العنف غير المشروع يستحق الإدانة.. والحروب العدوانية تستحق إدانة أكبر

الإساءات إلى مقام النبوة جريمة في حق المسلمين وفي حق التعايش بين البشر وأوّل ما تستهدفه -لو كان الذين يصنعونها يفكرون حقا- هو الحيلولة دون سريان مفعول القاعدة الربانية للبشر في الخطاب الموجّه إلى الناس كافة {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} فما تصنعه الإساءات هو تعزيز أسباب الصدام لا التعارف، وإثارة روح الانتقام لا التعايش، واستفزاز عامّة المسلمين لا التفاهم.

التمييز بين ردّ على الإساءات وردّ

للردّ على الإساءات المتكررة طرق عديدة، طالما أكّدت عليها مواقف العلماء والدعاة والمفكرين من المسلمين، وليس في أي موقف منها ما يدعو إلى التسليم بتلك الإساءات وبتكرارها، أو إلى التهاون في التعامل معها، أو إلى العفو عن مرتكبيها دون أن يرجعوا عمّا يصنعون. ولطالما تضمنّت تلك الدعوات المطالبة بالردّ السلمي، مظاهرات، واحتجاجات، ومقاطعة، وغير ذلك ممّا لا ينطوي على عنف غير مشروع، وهذا جنبا إلى جنب مع الدعوة إلى المقاومة المسلّحة المشروعة ضدّ العدوان بقوة السلاح الإجرامي الفتاك على أرض المسلمين وسائر سكانها وعلى حقوقهم وقضاياهم العادلة.
هذا التمييز الدقيق لا يسهل أن تصل به تلك الدعوات إلى عامة المسلمين، وهي لا تصل على كلّ حال إلى من يتخذون من العنف نهجا، ولا يميزون في ذلك بين ما هو مشروع إسلاميا وغير مشروع، إلا بحسب ما تريهم اجتهاداتهم الشاذة عن اجتهادات عموم علماء المسلمين الموثوق بهم وبمواقفهم. والجدير بالتنويه أنّ هؤلاء كثيرا ما يضيع مفعول كلامهم من خلال الخلط بينه وبين ما يصدر أيضا من مواقف مشابهة لمواقفهم، ولكن عمّن خسر مكانته العلمية لدى كثير من المسلمين بسبب شدّة التصاقه بالاستبداد المحلي غالبا، وهذا ممّا يسهّل على أصحاب الاجتهادات الشاذة أن يروّجوا لما يقولون مع زعزعة الثقة بالعلماء عموما، وليس مع الملتصقين بالاستبداد فحسب.

دوّامة الإساءات والعنف
يبدو أن مرتكبي الإساءات حققوا ما لعلهم يريدونه من الأصل، وهو الانزلاق إلى حلقة مفرغة لا مخرج منها، فقد أصبحت الإساءات والردّ عليها معضلة متعدّدة المستويات، متشعبة الفروع، ومن وجوهها المتعدّدة:
1- كلّما وقعت إساءة جديدة، واتخذ كثير من المسؤولين في الغرب منها موقفا مرفوضا بمختلف المقاييس، بما في ذلك مقاييس "الحرية الغربية" التي ينطلقون منها في مسائل أخرى، أضافت مواقفهم المزيد إلى مرجل الاحتقان والغضب الذي أشعلت أواره الإساءات نفسها لدى عامة المسلمين.
2- كلما صدرت دعوات متوازنة مخلصة للردّ على الإساءة بالأساليب المشروعة إسلاميا، والمشروعة في الأعراف الدولية، كانت الاستجابة من جانب جماهير المسلمين قوية لفترة وجيزة من الزمن ثم اضمحلّت، وكأن من يتراجع عن الاحتجاج يطمئن مرتكبي الإساءات أنّ باستطاعتهم إضافة المزيد!.
3- كلما تجاوزت مجموعة أو تجاوز أفراد حدود الردّ المشروع وارتكبوا عملا من أعمال العنف، مثل التفجير الذي استهدف مبنى سفارة الدانمارك في باكستان، أعطوا المسيئين في الغرب أسبابا إضافية يعتمدون عليها في نشر عدائهم للإسلام والمسلمين بأسلوب الإساءات وسواه، وهم مسيئون بطبعهم، عن عمد وإصرار، ولكن يفيدون من الأسباب الإضافية للترويج لأعمالهم.
يضاف إلى ذلك أنّه لم يعد يسهل على عامة المسلمين أن يميّزوا بصورة موضوعية، تساعد على الرؤية الواضحة وعلى اتخاذ الموقف الصائب، ما بين:
1- الإساءات ومن يرتكبها بصورة مباشرة ويروّج لها ويدعمها، وجميع هؤلاء في نهاية المطاف نسبة محدودة للغاية داخل نطاق المجتمع الغربي، بغض النظر عن الرأي العام وأين يقف منها، ومن يؤثّر فيه. هنا لا بد من التمييز مثلا ما بين التعامل الرسمي والإعلامي في الدانمارك مع الإساءات والتعامل الرسمي والإعلامي في هولندا معها أيضا.
2- الحروب العدوانية الإجرامية ومن يرتكبها ويشارك فيها ويدعمها ويقف من وراء صناعة القرار بصددها وتنفيذه، وهو ما تجّسده مراكز القوى الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية في الدرجة الأولى، ولكنه يشمل قطاعات كبيرة، وبنسبة عالية من المسؤولين، في معظم البلدان الغربية الأخرى، مع تفاوت الدرجات والأساليب المتبعة.
إنّ وقوع الإساءات المرفوضة بحدّ ذاتها، على أرضية استمرار الممارسات العدوانية الإجرامية داخل بلاد المسلمين، هو -مع استهدافها المتعمّد لمقام النبوة والقرآن الكريم- في مقدمّة ما يجلعها زيتا يُصبّ على نار مشتعلة، فيزيد لهيبها، وإن كان الذين يصبّونه قلّة.

بين إنصاف محدود وتصعيد بلا حدود
كثيرا ما يشير بعض المنصفين في الغرب -وهم كثيرون- إلى أنّه لا ينبغي أن يكون "ردّ المسلمين" على تلك القلّة ردّ استخدام العنف، وبالتالي الانزلاق إلى الموضع الذي يريده لهم مرتكبو الإساءات. وفي مثل هذا القول بعض الصواب لولا أنّه يغفل عن حقيقة أنّ الذين يردّون بالعنف هم قلّة أيضا مثلما أنّ الذين يرتكبون الإساءات مباشرة هم قلّة، كذلك نرصد أنّ التعميم المتعجّل على المستويات الإسلامية، عبر نسبة تلك الإساءات إلى جميع أهل الغرب أو غالبيتهم العظمى، لا يختلف في مؤدّاه عن التعميم الذي نرصده على المستويات الغربية، عبر نسبة العنف غير المشروع لعموم المسلمين، أو للإسلام نفسه!.
مرة أخرى تبدو معالم الحلقة المفرغة، أو المعضلة، أو ذلك التصعيد الحلزوني باتجاه ذروة الصدام المطلوب من الجانبين.. أي من جانب قلّة هنا وقلة هناك.
هل يمكن أن نوقف هذا التصعيد المتواصل؟..
بكل بساطة ووضوح: لا يمكننا ذلك، فالأصوات الداعية إلى التعقل في الرد على مستوى المسلمين ومن جانب المنصفين الغربيين، تتحوّل إلى صيحة في واد، لأسباب عديدة:
1- الازدواجية في التعامل مع أرواح البشر، فهذا عنف غربي يسقط ضحاياه بعشرات الألوف على مدى سنوات وسنوات، ويجري تعليله غربيا بما يسمّى الحرب ضدّ الإرهاب، أو الدفاع عمّا يسمّى "مصالح حيوية".. وهذا عنف غير مشروع يرتكبه أفراد أو ترتكبه مجموعات ويكفي أن يستهدف الغربيين من المدنيين، ليحرّك آلة الإدانة الرسمية والإعلامية على أوسع نطاق.. وإن قيل بوجود المنصفين الرافضين لتلك الحروب من جانب دول غربية مثل رفضهم للعنف غير المشروع من جانب جماعات من المسلمين، فلا يخفى أنّ صناعة القرار في الغرب لا يصنعها المنصفون، وأن الحروب لم تنقطع، وأن العنصر الوحيد المؤثّر فيها هو المقاومة المسلّحة المشروعة، وهذه لا يميّز بينها وبين العنف غير المشروع إلا قلّة من المنصفين.
يعني ذلك ضرورة التأكيد المتواصل على أهمية التخلّص من تلك الازدواجية، وبيان أنّ الحصيلة تعود على المدى البعيد على الغرب بالضرر الكبير، وليس على البلدان الإسلامية وأهلها فقط.
2- الآلام الكبرى التي تثيرها المآسي التي تصنعها السياسات العدوانية الغربية، والتي تكاد تصبح الهجمة الصهيوأمريكية فيها رأس الحربة فحسب. فالفرد في المنطقة الممتدة ما بين المحيطات الثلاث يشهد يوميا مذبحة الإبادة البطيئة في غزة مثلا، أو قتل المدنيين مرة بعد مرة في الغارات الأطلسية في أفغانستان، أو ما صنعه ويصنعه العدوان على أرضية الفوضى الهدّامة في العراق، أو دعم الأحباش ومن ارتبط بهم وبالغرب معهم فيما يصنعونه في الصومال.. فإذا وقع حادث من نوع تفجير سفارة الدانمارك.. لا يعتبره الفرد في بلادنا شيئا يستحق الذكر، وقد يسخر ممّن يدعوه إلى إدانة مثل ذلك العمل ورفضه، ليس بسبب الاقتناع أو عدم الاقتناع بصحّة موقف الإدانة، بل لأنه لا يملك -كبشر- أن يمتنع عن المقارنة الفورية بين تلك المآسي وذلك التفجير تلقائيا وهو يعايش هذا وذاك في وقت واحد!.
يعني ذلك ضرورة التركيز على هذا الارتباط الوجداني العميق واستحالة إلغاء مفعوله، والكشف عنه بكل وسيلة ممكنة، وفي كل مناسبة، مثل مناسبات الحوار مع الغربيين، وقد باتت موائده منتشرة في أماكن عديدة، وبقيت حصيلته ضعيفة حتى الآن.
3- ما تزال محاولات الحوار محاولات عرجاء في القسط الأعظم منها، وما دام الطرف الغربي -أيا كان من يمثله- يرفض الإقرار بأن للعقيدة ومقدساتها لدى الطرف المسلم مكانة تماثل إن لم تكن أعلى وأجلّ، ممّا يعتبره الغرب "حرية فردية مقدسة" كما يعبر عن ذلك التعامل عموما مع الإساءات، فلن يوصل الحوار إلى نتيجة. بتعبير آخر، لم يرق الحوار، كحوار الأديان في الدوحة، أو مع الفاتيكان، أو في حلقاته الأصغر هنا وهناك، إلى مستوى "حوار" بين طرفين، لكل منهما ثوابته، والمطلوب من كل منهما احترام ثوابت الآخر أولا، للنظر في القضايا الفرعية على اختلافها.
يعني ذلك ضرورة إعادة النظر في أرضية الحوار نفسه، ليكون بقصد احترام ما يقدّسه الآخر وليس محاولة إقناعه -وهي محاولة عقيمة- أن يقتنع بما لدى الآخر، فمثل هذا الهدف لا يتحقق، ولو كان قابلا للتحقيق، لما بقي معنى للحوار بين طرفين "مختلفين".

إدانة حتمية مفروضة وإدانة ضرورية مطلوبةإنّ الإدانة الأعظم التي نؤكّدها، ولا ينبغي أن نتردّد بصددها، ولا أن نتراجع عنها، والتي يجب أن نمارسها وأن ندعو إليها كل إنسان منصف، هي إدانة الجرائم الكبرى التي تُرتكب من خلال موجة الحروب العدوانية التي تتعرّض لها البلدان الإسلامية في الوقت الحاضر، وهذه تستحق الإدانة الأعظم، سيّان من استهدفت من شعوب الأرض، وهي التي تسبّب العدد الأكبر من الضحايا، من البشر، على مستوى المدنيين والأبرياء، وتهزّ أركان وجود الدول مع شعوبها من حيث الأساس وليس وجود سفارات ومؤسسات فحسب.
إنّما لا نتردّد أيضا عن إدانة كل عمل عنف غير مشروع، صغير أو كبير يستهدف أصغر سفارة، أو أصغر مؤسسة لا تشارك مباشرة بعمل عدواني مسلّح، ويسبب عددا كبيرا أو صغيرا من الضحايا، ممّن لا يشاركون مباشرة في عمل عدواني مسلّح.
هذه الإدانة وتلك هي ممّا يفرضه الإسلام على المسلمين، والمبادئ الإنسانية القويمة على كلّ إنسان حر كريم، وهو ما نطالب أن ينضم إليه المزيد من المسلمين ومن عامة أهل البلدان الإسلامية، على مختلف المستويات، وأن ينضم إليه المزيد من المنصفين في الغرب، على السواء.