهاق المتعب، وتزوّده بالشّعور السّعيد...
داله درع يُحتَمَى به من النّائبات، وصروف الدّهر، والمعضلات. ويقي ما يهاجم الجسد من سوداويّة فكر قد ترهقه، أو سواد فعل من أعداء قد ينهكه، حين يواسي ويؤنس الوحشة ويزيل الغمّة، ويقف مدافعا في وجه من يبغى له الكربة.
وهي الدّواء وقتما يحاول الدّاء نهش الجسم، وإبقاءه خواء؛ إلّا من تباريح الألم وضعف الهمم.
ووقت قيظ الفكر، وتعب الجسد الدّوحة التي يستظلّ بظلّها ... وخير زاد لجائع يؤمّها...
ياؤه يمّ من الجود والخير عند شحّ الموارد، إنّه المنهل الذي ينهل منه ولا ينضب... هو يمّ الحُبّ حينما تجفّ ينابيع القلب، ويعتريها التّصحّر، ويضطرّ الملهوف للّجوء إليه؛ طالبا السّقي والإرواء، فلا يبخل بدلاء الإغداق والعطاء...
هو اليسر لكل عسر... إن ضاقت الدنيا وغلّقت أبوابا، فإنه يفتح منها الكثير؛ ليلج المحتاج، وهو يشعر بالتّيسير، وينسى كلّ تكدير، ويظلّ الكرم الذي يلغي البخل والتّقتير...
قافُه قدوة حسنة لمن أراد أن يقتدي، ويحظى بالخير والبركة. هو لفعل الخير سبّاق، وللنّجدة يهرول باشتياق، ولكلّ نخوة نهر دفّاق، ولا يبغي سوى المودّة بين النّاس والوفاق، ليبقوا خير الرّفاق، فلا يسود الحقد والنّفاق...
إنّه الصّديق... الكنز الذي يختلف عن غيره من الكنوز، فهو لبيض الأيّام وسودها، إذا ما حافظ على جودة جواهره؛ إضافة إلى بريقها. يحفظ رسمه داخل إطار، ويعلّق على جدار القلب؛ كي يحظى بكلّ دفقات المحبّة والحرص. وتقع الطّامّة الكبرى حين يحاول يوما ما كسر هذا الإطار والخروج منه. عندها، يسبّب للقلب نزيفا قد يستصعب الأطبّاء إيجاد العلاج له. وقد يرفض النازف تقبّل الدّواء، إن وُجد، لغضب يشعره بعظم البلاء... فتتحوّل صاده إلى صحراء ، تتيه فيها المشاعر، وتتناثر مع حبّات الرّمل التي ينسفها الهواء نسفا. وربما تلفحها حرارة الشّمس، فتَصلَى صليّا، وقد تحرق صاحبها حرقا...
وتغدو كذلك صدّا لما ينبعث في القلب من شعور؛ ليؤمن بالصّديق من جديد، فيبقى رهن العدميّة، بعد أن كان طليقا ينشر خلجاته ورغباته بكلّ راحة وحريّة.
وتصبح دال درع الحماية، دال دوّامة، يحوم فيها كالمخذول، بشعور المهزوم، وبأس المظلوم، ونادبِ الحظّ المشؤوم. وقد تصبح ديمة تمطر أسى ولوعة، كلّما غام الفكر، وطمع بمطر ينعش قحط الأحاسيس وجفافها.
وياؤه تَبيتُ يأسا يطفئ نور الأمل الذي كان يصاحب كلّ خطوة، ويمنعه من ارتكاب أيّة هفوة، ويد المحبّة ممدودة تنال الحظوة، أنّى سار وفي كلّ وجهة.
أما قافه فتمسي قلقا يساور المخذول، ويجعله يخشى من يقترب منه؛ خوفا من غدر جديد يتعبه، أو ضربة توجعه، أو قسوة تؤرّقه.
وربّما أمست قسوة تجعل الثّقة بالآخرين محالة، والتودّد لهم قد يكون لغاية، فلا أحد يستحقّ منه العناية، ويراوده هاجس أنّه في غابة...
وتظلّ النّفس توّاقة لجنّة الصّدق والرّزانة. لكنّها، تخشى جحيم الخيانة التي لا يجديها نفعا بعد كيّها، تأنيب النّفس اللّوامة. لذا، يغلب توقَها الحرصُ وحسنُ الدّراية، فتفضّل البقاء على ذكرى من شاركتهم حديقة الودّ، ورموا ورودها في قبر الوأد، وإن عيل صبر تلك الذّكرى، وراحت توسوس للعقل بعِظَم البلوى، وخيانة الأمانة...