عندما بلغ العاشرة من عمره أدرك لأول مرة أن أباه قد مات..كانت أمه دائما ـ كلما سألها عنه ـ تقول له بأنه مسافر..وأنه ذات يوم سيعود محملا بالهدايا والحلوى...ثم تبعد وجهها عنه لتترك وجنتيها لدمع غزير..كانت تحرص علي أن يشب ابنها قويا كأبيه الراحل...الذي تركهما للدنيا ورحل للآخرة والصغير ابن عام واحد...تركهما في سن الأربعين وهو يحتفل بعيد الميلاد الأول لابنه الأول ـ والأخير.
تغيرت نظرة الصغير لصورة أبيه الراحل المعلقة في صمت حزين ـ كصمت القبور ـ في مواجهة سريره.أذابت دموعه كل شموع انتظاره...أطفأت بارقة أمل كانت تعوضه غيابه..بعدما أدرك أنه رحل ولن يعود.ازداد حبه لأمه الوفية لأبيه.بعد ما أدرك وهو يخطو خطواته الأولي نحو الشباب مدي معاناتها وعمق إخلاصها وشدة إصرارها علي رفض كل من تقدموا إليها طالبين يدها.
ـ أحتاج إليك يا أبي.يا من حرمني منه القدر.. نعم..لقد فاض علي حنان أمي وغمرني بدفئه طوال سنوات عمري العشرين..لكنه لم ينسيني مذاق حنان الأب..ذلك المذاق الذي اشتاق إليه كلما سمعت ابناً ينادي أباه...بابا..كلمة كنت أود أن أناديك بها..لكنك رحلت..تركتني وحيدا..إنه القدر..وقد علمتني أمي الصابرة الوفية أن أرضي به وأن أحمد الله عليه..فهناك أطفال بلا أب أو أم....كلمات ناجى بها أباه وهو واقف أما صورته في الذكري العشرين لوفاته.
سنون مرت..تزوج خلالها وأنجب طفلا..وفي الذكري الأربعين لوفاة والده نظر إلي صورته وبجانبها صورة أمه الراحلة وأخذ يناجيهما:
ـ أبي الحبيب..بل أخي العزيز..فنحن اليوم في سن واحدة تقريبا..لقد تزوجت ـ يا صديقي ـ وأنجبت.. وشهدت والدتي أول أحفادها قبل أن تلحق بك راضية مرضية..كل الناس يحبونني بفضل دعواتكما لي..ورغم ذلك فأنا لا أزال في حاجة إليك...ليس كأب فقط ولكن كصديق..أهمس له ـ وله وحده ـ بأسراري.. أسأله النصح..فأنا أحتاج لأخ مخلص..لم أجده فيمن حولي..وأنت حولي...ليس الغريب كالقريب..هناك أحياء ميتون..وأموات أحياء..وأنت منهم...دائما في عيني وفي قلبي وفي دمي..كنت ولا زلت وستبقي...تعال يا أحمد..أنظر إلي صورة جدك ـ أو عمك ـ واقرأ له ـ ولجدتك ـ الفاتحة علي روحيهما الطاهرتان..لقد كان أبا طيبا..وهو اليوم صديق لأبيك.
....
وكبر أحمد وتزوج وأنجب طفلا..وفي الذكري الستين لرحيل صاحب الصورة نظر إليها ابنه ـ الذي أصبح جدا ـ نظرة أكثر اختلافا...ناجاه :
ـ ابني الحبيب..كيف حالك؟..مرة أخري أحتاج إليك..كما احتجت إليك في طفولتي وفي شبابي ها أنا أحتاج إليك في كهولتي...كابن وصديق...وصاحب ورفيق..تكاثرت حولي المتاعب...وهن العظم مني..ولا زلت لعهدك وفيا..حفيدي مريض...لم ينم ليلة البارحة..وأنا بجواره..من السهر..وهو من الحمى..شفاه الله..لا أطيق رؤية طفل يتعذب...فكم تعذبت في طفولتي..أحتاج إليك كابن يساعد أباه..يسانده...بعقلية الشباب ونضوجهم..فأنت ما زلت شابا..وأنا..غزا الشيب مفرقي...منذ أن فارقتني وأنا ابن عام واحد..أحتاج إليك...يا حبيبي..في كل الأحوال.
.....
سنوات أخري مرت..وذات يوم أضيفت صورة ثالثة إلي جوار الصورتين المعلقتين..وقف أحمد أمامها رافعاً بصره نحوها.. في خشوع..ومن بين الدموع..يهمس : أحتاج إليكم.