( بيب ، بيب ، بيب )
ينتبه فجأة ، و كأنما تحررت خلايا جسده من جمودها و فرَّتْ هاربة من حالة اللاوعى ، يشعر بعنصر الحياة من جديد ينداح فى عروقه و يتحد مع جزيئاته حد الاندماج ، و بشكل لا إرداى راح يتبادل الشهيق و الزفير بقوة ، يتعالى صوت الهواء المندفع من و إلى فتحتى أنفه ، رئتاه متسعتان تعطشًا لمزيد من الهواء البارد ، يرتفع صدره و ينخفض فى سرعة ليلاحق دفعات الهواء المتتابعة بشكل غير منتظم . بالكاد يرفع جفنه المتحجِّر مسافة يستطيع من خلالها إنسان العين الهروب من الكهف المظلم إلى رحاب النور الذى يتسرب برفق و يبدد ظلامه الدامس .. المعالم غير واضحة ، غير مستقرة تمامًا ، هل أُصِيبَ بالعمى ؟! .. لا ، يرى شيئًا بالفعل ، لا يعرف ماهيته ، لا يراه بوضوح ؛ لكن الأكيد أنه يرى شيئًا .
- ما هذا الضوء الأخضر الخافت ؟!
يحاول جاهدًا أن يحافظ على تلك المسافة التى ينعم من خلالها بقدر ضئيل من الضوء .. هذا النبض ! حركة صدره التى بدت منتظمة أخيرًا كبندول الساعة ! يشعر و كأنه يرى لأول مرة ، يسمع لأول مرة !.. تفرغ قواه التى شحن بها جفنه و يَهوِى كأوراق الشجر عندما يقاتلها الخريف فتسقط واهنةً فى استسلامٍ لعجلة الجاذبية ، يحلُّ الظلام الحالك ، كل خلايا عقله فارغة تمامًا ؛ لا شىء سوى الظلام .
ضوءٌ أخضر خافت يتحرك - أو هذا ما خُيِّلَ إليه - !! ينتبه مرة أخرى .. يستحث بعض القوة ليمنحها لجفنه المتهالك كى يتحقق من هذا الضوء الباهت .
-لمَ لا أستطيع أن أراه بوضوح ؟ .. آآه ، هذا الألم البغيض .
صداعٌ يحتل مقدمة رأسه بلا هوادة ، يطرد الظلام القابع فى خلاياها و يحل عوضًا عنه شعورٌ آخر ، يُؤلِم ، و لكنه على الأقل يثبِّت بداخله أوتاد الحياة أكثر . على جفنه تتصارع قوة الجذب مع قوة الطرد ، يزداد الألم قليلاً ، تنضب قوة الطرد رغمًا عنها و تنتصر قوة الجذب مجددًا فيرتخى جفنه مسببًا بعض الراحة.
-حسنًا ؛ لن أشغل تفكيرى به ، فليذهب إلى الجحيم ، هو و ذاك الأزيز المتقطع الممل.
الألم يعود و يضغط أكثر على عينيه .. ينكمشا حجباه فى ردة فعل تلقائية ، يتجاذبان كقطعتين من الحديد الممغنط إحداهما موجبة الشحنة و الأخرى سالبة . يحرك يده من سكونها حتى تستقر إبهامه على جانبٍ من جبهته بينما تستقر باقى أصابعه على الجانب المقابل ، يضغط على رأسه بشىءٍ من القوة كى يحدَّ من انتشار الألم – كما يعتقد – الذى بدأ يجتاح رأسه .
و فجأة ينتفض جفنه لأقصى مسافةٍ للأعلى و كأنَّ قوة الطرد استعادت نشاطها الكامل فى لحظة .. أنابيب رفيعة تبدأ من سطح جلد يديه - و ربما أعمق قليلاً فهو يشعر حقًا بشىء يستقر أسفل جلده - و تنتهى عند الطرف الآخر المُثبَّت فى كيسٍ يحوى محلولاً شفافًا . رعشة تمتلك جسده للحظة ، تهزُّ جميع خلاياه بعنف .. و بصوت مسموع راح يتساءل فى هلعٍ أصاب نَفْسَه :
- أين أنا ؟! ماذا حدث لـ ...
قطع سؤاله فجأة تلك الشهقة التى سمعها تنطلق فى لهفةٍ عن يساره . يلتفت فى سرعة و ذهول لتقع عيناه على امرأةٍ فى الخمسين من عمرها يبدو عليها الإرهاق الشديد ، ربما من قلة النوم رغم علامات الغفوة التى مازالت تملأ تجاعيد وجهها ، قطرات من الدموع تترك عينها و تتخذ طريقًا متعرجًا على خديها . تتجه نحوه فى فرحةٍ تنساب مع دموعها الحارة ، تسابق خطاوتها المتلهفة إليه.
- خالد !! استعدتَ وعيك أخيرًا ، يا ربى لكَ الحمد و الشكر .
فى لحظةٍ واحدة ؛ تنتابه أقصى درجات الإدراك و تنتزعه – رغم ألمه – من بؤرة احساسه ، يخفق قلبه بقوة ، يستطيع أن يسمع نبضاته التى بدت و كأنها فى سباقٍ للسرعة ، يضطرب كمساحةٍ من الماء أُلقِىَ فيها حجرٌ فبدد استقرارها و تحولت إلى موجاتٍ هائجةٍ متداخلة .. حواسه الخمسة مازلت تنبض بالحياة و لكنها جميعًا تسير فى إتجاهٍ واحدٍ يتعدى حدود إدراكه المفاجىء ، جميعها ينجذب نحو تساؤلٍ وحيد ، كما لو أنها العديد من الكُويكِبَات المتناثرة فى الفضاء تنحدر فى غير إرادةٍ نحو البؤرة السوداء ..
- خالد ؟! .. أنا ؟!
- ياإلهى .. لالا ، لا يمكن أن أكون ... .