طأطأ وريكا وكاظم بك
(العنوان مأخوذ من فيلم مصري، غير أنه لا يوجد أي تقاطع بين الموضوعين).
(كاظم بك) هو أحد بقايا تركة مملكة الباشاوات التي أزاحتها ثورة الفاتح من مارس, وكان رجلاً مهيبا لا ينال منه جانب أيام المملكة, تحيط به المحظيّات ذات اليمين والشمال، ومع سماجة وجهه الأسمر المنقط بآثار مختلطة بين بثور حساسية جلده الدهني وبقايا حب الشباب، فإنه يلعق ويتحسى كل يومٍ دوارق من شهد لا ينضب، وعلا شأنه وكثرت نساء قصره ذي البوابات الثلاث والتسع والتسعين مقصورة، وزادت مملكة محظياته من وقع هيبته، ولكنه ظل حزينا كاسف البال مدلّه الفؤاد بنار العشق، لأنه ما لبث يحوم ويصول ويجول، محاولا الوصول إلى (ريكا) راقصة المهرجان الكبرى، فقد علق بها منذ وقعت عليها عيناه، وحدثته نفسه بحيازتها إلى محظياته، لأن ذلك سوف يحقق له نصرا سريريّا وسياسيّا لا نظير له.
لكن ريكا بخبرتها في هذا النوع من الحروب ظلت تحتفظ بمسافة قصيرة بينها وبينه، المسافة التي تكفي لإسالة لعابه دون أن يتذوق شيئا، بيد أنها (في لقاءاتهما النادرة، التي غالبا ما تصدف في حفلات البلاط الرسمية) لم تخفِ عنه إعجابها بقوته وثرائه، ولم تنكر أنها كانت ستنضم إلى جواريه، لو أنّه تحرّك وأثبت قدرته على تطوير نفوذه، الأمر الذي جعل هذا الهدف يتعاظم في وجدانه أكثر مما يجب. لكنه لم يدرِ ما تخبئه له الأقدار؛ فلسوء حظه، أو لحسنه إن شئنا الدقة، طرقت عليه خادمته باب غرفته بشدة، في صباح ليلة أشعلها بكل تموجات الحب الأحمر، وفتح الباب وهو عاري الجسم، لاهجا بأنجس ألفاظ السباب، لكنه ما لبث أن سقط على ركبتيه جامدا، عندما أخبرته الخادمة بأن الثورة حدثت فجأة، وذهبت المملكة التي بنى فيها مجده أدراج الرياح، نُسي باشاواتها، ونُفي أغلبهم إلى مزابل التأريخ. وحالما نهض كاظم بك من كبوته تدارك أمره، واستعاد زمام أفكاره، فأغلق بوابات قصره على جواريه، وقطع عنهنّ الزيارات والعيون، وحرص على إخفاء كافة الأخبار، على أمل أن يحل مشكلته سريعا، حتى إن محظيّته الكبرى أشاعت بين زميلاتها أنه يفكر في التوبة والتطهر من ماضيه! بيد أن الرجل كان يحلق في عوالم أخرى؛ إذ سرعان ما أسرج جواده ليناضل للبقاء في أروقة البلاط الجديد، لعله يقتاتُ على بقائه في محيط النفوذ ومظانّ أكل العيش, ومطمع آخر لا يزال يتلجلج في فؤاده.
تعامل كاظم بك مع تحولات الأحداث بمنطق التصيّد المغلّف بالتعقّل, وبالتمسكن حتى التمكن, واقترب من (طأطأ) الذي كان حاجبا للبلاط فيما قبل، ونظرا لمشاركته في المؤامرة الانقلابية تم ترسيمه حاجبا أيضا للملك الجديد. والعجيب في الأمر أن طأطأ سارع في استقبال كاظم بك بحفاوة حقيقية، بالرغم من أنه لطالما نكّل به، جاعلا منه محطاً سخريته أمام مرتادي البلاط الآفل, لكنه الآن يتمسح بطأطأ إثر تسلمه حجابة الثورة الحالية. وقد أقدم كاظم بك على هذه المغامرة بناء على قاعدة متغلغلة في دماغه منذ نعومة أظفاره:
-"الذي يخاف شيئا في زمانه, لا يغادره وإن علا شأنه"!
استطاع كاظم بك بعد سيل من التهاني وتبادل العتاب العاطفي حول الماضي، أن يجعل طأطأ يستدير خاتما في أصبعه، وهي المهارة الوحيدة التي يستطيع بها كاظم أن يحافظ على هامته فوق جذعه, ولكنّه اضطر مع الوضع الجديد أن يتقبل من طأطأ أن يعامله بصيغة الأمر أو يتطاول عليه بالاستهزاء متى ما أراد. وجرت الأمور على ما هي عليه برهة من الزمن، غير أن طأطأ لم يكتف بالعفو عن كاظم، ولا حتى بالانتقام منه كلما سنحت له الفرصة، بل وجه إليه الأمر بأن يقدم له مشروعا جديدا يساهم من رفع سمعته في الديوان ويسلط الأضواء عليه.
وفي إحدى العصاري الرطبة، كان طأطأ يتململ في ديوان حجابته، ويتمنى لو تمطر السماء ضفادع، وعندئذ تقدّم كاظم بك من الديوان: خلع نعله على حوافّ السجاد الفاخر، واقترب منحنيا حتى سجد أمام طأطأ، الذي طرب للأمر وراقه وأفقده صوابه، وجعله يتقبل مطالبة كاظم بك بولاية وادي المهرجانات، مقابل قيامه بتطوير برامج الوادي وتنظيم يانصيب أسطوري فيه. وافق طأطأ بلا أدنى تردد، وسلّم لتابعه الجديد كافّة الأختام اللازمة، وفتح له صندوق الديوان ليسحب منه ما يشاء. وجن جنون كاظم بك: فما أن استلم ولاية وادي المهرجانات حتى جال بخاطره أن يعيد محظيّاته إلى أيام البلاط الفاحشة, وتناوشته الرغبة في تملّك محظيات أخر, وبحث فيمن يمكن له أن يساعده في تحقيق أطماعه, فلم يجد سوى (ريكا). وهي بالإضافة إلى ما تعرفونه عنها يا سادة: كونها راقصة المهرجانات الكبرى، وثالثة أكبر الراقصات في حلبة الرقص الشرقي لذلك العام- تمتلك صيتا مغايرا لشهرتها الفخرية، إذ إنّها في الحقيقة، كانت هي السارقة التي حماها الملك المخلوع يوم سرقة عصافير القصب, وهي الطيور النادرة التي كان جلالته يحتفظ بها في مدجنته الخاصة، ويحرسها برجال غلاظ أشداء، وعلى رأسهم حارسه الجلاد صفوان، الذي قبض عليها وهي تحشو في جرابها الجلدي ثمانية عصافير قصب، وسحبها من جديلتها الطويلة إلى حضرة الملك المخلوع مجللة بعارها، لكنّ مراعاته لضعف أنوثتها واعترافها بخطئها أمامه، وتضامنه مع سمعتها الوليدة، كل ذلك جعله يعفو عنها ويصدر مرسوما ملكيا بتغيير اسمها أربع مرات لمجرّد التضليل، ومن ثمّ إعادته في المرة الخامسة ليصبح (ريكا) من جديد، وقد ظلت إبّان تلك التحولات الأربع متخفية تحت أسمائها الحربائية درءًا لفضيحة السرقة.
وهكذا يا سادة يا كرام, أصبحت ريكا محظية كاظم الأولى بعد ترقيته إلى مستشار البلاط الثاني, فأوكل إليها على هامش اليانصيب إقامة عدة مسرحيات هزلية، ومسامرات للتنكيت والمكامرة, ولعب الشطرنج وفق قواعد الدومينو، وسرعان ما استعادت ريكا كرامتها المسفوحة على بلاط الملك المخلوع، وبلغت مبلغا لم تكن تحلم به، ثم تمادت مستغلة نفوذها الجديد في عرض رقصاتها القديمة بقناعها الخامس، القديم الجديد: (ريكا).
وفي سابقة لم يشهدها وادي المهرجانات منذ قرون كانت هي وحدها المضيف والضيف في ندوة غنائية حاشدة بالجماهير. وأسفر هذا الاختبار الهزليّ عن شعور كاظم بك بالأمان، ما جعله يقدم على محاولة جديدة، تتلخص في التفرّغ لمحاولة الاستيلاء التدريجي على كرسي الحاجب نفسه، وذلك بتقديمه المقترحات وحياكته للدسائس التي تمكنه من الوصول إلى إدارة أهم نشاطين في المملكة:
قيادة الثورة (بالاستمرار في تخدير الحاجب (طأطأ)، حتى يستمرّ خاتما في يده).
إدارة وادي المهرجانات (بدعم حركات ريكا البهلوانية).
وقد كان له ما أراد، واستمر الحال على هذا المنوال, وانتابت الغفلة الحاجب طأطأ، الذي أخذ يقدم للملك تقارير كاظم بك دون أن يراجعها، وشاع بين أفراد مجلس المستشارين أنه ينوي تزويجه من ابنته أيضا، وأخذت ريكا تكرر ما استطاعت من مهازلها في وادي المهرجانات حتى بدأت هيبته تضعف بين الناس, وساءت أخلاق جمهور مسامراته, وتردّت بضاعتهم إلى الحضيض، وكثر الغش وانتعشت سرقة الفطائر والمعجنات, وتضايق نفر كثير, فتوقفوا عن متابعة الحضور إلى مسامرات الوادي، ولم يدرك كاظم بك ما يجري حتى وجد أن حضور محظياته إلى الوادي أصبح يتناقص، وعندئذ تفتقت ذهنيته عن ابتكار جديد، وفكّر أن يضيف له على سبيل الحيطة محظيّات جديدات، ثم أوعز إلى ريكا بتنظيم حفلة مختلطة, تجمع أكبر عدد ممكن من عامة المستكعين, مشترطا على الرجال العازبين إحضار أخواتهم، وعلى الفتيات العازبات أن يحضرن دون صحبة أي رجل, ولم يفته أن يوكل لطأطأ (الذي أصبح خاتما أمينا في يده) أمر تبنّي الحفلة والإشراف عليها، لتأمين حماية نوعية من هيبة القيادة. وما هي إلا بضع ساعات حتى شاع خبر الحفلة التي سوف تسبق انطلاق يانصيب المهرجان, وتنادى بها أهل الولاية والولايات المجاورة, وتدفق على حفلة الوادي جمع غفير من أخلاط الناس, وتدافعت الفتيات الساذجات حتى غصّت بهنّ منصة كاظم بك.
وعادت الحوادث لتغير مجراها، وليحدث مرة أخرى ما لم يكن في الحسبان، فبينما الفتيات يتدفقن إلى المنصة ثار من جانب آخر ضد الحفلة بعض الأعيان الذين انقطعوا عن حضور المهرجانات, منددين بشروطها المخلة بسمعة الوادي, وعندما سمع طأطأ بذلك لم يجد بدا من الإجابة وهو حاجب البلاط، والرجل الثاني في قيادة الثورة، وكانت إجابته على النحو الآتي:
- " من لا يريد أن يلتزم بالشروط فليس مجبرا أن يشارك ".
لكن إجابته لم تكن موفقة، فحصل هرج ومرج واعتراض وشكاوى من أعيان الوادي قوبلت باستكبار وتغطرس من طأطأ, واحتدمت المعركة حتى وصلت إلى البرلمان، وفجأة أفاق أحد أعضاء البرلمان واختطف مكبر الصوت من إحدى مغنيات الدرجة الثالثة، وجهر فيه بصوته صائحا، كاشفا حيققة أن الراقصة ريكا، هي ذاتها الراقصة ريكا القديمة، التي قامت بسرقة عصافير القصب من حظيرة الملك المخلوع.
وعندئذ وفجأة: اختفى كاظم بك عن الأنظار. وتناقل سكان الولايات المجاورة أنباء الحفلة المخلة, وأسقط في يد طأطأ، وضاقت أرضه بما رحبت، فاجتمع مع بعض أعضاء قيادة الثورة المؤقتة، وأخذ يمسح عرقه المستجيش وهو يتلو على مسامعهم قراره الجديد، المتضمن طرد عضو البرلمان الذي اكتشف الفضيحة وتظاهرَ مع الأعيان ضد الحفلة، وأصرّ طأطأ على أن يجرى اتهامه بأنه كان قائد الجيش السابق أيام الباشاوية, وبأنه يحاول أن يصبح مناضلا مستقلا حاليا, وأن تضاف إلى تهمته جريمة الخيانة العظمى، وعلى رأسها إساءته لمقام الملك المحجوب، وتطاوله على مقام حاجب البلاط، ولكونه سببا مباشرا في الاختفاء المباشر لحضرة المستشار كاظم بك.