تفجرت الكثير من المفاجآت في الندوة التي انعقدت في آتلييه القاهرة يوم الثلاثاء الماضي 22 ابريل 2008 لمناقشة المجموعة القصصية الجديدة للروائي والناقد السينمائي "محمود الغيطاني"، كان من المفترض أن يناقش المجموعة الروائية سلوى بكر ، والناقد شوقي عبد الحميد يحيى ، والناقد العراقي خضير ميري ، والناقد عمر شهريار، الا أن الروائية سلوى بكر حضرت إلى الآتلييه ولم تحضر الندوة دون إبداء أي أسباب عن امتناعها عن النقاش أو حتى حضور الندوة أو الاعتذار عنها، بينما فوجئ "محمود الغيطاني" بأن من سيدير ندوته هو الأستاذ "أحمد سعيد" بدلا من "ابتسام سعيد" التي حضرت مع الجمهور لمدة عشرة دقائق ثم اختفت لتظهر بعد انتهاء الندوة متعللة بأنها كانت على موعد مع الطبيب، وبدأت الندوة بتقديم "أحمد سعيد" للكاتب "محمود الغيطاني" والحديث عنه وعن إصداراته السابقة ثم أعطى المداخلة للناقد "شوقي عبد الحميد يحيى" الذي رأى أن مجموعة "لحظات صالحة للقتل" هي من المجموعات الجديدة التي لابد من الاحتفاء بها؛ نظرا لأن "محمود الغيطاني" من الأصوات والمواهب الإبداعية المتميزة التي تكتب وهي تحمل الهم الجماعي الذي ينصب دائما في كتابتها ومن ثم فهو يشعر دائما بما يدور في مجتمعه من احباطات وقهر سواء كان هذا القهر على المستوى النفسي ممثلا في الكوابيس والكائنات غير المرئية كما في العديد من القصص مثل" الخروج من الكابوس" ، و "عوالم المسخ القميئة" ،أو كان هذا القهر على المستوى السلطوي مثل قصة "لزوجة" ، أو قصة "الجلوس على الخازوق" ، أو قهرا اجتماعيا ممثلا في الفتوة – ولكنه ليس الفتوة الذي كنا نراه في حارات وكتابات "نجيب محفوظ" – بل هو الفتوة الذي يمثل عصر البلطجة اليوم وسيادته على كافة الأصعدة، كما يرى الناقد شوقي عبد الحميد يحيى أن اهتمام "محمود الغيطاني" بما يدور حوله جعله يرى أنه لا خلاص من هذه الفوضى وهذا الصخب سوى بالموت، سواء كان هذا الموت عن طريق قتل الآخر كما في قصته "لحظات صالحة للقتل" والتي قتل فيها الراوي رفيقته في أجمل لحظات الاتصال الجنسي وبدون أي سبب، أو الموت عن طريق الانتحار كما في قصص "الجلوس على الخازوق" ، و "شطحات موت حيوية" ، أو كان هذا الموت عن طريق الجنون كما في قصة "استربتيز" ، أو عن طريق إخراج القلب وإيقافه عن النبض كي يستطيع أن يتعايش مع هذا العالم الفوضوي وما يدور فيه بما أن القلب هو الأساس في إنسانية الإنسان الذي يفقد تلك الهوية الهامة في هذا العصر كما رأينا في قصة "مدينة خارج حدود العقل" ، على أية حال يرى الناقد "شوقي عبد الحميد أن "محمود الغيطاني قد نجح في استخدام العديد من التقنيات الهامة في أسلوب قصه ومن أهمها تقنية التقطيع المونتاجي المتعارف عليه في السينما وأرجع ذلك إلى كونه ناقدا سينمائيا إلا أنه أخذ عليه قلق اللغة في بعض المواقف نظرا لأن الكاتب مصرّ إصرارا على استخدام الفصحى في لغة الحوار بين الشخصيات وهذا قد يوقعه في بعض الأحيان إلى إنطاق بعض الشخصيات بلغة هي غير أهل لها مما قد يؤدي إلى حدوث انفصال بين القارئ والنص ، كما ذكّره بأنه أيضا كان مصرّا على استخدام الفصحى في روايته السابقة "كائن العزلة والتي آخذه على نفس السبب فيها أيضا، كما تحدث الناقد شوقي عبد الحميد يحيى عن آلية استخدام الجنس لدى محمود الغيطاني على طول المجموعة القصصية ورأى أن المجموعة على الرغم من إشباعها بالجنس إلا أنها كان لابد من وجوده باعتباره سببا أساسيا وتكأة لمحاولة الهروب مما يعيش فيه الراوي من فوضى وهوان ، كما انه استخدم الجنس في بعض الحالات موظفا إياه تراثيا وكأنه شيئا مقدسا كما سبق أن فسره "سيد القمني" في بعض كتاباته خاصة كتابه "الأسطورة والتراث" كما ذكر العديد من التناصات الهامة بين محمود الغيطاني والروائي الراحل "خيري عبد الجواد" وأرجع ذلك إلى العلاقة الشخصية والصداقة التي كانت بين محمود الغيطاني وخيري عبد الجواد.
انتقل الحوار بعد ذلك إلى الناقد العراقي "خضير ميري" الذي بدأ مداخلته قائلا أن ما سيبدأ به لا يعد كلاما نقديا أو أنه لا يمكن أن يكون مدخلا نقديا ولكنه حينما أمسك مجموعة "لحظات صالحة للقتل" سأل نفسه أكثر من مرة كلما توغل فيها " هل هذا الكاتب بحق يقصد ما يكتبه أم أنه يلعب مجموعة من اللعب الكتابية ، أم انه لا يهتم بمن سيحاول أن يتلقى هذه الكتابة؟"
يقول "خضير ميري" أن هذه التساؤلات كانت تدور برأسه كلما بدأ في قراءة قصة جديدة من قصص المجموعة حتى انتهى منها وأنه قد اندهش كثيرا من طريقة كتابة محمود الغيطاني الذي يحاول أن يكتب القصص بالقصص ، بمعنى أنته يبني عالما خاصا به وحده – وهو عالم محمود الغيطاني- ثم يبدأ في النسج على هذا العالم كي يبني منه قصة لابد أن يقبلها القارئ كما هي ولا يتناقش فيها، نظرا لأن من يقرأ ما يكتبه محمود الغيطاني لابد أن يكون قارئا خاصا متمرسا على القراءة ويتأمل كثيرا ما يقرأه ؛ إذ أنه إذا لم يفعل ذلك فلن يفهم منه شيئا وسيأخذ الأمور بشكلها السطحي وبالتالي لن يصل إليه فحوى القصة المراد إيصالها ، إذن فمحمود في حاجة إلى قارئ خاص تماما ومختلفا نظرا لأنه يكتب كتابة مختلفة يهتم فيها بعوالم غير مألوفة أو مطروقة من قبل ، كما لاحظ أن الكاتب يهتم كثيرا بخلق العديد من العوالم الفانتازية التي لا يمكن تخيلها إلا في هذه القصص، انتقل خضير ميري بعد ذلك إلى الحديث عن بعض المميزات عن محمود الغيطاني في هذه المجموعة منها أنه يتعامل مع جميع هذه العوالم المختلفة التي يصنعها من خلال منطق طفولي ، حتى أنه على العكس من جميع الكتاب الذين تناولوا عالم الميتافيزيقا والآلهة حينما تعامل مع هذا العالم تعامل معه أيضا بطفولية غالبة ، كما استدرك خضير ميري أنه يرغب في الحديث عن أهم ما يميز المجموعة وهو إغراقها في الجسدانية أو الجنس والممارسات الجنسية وقال أنه بالفعل اندهش من أن الكثيرين قد قالوا له أن هذه المجموعة مجموعة "داعرة" فكيف ستناقشها، وبالتالي فهو يريد أن يتحدث عن هذا الجانب لأهميته وعدم قدرة الكثيرين على فهم ما كتب في هذه المجموعة ، فهو يرى أولا أن محمود الغيطاني قد أوتي من الجرأة التي لم يرها من قبل في أي كاتب ومن ثم تحدث عن كل الأمور بكل صراحة بل وأحيانا تسمية الأمور بمسمياتها ، فنحن في المجموعة سنرى الجنس على جميع أشكاله سواء كان سحاقا أو لواطا أو جنسا عاديا ، ولكن الميزة الحقيقية في هذه المجموعة أن هذا الجنس الذي يتم تقديمه ليس جنسا استمنائيا ، بمعنى أنه قد يكون مثيرا للقارئ مما يدفعه إلى الاستمناء بل هو جنس مقزز لكل من يقرأه وكان السبب في أن محمود الغيطاني قد أخذ الجنس تيمة رئيسية وأساسية على طول مجموعته تقريبا أنه كان مرادفا دائما للقهر ومحاولة الهروب من الحياة ، فمحمود قد جعل الحل الوحيد دائما لكل شخصياته كي تهرب من هذا القهر والهوان الذي تعيش فيه إما الموت أو الهروب إلى الجسد بممارسة الجنس ، ولكنه يرى أنه سيبقى لمحمود الغيطاني أن كل من سيأتي بعده كي يتحدث في الجنس سيكون حديثه باهتا لا معنى له بعدما قرأه في هذه المجموعة، كما يقول خضير ميري أنه سبق أن قرأ محمد شكري في الخبز الحافي ، وألبرتو مورافيا ، لكنه هنا فوجئ بتلك اللغة الحلمية التي يكتب بها محمود الغيطاني وقدرته وأيضا جرأته في الحديث عن الكثير من الأمور التي نحاول جميعا ونتمنى الحديث عنها الا أننا نعجز عن ذلك ، كما أننا نرى الكثير جدا مما فعله محمود في الآداب العالمية فلماذا نحاول أن ننكره عليه ، كما قال خضير ميري أن محمود الغيطاني قد نجح ببراعة في الحفاظ على الشعرة الدقيقة جدا والفاصلة التي حفظت المجموعة من السقوط في هوة الأدب الرخيص أو الكتابة الداعرة ؛ لأنه كان ثمة شعرة دقيقة تفصل بين أن تكون هذه مجموعة أدبية رفيعة ومميزة وجديرة بالاحتفاء والقراءة وبين أن تكون مجموعة جنسية رخيصة الا أن الكاتب نجح في جعلها من أكثر المجموعات القصصية تميزا والتي صدرت في الآونة الأخيرة وبالتالي لابد من الاحتفاء بها كما ينبغي وكما يليق بها ، وبالتالي وجه الناقد خضير ميري شكره لمحمود الغيطاني لأنه أتاح له قراءة هذه المجموعة المميزة ومناقشتها مع العديد من النقاد الآخرين وأكد على وجوب الاحتفاء بكتابة جديدة ومختلفة تماما عما هو سائد لأنه – أي الكاتب – هنا يخلق منطقه الخاص الذي يراه هو والذي يرغبه ويريده ومن ثم يرغم القارئ على قبول هذا المنطق.
وهنا التقط منه طرف الخيط الناقد عمر شهريار في مداخلته التي وافق فيها خضير ميري على منطق محمود الغيطاني الخاص والمختلف في الكتابة وبالتالي فهو يحاول أن يسحب قارئه إلى أرضه هو وليس إلى أي أرض أخرى، ولكن عمر شهريار رأى أنه يرغب الدخول إلى عالم محمود الغيطاني من خلال الإهداء الذي يراه من أهم عتبات النص، وهنا يقول أن الإهداء الذي يقول "إلى ذاتي القابعة في أعماق ذاتي اعترافا بتوحدها" لابد من تأمله جيدا لأنه مدخل ومفتاح رئيس للدخول إلى العالم الفني لمحمود الغيطاني ، فنحن هنا بإزاء كاتب يحتقر العالم بما فيه ومن فيه، هو كاتب رافض لكل ما يدور حوله ، لا يعنيه هذا العالم ولا يهتم به ومن ثم فهو يدير له ظهره ويتداخل في ذاته ومن ثم يحاول إهداء كتابته إلى نفسه، كما انه أيضا من هنا نستطيع أن نستشف لماذا هذا النوع من الكتابة، إن محمود الغيطاني يكتب ما يراه هو وما يرغبه وليس ما يرغبه القارئ وبالتالي فهو لا يعنيه القارئ الذي سيتقبل هذا أم لا، انه كاتب يدير ظهره للعالم ليقول له هذه كتابتي ، ومن هنا قد نرى أن هناك حالة كبيرة من العدمية تسيطر على الكاتب وجميع قصص المجموعة ، ولكن من أين تنشأ هذه العدمية ؟ لقد نشأت من الأمور القهرية والفوضوية التي يراها الراوي في القصص حوله وبالتالي فلقد جعل رده الوحيد على هذه الأمور هي الموت أو الانغلاق على الذات بممارسة الجنس والهروب إلى جسده ليمارس عليه سطوته، كما تحدث عمر شهريار عن أن قصص محمود الغيطاني تختلف تماما عما هو سائد ومعروف وأنه له عالمه الخاص وأطلق على هذه القصص ما أسماه القصة المشبعة ، وقال أن ما نراه عند محمود الغيطاني إنما هو انتصار للقصة القديمة بشكلها الكلاسيكي مرة أخرى بعدما ظهر التجريب في القصة بعد يوسف إدريس ومن ثم فلقد ظلمت القصة بشكلها الكلاسيكي القديم ، وهو يرى هنا أن محمود الغيطاني يحاول الانتصار للقصة بهذا الشكل مرة أخرى ، كما لاحظ عمر شهريار أن محمود الغيطاني قد نجح كثيرا وفي أكثر من قصة استخدام تقنيات السينما وخاصة تقنية المونتاج ولقد ساعده على ذلك كثيرا أنه يكتب النقد السينمائي وبالتالي فلقد كانت الكثير من مشاهده عبارة عن كادرات أو مشاهد نستطيع أن نراها بأعيننا .
وهنا تحدث مقدم الندوة "أحمد سعيد" قائلا أنه قد لا يحق له الحديث بما أنه من يدير الندوة ولكنه يرغب في المداخلة باعتباره متلقيا عاديا، وقال أنه سبق أن قرأ بعض هذه القصص مخطوطة مع محمود الغيطاني ودار بينهما الكثير من النقاش حولها خاصة "الجلوس على الخازوق" حينما نشرت بأخبار الأدب ، وهو يرى أن المجموعة مميزة ولكن ما كان من الممكن أن يجعلها أكثر المجموعات تميزا هو صبر محمود عليها بعض الشيء وأنها كانت في حاجة إلى التأني أكثر من ذلك والنظر إليها مرة أخرى.
وهنا فتح باب النقاش للحضور فتحدث الناقد الدكتور "صلاح السروي" مهنئا محمود الغيطاني على هذا الإصدار الجديد والذي يراه حالة امتداد لكائن العزلة، ولكنه يلاحظ أن كتابات الشباب اليوم أو ما يمكن أن يسمى بالكتابة الجديدة يهتم أكثر بحالة من الصراخ والجأر مما يحدث حوله في المجتمع من أمور مرفوضة، ولذلك فهو كناقد يريد أن يتحول هذا الجيل من الكتاب الشباب من مجرد الصراخ والاعتراض والرفض إلى إعادة ترتيب العالم كي يعطي المتلقي شكلا أكثر جمالية ، الا أن هذا الأمر جعل الناقد شوقي عبد الحميد يحيى يقول أن الكاتب غير مطالب بأن يقوم بترتيب العالم أو إعطاؤه شكلا جماليا لأن كثرة الإلحاح على عرض السيئ والسلبيات لابد ستجعلنا نتحرك في لحظة من اللحظات.
وهنا أعطى الأستاذ أحمد سعيد الكلمة للكاتب محمود الغيطاني كي يتحدث الا أنه شكر الحضور واحدا واحدا مسميا إياهم وقال أنه لا يصح التعليق على كلام النقاد وهو لا يرغب ذلك لأنه كتب وقدم ما عنده وللقارىء والناقد أن يتلقى ما كتبه كيفما شاء بعد ذلك ولكنه فقط مندهش أيما اندهاش ممن أطلق على مجموعته أنها مجموعة "داعرة" لأننا إذا كنا كمثقفين وكتاب نحاول أن نتلقى الإبداع من خلال منظور أخلاقي فيجب ألا نلوم الآخرين ، وربما كان ذلك عائدا الا المد الديني الذي نراه اليوم في المجتمع المصري ولكن حينما تصدر هذه النظرة الأخلاقية من المثقفين فالأمر مثير للدهشة والقلق.
وهنا عقب الناقد شوقي عبد الحميد يحيى شاكرا محمود الغيطاني لأنه اكتشف أن محمود يتلقى كل ما يقال له من نقد سواء بالسلب أو الإيجاب بصدر رحب وتسامح ، كما عقب الناقد العراقي "خضير ميري" بشكر محمود على هذه المجموعة المميزة والتي لم يكن ينتظر أن تكون هكذا وانتهت الندوة بلغط حول عدميتها وجنسانيتها ومدى قيمتها الأدبية.