مكاشفة
لم أكن على سجيتي وأنا أعود للمنزل بعد يوم دراسي شاق ، لم أتجاذب أطراف حديث مع زميلاتي ، ولم أرد على دعاباتهن .... الأفكار تتزاحم في رأسي ... دق قلبي بعنف عندما خطر ببالي أنه في خطر ... كيف أمضى يومه ؟ .. كيف تناول طعامه ؟ .. هل ينام الآن أم مازالت نيران الحمى تقض مضجعه ؟؟
أسئلة كثيرة .. لا إجابة ، لم أرد تركه وحيدا .. لكنه أصر ، تحت ضغوطه انصرفت ، لا يريد أن يفسد علي يوما دراسيا مهما ، لكني مازلت معه ... .
حمدت الله أن الطريق المؤدي إلى المنزل شارف النهاية، ودعت صديقاتي ، دخلت الشارع ... ثوان وكنت أمام باب غرفته .... طرقت الباب...
لم يجب...ازداد خوفي ... ناديته بتوجس...
جاءني صوته واهنا : من ؟
- أنا ..... – اتركيني أستريح .
تراجعت على مضض ؛ آثرت أن أطيعه .. القلق يقتلني ....
سألت الصغار : ماذا فعل أبوكم اليوم ؟
جاء ردهم يؤجج خوفي.... طرقت الباب بقوة ... آمرا يقول: ألم أقل لك أريد قسطا من الراحة ؟ !
تراجعت...... جلست أمام باب الغرفة .
هو هكذا ... عندما يمرض يعتزلنا ؛ كأن إباء نفسه يمنعه طلب شربة ماء .
ترقرقت دموعي...سرعان ما أخفيتها حتى لايراها الصغار .
تعالت ضحكاتهم ، وجلجل صراخ لهوهم البريء في أنحاء المنزل .
أحسست مزلاج بابه يفتح ،أسرعت واقفة ، دفعت الباب في خفة ، بهدوء تسللت إلى الداخل.
رفع رأسه المنهكة من بين يديه:
- مازلت بملابسك ؟!
- مابال آلام جسدك ؟!
- الحمد لله .. منه الداء وعنده الشفاء ... ماذا فعلت اليوم بالمدرسة ؟
- الأستاذ محمد أعطاني جائزة اليوم ... أحرزت المركز الثاني في اختبار الفيزياء، والأستاذ منصور أرسل لك رسالة ... والأستاذة فيوليت أ ...................
عاد يجلس القرفصاء على سريره واضعا رأسه بين كفيه ... أحسست باختلال جلسته .. دنوت منه... تحسست يده ... كأنما جمرة .. مسحت رأسه ، رفع إلي عينين فارقهما الوسن .
- لماذا لم تطلب بعض الماء أو الطعام ؟ ...
فرت دمعتان حارتان من عينيه .. مسحتهما بيدي ؛ فانهمرت سيول .. دس رأسه في صدري ... ... ضممتها بشدة..تشبث بي كطفل ... بكيت ؛ فاختلطت العبرات .. سمعت حشرجة صوته :
- سأموت .. سأموت ومازلتم صغارا ...
- لا تقل هذا .. ستحيا من أجلنا ...
لم أره قبلا هكذا... بالأمس كنا نخافه .. نرتعد لسماع صوته .. جبارا كان ؛ صرنا بخيال الأطفال نتمنى موته ... منذ رحيل أمي ، ونحن في حمى الله ثم رعايته ... لم يكل من خدمتنا ؛ لكنه كان شديد القسوة والخوف معا .
رفع رأسه بهدوء : أريد أن أنام ... تمدد في فراشه ... مددت يدي لأجذب الغطاء على جسده المنتفض ، نهاني بحزم ... مد يده ببطء شديد جاذبا الغطاء ، و أغمض عينيه.
ألقيت نظرة إشفاق لهذا المتجعد ... تسللت ، أوصدت الباب ، تناهى إلى سمعي صراخ الأطفال وضحكاتهم في مرحهم البريء .