الإرث القديم ... الماضي والحاضر
أمةُُ تقاذفتها الأمواج.. وتنازعتها الخلافات المذهبية والطائفية، بفضل أيدٍ خفية تعمل من وراء الكواليس.. تحق الباطل.. وتبطل الحق... مثل هذه الأمة كمثل رجلين يتنازعان بسبب خلافٍ كان بين جدَّيْهما منذ مئات السنين: هذا يقول: "جدي كان على حق....."، وذاك يقول: "بل جدي كان على حق...."، ولم يفكر هذان الرجلان في أن الجدين قد ولى عصرهما، ولم يبقَ إلا تاريخ يُكتب، وأحداث تُذكر، ولم يعد يجدي النقاش فيه.... وأمتنا اليوم تتنازع على إرث فكري قديم، وتتقاتل على خلفية ذلك الإرث: من هو الأحق؟ ومن هو المخطئ؟... ولم تفكر كيف قامت الدولة الإسلامية منذ بُعث الرسول (ص) إلى الورى كافة: حيث أقام دولة أسس أركانها، وأرسى قواعدها، وسنته باقية إلى أبد الآبدين، وجاء من بعده الخلفاء الراشدون، وساروا على نهجه.. وفاقت الدولة الإسلامية في عهدهم كل وصف.. وتعاقبت بعدها الخلافات الإسلامية المتعددة: قويت أحياناً وضعُفت أحيايين أخرى؛ بسبب التكالب على السلطة ،والتنازع بين شعوبها ، وتفرقت أُمماً وشيعاً.. وقامت الأحلاف والطوائف.. وصار لها ممالك وملوك.... إلى أن وصلنا إلى عصرنا هذا، وبلغنا ما لم تبلغه أمة من قبل ، ضعف وهوان.. حتى طمع فينا الصديق قبل العدو، وبتنا مسرحاً للصراعات، وتجارب لسياسات الدول الكبرى. تنازعنا حتى أصبح عدونا يخاف وحدتنا، فراح يزرع فينا بذور الفتنة والتعصب والتشيع، وينفث فينا سمومه، ويذكي الطائفية والمذهبية بيننا: هذا شيعي، وذاك سني، وهذا كردي... ويؤلبُ بعضَنا على بعض. ولم يدرك القائمون على سياساتنا ، وصناع القرار فينا هذه الفتنةَ، بل راحوا يتحالفون معهم.
اليوم يخرج علينا علماؤنا "الأجلاء" ليُذكوا هذه المذهبية "سنة وشيعة" ويأتون بفتاوى على مبدأ (مثلنا السابق) من كان على حق... ولم يدركوا القواسم المشتركة بيننا وإن اختلفت بعض الشيء... أليست شهادتنا بالله واحدة؟!! أليست قبلتنا وصلاتنا واحدة ؟!! أليست زكاتنا واحدة؟!! ونحج إلى البيت العتيق سوياً؟ وصيامنا واحد؟!! أليس عدونا واحداً؟
تلك هي أركان الإسلام التي نجتمع تحت مظلتها، وجاء بها رسولنا الكريم (ص)، وقامت عليها دولة الإسلام، وما خلافنا وفتاوانا إلا تنفيذاً لما يريده الطامعون بنا والذين يعزفون على الوتر؛ ليصنعوا لكل منا لحناً يعزفه.
يقاتل إخواننا في لبنان ويصدون أعتى قوة عسكرية بالمنطقة بهمجيتها ووحشيتها وإجرامها، وإخواننا صامدون في وجهها رسوخ الجبال الشم في الأرض، وأنظمتنا تتفرَّجُ.. بل تكاد تكون طرفاً غير مباشرٍ ضد إخواننا المجاهدين... وعلماؤنا يُفتون: هل نصرتهم حق وواجبة على كل مسلم!!! منهم من يقول: نصرتهم واجبة بالنفس والمال والكلمة، ومنهم من يقول: إنها مغامرات لا يتوجبُ على الأمة نصرتها!!!!
ولكن هل فكروا قبل أن يصدروا فتواهم أن هذا هو عدونا جميعاً؟! اليوم يفتك بإخواننا في لبنان وغداً يفتك بنا!! ويتفرد بنا شيعا وقبائل .
أمريكا اليوم تدعي أنها تريد عالماً جديداً قائماً على ديمقراطيتها المزيفة والمفخخة، وتريد إنشاء شرق أوسط (أوسخ) جديد وبيد من؟ بيد إسرائيل، وبمساعدة من بعض أنظمتنا؛ فالحرب على لبنان مشروع أمريكي إسرائيلي لرسم خريطة جديدة للمنطقة هي –في الحقيقة- أسوأ من خريطة (سايكس، بيكو)، والهدف منه هو القضاء على النظام العربي والوحدة العربية وتمزيقه إلى دويلات صغيرة قائمة على أساس عرقي ومذهبي، واستغلال ثرواته لمصالح أمريكا وإسرائيل.
ولكن السؤال: أين مكان هؤلاء المؤيدين والمساعدين لهذا المشروع؟ هل سيحكمون دويلات صغيرة؟؟!! بالطبع لا... بل سيقوم أسيادهم بإطلاق النار عليهم كما يفعلون مع الخيول العاجزة عن تأدية مهامها.
لا سبيل لنا إلا التوحد في وجه هذا المشروع، والعمل على بناء نظام عربي قائم على أساس إسلامي، واستغلال ثرواتنا لخدمة شعوبنا حتى نستطيع الصمود في وجه الهجمة الشرسة ضدنا من خلال مشروع أمريكا "الشرق الأوسط الجديد"، وعلينا نبذ الطائفية والعرقية، والتحلل من ذلك الإرث القديم الحاضر بيننا!! .
بقلم / فارس الحريري