بين صفريّة الموجود ومئويّة المنشود
في لحظة من لحظات التّفكّر والتّفكير في حياتنا، قد نحسّ بصفريّتها؛ لأنّنا نريد مئويّتها.. وبين الصّفر والمئة نضيع، ونضيّع كلّ ما بينهما. وذلك؛ لأنّ لحظة التّفكير هذه قد يلفّها ويدثّرها أخطبوط السّخط، والغضب، والحزن على ما ينقصنا من تحقيق لرغبات دفينة. وحين نلقي بهذا الدّثار جانبا، وننتبه لما نمتلكه - ما بين الصّفر والمئة- نجده كثيرا... وهذا يغيظنا؛ لأنّ حاجة معيّنة نفتقدها تجعلنا في ضبابيّة فكريّة، تحجب عنّا نور وضوء ما نملك، سواء أكان هبة من ربّ العالمين، أو أمرا رغبنا فيه وحقّقناه، وكان ميزة لنا يحسدنا عليها الحاسدون، ويتمنّاها الرّاغبون...
يحرم بعض الأطفال الحنان في صغرهم.. يكبرون، ويكبر معهم هذا الشّعور، حيث ينفخونه ويخزنونه في خوابي معتمات، ولا يسمحون للنّور باختراقها.. يهربون إليها، ويستأنسون بوحشتها، وظلمتها، حين يسلّط عليهم النّور الذي يرفضون مصابيحه. وكأنّهم على عهد الحرمان، وتجميد العواطف باقون.. ولكلّ دفء المشاعر التي تمنح لهم رافضون.. وعن كلّ ما يحرّك مشاعرهم الطّيّبة يعمهون.. وأبواب الفرح يصفقون، ويقدّسون طين الشّقاء الذي جبلت عليه نفسيّاتهم القاتمة. ويقضون الحياة على ما مضى يتحسّرون. وعن أجسادهم التي أوجعوها وسربلوها بأشواك تذمّرهم وسخطهم، لثياب الخزّ التي تأتيهم عِوضا هُم ممزّقون. ويظلّون للحظّ نادبين، وربّما بمأساتهم مستمتعين؛ لأنّهم أصبحوا عليها مدمنين. ويضيع العمر مع ضياع مشاعرهم؛ ليصبحوا عند اقتراب نهايته نادمين.
يخفق قلب الفتى أو الفتاة حين تلامس أنامل الحبّ شغاف هذا القلب طريّا، فيحتضن الحبّ حتّى يعشّش فيه، ويتخذ من شرايينه صنابير مودّة وعشق يغدقها على الحبيب، ويُغلَّف العقلُ بغلاف القلب، وشفافيته تجاه مَن يحبّ، فيُمنَع من التّدخل لضبط تدفّق الشّرايين؛ لئلّا تنفجر يوما ما، فيقعد صاحب القلب مهزوما مذلولا.. ويبقى الجسم خاضعا لما يمليه عليه هذا القلب، فينسج العشق أوشحة السّعادة السّندسيّة التي تغطّي مثالب كثيرة، وتلفّ صعابا عديدة، وتحجب عن العين رؤية قبائح مقزّزة ورهيبة.
وتدور دائرة الأيّام، ويحرم القلب البقاء وتوأمه، فتنقلب الأوشحة السّندسيّة مطاطيّة تمنع أوكسجين حبّ جديد أن يخترق المسامات، أو أن يلامس هذا القلب. وتحرق الآهات والتّنهّدات جدران القنوات التي تخرج منها؛ ليبقى الاصطلاء ووهجه مانعين دخول من يحاول الاقتراب والتّطبيب.
وبعد يأس، وعيش بأس، وتخطيط وفحص، يرتبط صاحب القلب التّعس بزوج .. فالحياة تتطلّب التّكاثر والبقاء، واستقرارا قد يعوّض الخسارة والعناء. وقد يلعب والحظ لعبة رابحة، ويحظى بمن تحبّه، وتتمنّى أن تكون ظلّه، وتزيل همّه، ولكنّه يبقى حبيس وهم عشقه القديم، وتغدو مشاعره كالمطّاط الذي غلّف به قلبه، تمطّها وهميّة سعادة ما مضى، وتقلّصها واقعيّة ما أتى.. ويعيش شرذمة مشاعريّة، لا يجد فيها وهج نيران عشقه القديم، ولا ينفعه همس حبّ يمنحه محبٌّ جديد...ويطوي سنوات عمره ناقما على الموجود، ومتحسّرا على المنشود. ويظلّ وَهْم تحقيق مدفون الرّغبات هو المرغوب.. ويتذمّر لكثرة ما ينوء تحته ممّا جلبه لنفسه من المصاعب والخطوب.
يُحكِم الفقر أغلاله حول معاصم كثيرة مدّة وجيزة، ثم تفتح أبواب الرّحمة والفرج والإغداق على الأيدي المكبّلة؛ لتحرر وتبسط وتحظى بخيرات المشتهى والمرتجى، فتمتلئ الجيوب وتنار الدروب؛ أملا أن يغرس الفرح أوتاده في القلوب؛ لتبقى عامرة بالشكر، ولتمحوَ ما سببته أيّام ندب الحظّ والفقر من ذنوب.
بعد هذا كلّه، ترى الوجوه وكأنّها وشمت بالكآبة، والأجسام تتحرّك برتابة، ولا شيء ممّا تمرغوا لأجله على ثرى الدّعاء يجلب لهم السّعادة.. لا يكتفون بما نالوا، وألسنتهم تلهج: هل من مزيد؟ بل تراهم في فلسفة فقريّة يقولون: لو كان هذا فيما مضى، أيام أرّقنا العوَز والجوى.. فلا هُم في نعيم الغنى يرفلون، ولا ذلَ الفقر يطلّقون.. ومنهم من يجبرهم الحرص على خزن ما كسبوه؛ لأنّهم يخافون أن يفقدوه... ويظلّون دائمي التّفكير بما عانوا ويعانون، فلا هُم مع المال متأقلمون، ولا لحياة شحّ مَوارده ناسون... وخوفا من فقد الموجود، يعيشون الفقر؛ ليحافظوا على الغنى الذي أخفيَ، ولا يظهر للوجود.
وتظلّ النّفس على أرجوحة تحقيق الرّغبات، تتأرجح على أغصان الحيرة فيما تملك وما تريد، وربما ظلّت تدور في دائرة هل من مزيد؟!