اختلاف الدلالة الفقهية باختلاف البنية اللفظية والدلالة الإعرابية في لغة النبي صلى الله عليه وسلم
ـ اختلاف المعنى باختلاف البنية اللفظية والوجه الإعرابي :
لمّا كان المعنى يختلف باختلاف بنية اللفظ – كما بسطنا ذلك مطولاً في مبحث لنا من مباحث البنية اللفظية – فإنّ المعنى – أيضاً – يختلف باختلاف الوجه الإعرابي ، وهو في غريب الحديث ينبني عليه حكم فقهيّ ، حيث يختلف هذا الحكم باختلاف الإعراب ، ومن أمثلة اختلاف بنية اللفظ الذي يفضي إلى اختلاف المعنى مـا كان بين [ تفعَّل ] و [ افتعل ] كمـا في [افترق] و [ تفرّق ] . في قوله  : (( البيّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا ( ) )) . فالتفرّق هنا معناه التفرّق بالأبدان بين البيّعين : البائع والمشتري . وفي ذلك حجة لمن رأى أن التفرّق القاطع للخيار إنما هو التفرق بالأبدان ، أما الافتراق فيكون في الكلام . قال الخطابي : (( قال أبو عمر: سأل أبو موسى أبا العباس : هل بين يفترقان ويتفرّقان خلاف ؟ قال : نعم . أخبرنا ابن الأعرابي عن المفضَّل قال : يقال : افترقا بالكلام وتفرّقا بالأجسام ( )))¬.
وينبني على الاختلاف بين[ يفترقان ويتفرّقان ] حكم فقهي في عقد البيع ؛ فالنبي  عندما اشترى من أعرابي حِمْلَ خَبَطٍ ، قال له النبي عندما وجب البيع : اختر ، فقال الأعرابي : عمَّرك الله بيّعاً ، يريد : مبتاعاً أي مشترياً .
* * *
أما اختلاف المعنى باختلاف الإعراب فأمثلته كثيرة في حديث النبي  . وكان الخطابي في كل مرة يعّول على هذا الاختلاف مبيّناً الوجه الإعرابي الذي يؤول إلى معنى في سياق النص يؤول بدوره إلى الحكم الفقهي المنشود .
ومن ذلك الاختلاف في : [ إعراب ( ارْبَعْ ) و ( أربعٌ ) ، فالأولى فعل أمرٌ والثانية خبر مرفوع مفرد ] .
ومن هذا ما جاء في تعليق الخطابي على حديث النبي  أنه جاءه رجل من الشام كان قد تزوّج امرأة ولدت له غلاماً وأراد الخروج بها إلى الشام ، فقال له النبي  : (( مُصاحباً ، قال : وشرطت لها دارها ، قال : الشرط أملكُ . قال : اقض بيننا أصلحك الله ، قال : حدّث حديثين امرأةً ، فإن أَبَتْ فارْبَعْ ( ) )).
قوله : حدّث حديثين امرأة : مَثَلٌ يُضرب للبليد الذي لا يفهم ما يُقال له . ويفسر الخطابي معنى ( اربع ) على وجهين :
الأول : ( إنْ أبت فارْبَعْ ) أي قفْ وأمسكْ ، من قولك : رَبَعَ الرجلُ يربعُ ربْعاً ، إذا وقف . والمعنى – ها هنا – إذا كرّرت الحديثَ مرتين فلم تفهم عنك ، فأمسكْ ولا تُتعب نفسك ، فإنه لا مطمع في إفهامها بعد ذلك .
والثاني : أن يُقال ( فأربعٌ ) مقطوعة الألف ، يريد أربعَ مرات ، ورفعُه بمعنى أن غايتَهُ أربعُ مرات أو تمامَه أربع مرات ، أو نحو هذا من الكلام .
وقد اخُتلف في الحكم الفقهي لهذا المعنى ، فقيل : يُعادُ الكلامُ للرجل مرتين ، ويُضَاعفُ للمرأة فيكرّرُ أربعاً ، ثم لا مزيد عليه .
ورأى شريح : أنه إذا شرط لها المقام في دارها فعليه الوفاء به ، وأنْ ليس له نقلُها عن بلدِها ( ).
فاختلاف المعنى إذن بين الوجهين الذي قاد إلى آراء أخرى مردّه الاختلاف في الإعراب الذي آل إلى الاختلاف في الحكم الفقهي . وعليه تأمّلْ كيف اختلف المعنى بين ( اربعْ ) و ( أربعٌ ) فالأولى فعل أمر بُني على السكون ، والثانية خبرٌ لمبتدأ محذوف رفع بالضم .
* * *
وفي موضع آخر من حديث النبي  يختلف المعنى باختلاف تأويل الوجه الإعرابي ، وهو اختلاف قد يكون يسيراً ، لكنه يؤول إلى الفرق بين استحسان العمل وبين كونه أفضل العمل فيما شُرّع من العبادات ، لما [ بين النعت والإضافة من اختلاف في الإعراب ] .
روي عن أبي ذر  : (( أنه سأل رسول الله  عن الصلاة فقال : خيرٌ موضوعٌ فاستكثر منه ( ) )) . ويشير الخطابي إلى أن هذا المعنى يُروى على وجهين من الإعراب :
أحدهما أن يكون ( موضوعٌ ) نعتاً لما قبله ، يريد أنها خير حاضرٌ فاستكثر منه .
والوجه الآخر : أن يكون الخير مضافاً إلى الموضوع ، يريد أنها أفضل ما وضع من الطاعات وشُرّع من العبادات ( ).
فالمرادان مختلفان باختلاف الإعراب ، فإذا كان ( موضوعٌ ) نعتاً لما قبله فالمعنى : أن الصلاة خيرٌ حاضر يحسُنُ أن يُسْتكثرَ منه . وإذا كان ( الخيرُ ) مضافاً إلى الموضوع ، فمعناه : أن الصلاة أفضلُ العبادات .
* * *
وقد يختلف المعنى أيضاً اختلافاً شديداً باختلاف الإعراب ، بين [ كونه نعتاً لما قبله وبين كونه مُضافاً إليه ] ، ومن ذلك ما روي عن ابن عباس  : (( أنَّ رسول الله  صلى على قبرٍ منبوذٍ ( ))).
قال الخطابي : (( فمن رواه على أنه نعت للقبر أراد قبراً مُنتبذاً ، ومن رواه على الإضافة أراد بالمنبوذ اللقيط ، يريد أنه صلى على قبرِ لقيطٍ ( ))).
فالمعنيان إذن مختلفان اختلافاً كبيراً باختلاف الوجه الإعرابي ، وذلك بين أن يروى الحديث : (( على قبرٍ منبوذٍ )) بالنعت ، أو أن يروى : (( على قبرِ منبوذٍ )) بالإضافة .
وعليه فالمنبوذ الأول هو القبر ، وبذلك يكون [ المنبوذ ] نعتاً للقبر ؛ وهذا ما نميل إليه. والمنبوذ الثاني هو اللقيط ، وبذلك يكون القبر مضافاً واللقيط مضافاً إليه ؛ وهذا ما لا نميل إليه، لأنه لا ذنب للقيط كي يكون منبوذاً أو منتبذاً ، وليس من خلق رسول الله  أن ينعت اللقيط بالنبذ فيسميه منبوذاً ، لأن مثل هذا النعت يغضّ من قيمة اللقيط الإنسانية .
- ترك الإعراب طلباً لازدواج الكلام :
وهذا باب ولجـه العرب في كثير من كلامهم ، طلباً للخفة وتجنباً للاستثقال من جهة ، وتوخياً لتحقيق الموسيقا في ازدواج الكلمتين على وزن صرفي واحد من جهة ثانية ؛ ومن ذلك حديث علقمة بن قيس حين قال للأسود : (( يا أبا عمرو ، قال : لبّيك، قال : لبّى يديك ( ) )).
ولبى يديك معناه سلمت يداك وصحّتا ، والصواب الإعرابي : لبّى يداك . قال الخطابي: (( وأُراه إنما ترك الإعراب في قوله : لبى يديك ، وكان حقُّه أن يقول : يداك ، لتأتلف الكلمتان وتزدوجا ، والعرب قد تفعل ذلك تتوخَّى به ازدواج الكلام كقولهم : إنـه ليأتينا بالغدايا والعشايا وإنما تُجمع الغداة على الغدوات فسلكوا بها مسلك العشية لتزدوج الكلمتان ( ))) .
* * *
والخطابي إذ يتناول هذا الوجه الإعرابي في تفسير معنى الحديث ودلالاته ، إنما يكشف عن منهجه في تفسير الغريب من جهة اللغة والنحو ، فهو لَهِجٌ بتحرّي المعنى وإصابته محللاً أو معللاً ، ينظر فيما يؤول إليه هذا التعليل من فهم أو قصد ، ويجد في الإعراب أحياناً ضالته في تحقيق ذلك ، وإذا ترك العرب الإعراب لعلة من العلل ، علّل الخطابي هذه العلة لغرض بلاغي أو لغوي أو فني ، وهذا ما كان عليه دأبه في تفسيره تركَ العربِ الإعرابَ .
ولهذا رأينا أن نشير إلى هذا الوجه في باب الإعراب الذي يبدو أنه ليس من بابه . ولكنَّه لما كان في ترك الإعراب تفسير للمعنى المراد من جهة تركه ومخالفة أصوله ، فهذا يقتضي أن نقفَ على حقيقة صوابه ؛ والوقوفُ على صوابه ، يقود إلى إعرابه ؛ فقولنا لبّى يديك مخالفة لأصول الإعراب ، ولما بينا الصواب فيه ، فقلنا : وصوابه : لبى يداك نكون قد أعربناه، وعليه فإن ترك الإعراب إعراب ؛ وهذا ما يقودنا إلى أن ندخل هذا الوجه في باب الإعراب طلباً لتفسير المعنى المراد من جهة إعرابه كما بيّنا .