|
عامانِ مرّا والجروحُ كأنّها |
بالأمسِ كانت لمْ تزلْ تتدفّقُ |
وطني تحاصركَ المواجعُ والأسى |
من كل ناحية رباكَ يطوّقُ |
لم تبكِ عينُك رغم جفنٍ موجعٍ |
لكنّ فيها عبرةً تترقرقُ |
هل كان هذا الشطـُّ يعلم أنهُ |
رُغم السفينة والقواربِ يَغْرقُ؟ |
من أخبرَ البحّار أنّ شراعهُ |
كلَّ احتمالاتِ الرياحِ سيسبق؟ |
أنّ السماءَ غيومَها محدودةٌ |
وبأنّ دفء الشمسِ هاهو يشرق؟ |
لَمْ يَستمعْ للأرض وهي تشدّهُ |
للبَرّ وهي على السفينة تُشفقُ |
ومضى يجدِّفُ في يديهِ مرارةٌ |
ويُشعُّ من كفّيه ضوءٌ أزرقُ |
غطّى السماءَ نزيفُ غيمٍ أحْمرِ |
الأمطار أوردةَ الغيومِ يُمزِّق |
وانهالتِ الكدماتُ فوق شراعهِ |
ومع اشتداد الريحِ صوتُهُ يُخنقُ |
الجزْرُ لَمْ يترك لهُ من دفّةٍ |
واستنزفَ المجدافَ مدٌّ مطْبقُ |
وبكتْ عليه الأرضُ فهي كسيرةٌ |
ومشاعرُ الشطـِّ الحزين تُمزَّقُ |
كَم نورسٍ رفّ الأسى بجناحهِ |
شجنٌ على شجنٍ فكيف يُحلّقُ |
ضاعت حكاياتٌ وماتت رحلةٌ |
وتناثرت سحبٌ وأجهشَ زورقُ |
هل يشتكي للبحر مِن أوجاعهِ |
أم أنّ أوجاعَ المرافىء أَعْمَق؟ |
هل يستطيعُ البرقُ هَجرَ رعودهِ |
هل لاندفاع الريح بابٌ يُغلق؟ |
كم كان صوتُ الرعد يَصرُخُ باكياً |
والبرقُ يلتحفُ السماءَ ويُحْرقُ |
هل أصبح البحارُ محضَ حكايةٍ |
وجعٍ على وجعِ الرفوفِ يُعلّق؟ |
رُغم اعتذار البحرِ عن آلامهِ |
ما عادت الدنيا أساهُ تُصدّقُ |
وطني وروحُ الشاطئينِ تغمّدت |
أنفاسَ رملٍ من شجونكَ يعْبقُ |
ظنّت بأنّ الوعدَ حانَ قِطافهُ |
أُخذت على مرأى الأزاهرِ تُشْنقُ |
تلك الجزيرةُ جَفّ في أشجارها |
وهجُ الغصون فما بضوءٍ تخفقُ |
والفأس لم ترأف بجذعٍ ضارعٍ |
فَهَوتْ عليه بقسوةٍ لا ترْفقُ |
عامانِ مَرّا والطيورُ كما مضى |
مازال قوتُ اليوم منها يُسرقُ |
عذراً فإني في المسافةِ موصدٌ |
يعدو على قدميّ دربٌ مُرْهِقُ |
أمضي وتتركني المسافةُ تائهاً |
لكأنّما بيني وبينك خندقُ |
أمضي وتَجْلدني الطريقُ بصمتها |
وإذا عبرتُ شجونَها لا تنطقُ |
الطيرُ والأغصانُ والأزهارُ والبحّارُ |
كَمْ قَدْ للربيع تشوّقوا |
عامان مَرّا والمسافرُ لَمْ يَعُدْ |
مازالَ في وَجَعِ النجومِ يُحدّق |
ينتابهُ وجعُ المساءِ فيرتمي |
ليلٌ يئنُّ وموعدٌ يتشوّقُ |
وطني التمستكَ في الموانئ لم أجدْ |
إلا شجونكَ والجميع تفرقوا |
الراحلونَ بحزنهم وبشجْوهِم |
كانوا هنا غيرَ العواصفِ ما لَقوا |
حَمَلوا المسافةَ عائدين إلى الأسى |
وجعاً بمجدافِ الرحيل تَعلّقوا |
ماذا تقولُ لَهُم وجُرحُك غائرٌ |
والأرضُ تحتكَ حَيرةٌ وتَفرّقُ |
من بعد أربعةٍ حَملتَ شجونَها |
ما زالت الأوجاعُ شطّك تُغْرِقُ |
كم كنتَ تأمل في الربيع بزهرهِ |
يهمي على الشرفاتِ منهُ رَونَقُ |
فهناك سوسنةٌ تبوح بعطرها |
وهنا يغرّدُ في الروابي زنبقُ |
يهمي اخضرارُ الغصنِ ضوءاً حالماً |
والطيرُ رائحةَ المُنى يستنشقُ |
وترى عصافيرَ اللقاءِ بشوشةً |
بجناحها فوق السهولِ تُصفِّقُ |
والشمسُ تُرسلُ للتلالِ بضوئها |
دفءَ التأمّلِ في الندى يستغرقُ |
الآن في صدر الأماني حرقةٌ |
قلبٌ بأوهام اللقاء مُعلَّقُ |
نظراتُ أفْق الملتقى مكسورةٌ |
فبأي عينٍ أي جفنٍ تَرمُقُ؟ |
الجَزْرُ مختنقٌ بموجٍ موجَعٍ |
والتيهُ بالمدِّ المهاجرِ يُحْدِقُ |
واستسلمت تلك الضفاف لحظّها |
وعدٌ نديٌ أم عذابٌ مُطَلقُ |
خَدعَ التلالَ سكونُ نهرٍ عابرٍ |
كم أُعطيتْ عهداً وأبْرِمَ مَوْثِقُ |
لكنه سرعان ما فاض الأسى |
ليزيد من وجع التلال ويُغْدقُ |
هذي المواجعُ لا تَملُّ رأيتُها |
في كلّ يومٍ جُرحَ بابكَ تَطرقُ |
صبراً فيوماً ما ستَنبُت نخلةٌ |
ويعودُ غصنُ الوعد فيها يورِقُ |
وتُطلّ مِن بين الصخور شُجيرةٌ |
تروي اخضرارَ الأرضِ غصناً يسمقُ |
مهما تحرّى الليلُ ضوءاً صادقاً |
بُحْ للنهار فإن ضوءَه أصدقُ |
تحيى المزارعُ رغم شُحِّ مياهها |
ماكان للأوطان روحٌ تُزهقُ |
هذا أنا البحّارُ فانشرْ سرَّنا |
مادامَ ضوءُ الشمسِ حياً يُرزقُ |