( الجمع بين ما يبعد جمعه )
في تعليق الأستاذ الفاضل ( مجذوب العيد المشراوي ) على قصيدتي ( الحطَّاب اليتيم ) قال : إن (الجمع بين ما يبعُد ُ جمعه يثير غريزة الاكتشاف عندي .. رأيت ما يمكنه ذلك ورأيت ما لا يفيد جمعه بل يضعف النّصّ ، لو أذنت َ لي ناقشتك نقاش محب ٍّ يرى ذلك ما رأيك ؟ في منتدى النقد طبعا وليس هنا ..) و ها أنا ألبي هذه الدعوة الكريمة للوقوف على هذه القضية الدقيقة التي تمس بنية الفن عامة ، وبنية الشعر على وجه التحديد في حديث شفاف يرجو الفائدة للخروج بجملة من الطروحات على أكثر من مستوى .
و لعلنا في بداية هذا الولوج ، نقف على الجملة الرئيسة في كلام الأستاذ ( المشراوي ) و هي إمكانية ( الجمع بين ما يبعد جمعه )لنقوم بتفكيكها ثم نعيد ترتيبها لنبني عليها خطواتنا اللاحقة .
إن الجمع بين ما يبعد جمعه _ حسب مقتضيات النقد و اصطلاحاته _ هو العمل على التقريب بين حقلين دلاليين ( كلمتين ، أو منظومتين لغويتين ) لايتوقع العقل _ مبدئياً _ التقاءهما ، لتكوين صورة شعرية أو انزياح أو بؤرة جمالية . و الواقع أن ( النقد ) في ذاته ليس كافياً أو مؤهلاً للبحث في هذه القضية بأبعادها المختلفة ، فالنقد جزء بسيط من الحل و الاستكشاف ، لا سيما في أمر كهذا ، ذلك أن إمكانية ( الجمع بين ما يبعد جمعه ) ليست على صلة ببنية النقد بقدر صلتها ( بالوعي المعرفي الجمالي) للشاعر أو الناقد الذي يمكنه أن يخرج من قراءاته المتعددة للواقع متجها ً نحو المدرسة الأدبية التي أملتها تلك القراءات عليه ( كلاسيكية أو حداثوية أو سوريالية إلخ .... ) . نعم إن قراءة الواقع مراراً و تكرارا ، و الاطلاع على الفلسفات الكبرى في هذه المعمورة ، و النظر بكثير من التأمل إلى الواقع المعاصر، أمور تجعلنا ندرك عالمنا الجمالي المعرفي الخاص بنا الذي لا يمكن لنا أن نفرضه على الآخرين حتماً ؛ و من هنا لا بد لنا من إعادة قراءة أدبنا العربي عامة ، و الشعر منه على وجه الخصوص ، لنكتشف بعد ذلك أننا كم ألحقنا الظلم بهذا الشعر عندما أوقفناه عند مستويات دلالية معينة ، إذ اعتدنا على مسألة ( الوقوف على الأطلال ) و لم نعتد تلك المسألة التي تقول : ( إن الأطلال هي التي تقف علينا نفسياً ) و هذا الأمر الذي لا يتقبله الكثير منا بدعاوى واهية ؛ تستند على الاتهامات الجاهزة بأن هذا من الغموض و التغريب إلخ ..... ، فلولا وقوف الأطلال علينا وقوفاً نفسيا ًصارخا ً، لما كان كل هذا التوتر النفسي الذي شهدناه في شعرنا العربي القديم . لقد ظلت ذاكرتنا العربية تحتفظ برؤيا دلالية واحدة ، أو بكمون واحد من العبارات و الصور ؛ أي بمستوى جمالي معرفي واحد رافقنا سنين طويلة ؛ وهذا الأمر مخالف لناموس الحياة و مستهجن لدى عالم الفن و التطور الدلالي الحتمي ؛ و إن أي تغيير في المستويات الدلالية التي تحتفظ بها ذاكرتنا يـُعـد غموضاً و غير قابل للفهم و الإدراك ، و لهذا استهجن الناس في وقت ما أشعار أبي تمام و المتنبي .
هنا نقف على تساؤلات هامة وهي: لماذا نريد من الفن أن يخاطب عقلنا فقط كي نستسيغه ؟ و ما المانع أن نستمتع بالفن بقلوبنا قبل عقولنا من دون أن نشرحه عقليا ً بصورة خالية من الروح ؟ وهل ينفصل الفن عن التفكير الكلي الشامل للإنسان ؟ و إن السياق النصي للقصيدة هو الذي يفرض مسألة الجمال أو عدمه لأن القصيدة الحديثة كلٌّ متكامل لا يمكن فصله .
أما الجزء البسيط من النقد الذي يجيز لنا الدخول في مناقشة مسألة ( الجمع بين ما يبعد جمعه ) هو الجزء الذي وقف عليه التاريخ النقدي مطولاً ؛ أي مسألة ( الغموض ) و يبدو أنه عند أستاذنا الفاضل ( المشراوي ) غموض بعيد المنال ؛ وقد ظهرت كلمة (الغموض ) لأن ذاكرتنا لم تعتد نظاماً دلالياً أو جمالياً معيناً ، فأتى الاتهام مباشرة بأنه غامض ؛ وعلينا هنا أن نمـِيـْز ( الغموض ) من ( الوهم ) ؛ فحالة الغموض يمكن إسقاطها على أرض الواقع حسياً ؛ أي أن التفكير الكلي الشامل الخاضع لوعي جمالي معين قادر على تفكيكها و تجسيدها ؛ و إن القدرة على التفكيك و التجسيد تتفاوت من شخص لآخر ؛ غير أن ( الوهم ) لا يمكن في حال من الأحوال تجسيده أو تفكيكه ، فهو لم يبلغ أقصى درجات الذهنية و التجريد ،بل هو ليس داخلا ً أصلاًفي أي حكم من أحكام القيمة الجمالية أوالفلسفية أو الاقتصادية إلخ .. .
و الله من وراء القصد