أدركت بأنني في صفحة من قاموس أخضر كل مفرداته متشابهة. فمن كل الجهات يحاصرني الاخضرار الذي نما على تلك التربة الحجرية. إنه المساء , مساء تختبئ نجومه علية جذوع وأوراق الصنوبر الكثيف. أمد بصري للبعيد فأرى نهاية مظلمة , أقوم منفعلا وأمد بصري ثانية ولكن في كل الاتجاهات فلا أرى سوى تلك النهايات المظلمة بعدها أرمي بثقلي جلوسا على الصخرة وأنا أتنهد.
قبل ساعات كان الرجل الكبير ” جوزيف المرعي ” يسليني هناك بحديثه عن تاريخ عائلته التي اشتهرت بصناعة أجراس الكنائس. لكنه غاب مع غياب الشمس. لا أدري كيف حدث ذلك وكيف سمحت بحدوثه. ” جوزيف أيها الكهل الطيب لقد خلفت وراءك متاهة خضراء “. أشعل المصباح موزعا إشعاعه بعشوائية علّي أرى كهلا آخر يعطيني حلا للغز. ولكن ماذا اذا كانت القادمة فتاة ريفية محمرة الوجنتين وترتدي قميصا صوفيا وتنورة متواضعة وملفوفة على رأسها قطعة قماش وردية ؟ .
يشتعل الخيال السمعي ويرسم على اذني صوتها الانثوي وهو ينادي من البعيد القريب ” خيو .. خيو .. شو تعمل هونيك “. ذبت قليلا شعرت كأن اصبعها اخترق قلبي وأحدث وخزا لطيفا. يتبدل الحال من خيال جامح وأشرع بالقهقهة وأنا أنظر لصدري: ” لقد مات حقل الاقحوان منذ زمن ! “. وللحظات أخرى استمر بالقهقهة مغطيا وجهي بكلتا يدي. حينها حررت الدموع المنسابة يديّ وتساءلت: ” منذ متى كان الضحك بكاء ؟!”.
” نعم لقد وجدتها : الحزن ضحكة ساخرة !” . يقاطع جرس الكنيسة صمت المكان وينتشر كجنود يحاربون في غابة بين الشجر. كان يزداد قوة شيئا فشيئا. ” أيها العجوز جوزيف شكرا لأجراسكم “. يبدو أني سأتتبع الصوت حتى أصل للكنسية وأكمل ليلتي بداخلها حتى إشراقة الصباح. لم تكن بعيدة جدا فهي على الجهة الشمالية الشرقية ويلزم الوصول اليها بعض الجهد لكونها على رابية مرتفعة.انها قديمة جدا ويعلوها جسم كالمئذنة في مساجدنا بداخله الجرس.
دخلت من بابها الخشبي المليء بالغبار , كانت تعتمد في إنارتها بالداخل على مصباحين كهربائيين موصولين بطريقة بدائية. وبياض جدرانها ساعد على جعل الانارة جيدة. صرخت بخجل: ” أهلا .. “. كررت مرارا. اذا كان ما من احد هنا فمن قرع الجرس ؟ يبدو انه ذهب. خطر على بالي ما أخبرني به صديقي القبطي الذي درسنا سويا معه ان الاجراس لا تقرع للصلاة أو للقداس فقط بل تقرع احيانا عندما تحل علامة على قرب الرجعة أو نزول المسيح.
على الحائط وجدت تمثالا معلقا للمسيح وهو مصلوب ورأسه الموشى بورق الزيتون .” لقد مات المسيح وعلى رأسه حقل من الزيتون. لقد وهب ذلك الحقل للناس ليحيوه بالحب والسلام فإذ بذلك الحقل الحقيقي يتحول الى حقل ميت من الجير والكلس. ما هكذا اراد المسيح حقا”. شققت قميصي بلا هوادة وكلي مزيج من التناقضات والمشاعر. قربت انفي من صدري وبدأت في احتساء رائحتي !”.
“هل أخبرك شيئا أيها المسيح الكلسي ؟. اتعلم اننا متشابهان حقا ؟. لم لا تجيب ؟. قل شيئا “. وانهال عليه بأحد كراسي الصلاة فيسقط ويتحطم دون أن ارى دماءه !. جلست على الارض وانا اعيش مرحلة أخرى من التناقضات ابكي , اقهقه. لكن الراهب الذي دخل مضطربا وغاضبا قال لي : ” لك ابني شو هيدا ابن الناصرة بيحل علينا غضبه “. ويرتمي على التمثال يلمس فتاته بجنون” . قلت له : ” اتعلم اننا متشابهان حقا ؟ ” . لم يجب ولكنه رفع يده وانزلها بتعقل وبدأ بتلاوة الصلاة وعيناه كسماء تومض بالنجوم. أكملت : ” نحن متشابهان لأننا نبكي على الاقدار ونبكي من نحب ” . ” انظر يا هذا لقد وهبت حقل الاقحوان لها ذات يوم ولكنها صلبتني وتحول الحقل الذي أهديته إياها إلى مقبرة. لقد ماتت يا هذا. لقد مات حقل الاقحوان . أتعلم ما أعني ؟
أجاب :” أجل , لقد مات الحب ! ” .
قرعت أجراسي الداخلية ايذانا بموت الحب , انتشلت نفسي وهربت من الباب بهدوء الى الصخرة التي كنت عليها قبل ذهابي للكنيسة. كان نداء الكنسية يقرع ثانية وأنا أقول : ” لن أعود .. لن أعود..”.
أخرجت قلما من الحقيبة الصغيرة وكتبت : ” ليلة السبت 21 – مايو – 2010: أيتها الراحلة الاقحوان مات لأنك أنت من قررت ذلك ” .
انتهى ..
حاتم