الأخت الكريمة ليال ..
يبدو أن سؤالك الأخير"البسيط" و "الساذج" يجمل الرد الذي تفضلت به. ولكن قبل الإجابة على هذا السؤال هناك بعض الملاحظات على ما ورد في ردك من استدلال ليس في محله بالآية الكريمة وكذلك قول أبي بكر الصديق.
فكأنك تقولين بأن لا أهمية لشخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد أن أدى ما عليه من تبليغ الرسالة في قبول دعوته ورسالته طالما أنه أتم تبليغها. وبالتالي فإن "الخطائين" من أصحاب الأفكار والمناهج وغيرها ينطبق عليهم عدم أهمية التزامهم بأفكارههم ومناهجهم في الأخذ والإقتناع بها.
أولا لست أدري كيف خطرت لك تلك المقارنة العجيبة بين المعصومين "أصحاب أعظم رسالة" وبين "الخطائين" من البشر.
فالرسل أولا لم يأتوا بمجرد أفكار أو مناهج من عند أنفسهم بل هم رسل مبعوثون من عند الله سبحانه وتعالى. والذي بعثوا به هو وحي من عند الله الذي يعلم ما يصلح الإنسان - الذي خلقه - وما يصلح له.
ثم إن الرسل جميعا صلوات الله وسلامه عليهم كانوا قدوة وأسوة حسنة للأقوام الذين أرسلوا لهم. فالأقوال التي لا رصيد لها في الواقع لا قيمة لها. وهذا بكل تأكيد من أسباب قبول دعوة المرسلين.
و الشواهد من القرآن والسنة كثيرة جدا على أهمية القدوة الحسنة وأن ذلك هدف وغاية يجب أن يطمح إليها الداعية أو المربي.
ثم هل كان اتصاف نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بصفات الأمانة و الصدق والأدب والأخلاق الكريمة حتى قبل بعثته من قبيل الصدفة. أم أن ذلك مدعاة لقبول دعوته عند قومه وهو كذلك أسباب اصطفائه واختياره لهذا المقام الرفيع وهو مقام الرسالة والنبوة.
وإليك أيتها الأخت الفاضلة بعض الشواهد من القرآن الكريم على أهمية القدوة والأسوة الحسنة:
قال تعالى: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ... ) إلى أن قال : ( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ... ) [ الممتحنة : 4-6 ]
- وقال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ... ) [ الأحزاب : 3 ]
- وقال تعالى : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ... ) [ الأنعام : 90 ]
- وفي الحديث الشريف : ( من سن في الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها ، وأجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) .
ثم إنني أختم هذه الشواهد بقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله : ( ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [ الصف : 2،3 ]
ثم إنني أسوق كلاما نفيسا جدا لسيد قطب رحمه الله تعالى حول هاتين الآيتين الكريمتين أرجو أن يتسع وقتك لقرآته فكله يدور حول تلك المعاني:
قال علي بن طلحة عن ابن عباس قال:كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون:لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه , فنعمل به , فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه , وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به . فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين ,
وشق عليهم أمره , فقال الله سبحانه وتعالى:(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ? كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون . . .). . وقد اختار ابن جرير في تفسيره هذا القول .
وقال ابن كثير في تفسيره:"وحملوا الآية - يعني الجمهور - على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم , فلما فرض نكل عنه بعضهم , كقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم:كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة , فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! قل:متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت . ولو كنتم في بروج مشيدة). .
وقال قتادة والضحاك نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون:قتلنا . ضربنا . طعنا . وفعلنا . . . ولم يكونوا فعلوا ذلك !
والراجح من سياق الآيات وذكر القتال أن مناسبة النزول هي التي عليها الجمهور وهي اختيار ابن جرير . ولكن النصوص القرآنية دائما أبعد مدى من الحوادث المفردة التي تنزل الآيات لمواجهتها , وأشمل لحالات كثيرة غير الحالة التي نزلت بسببها . ومن ثم فإننا نسير مع هذه النصوص إلى مدلولاتها العامة , مع اعتبار الحادث الذي تذكره روايات النزول .
إنها تبدأ بعتاب على حادث وقع أو حوادث:
(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ?).
وتثني باستنكار لهذا الفعل وهذا الخلق في صيغة تضخم هذا الاستنكار:
(كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ?). .
والمقت الذي يكبر (عند الله). . هو أكبر المقت وأشد البغض وأنكر النكر . . وهذا غاية التفظيع لأمر , وبخاصة في ضمير المؤمن , الذي ينادى بإيمانه , والذي يناديه ربه الذي آمن به .
والآية الثالثة تشير إلى الموضوع المباشر الذي قالوا فيه ما لم يفعلوا . . وهو الجهاد . . وتقرر ما يحبه الله فيه ويرضاه:
(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص). .
فليس هو مجرد القتال . ولكنه هو القتال في سبيله . والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف . والقتال في ثبات وصمود (صفا كأنهم بنيان مرصوص). .
إن القرآن - كما قلنا في مناسبات متعددة في هذا الجزء - كان يبني أمة . كان يبنيها لتقوم على أمانة دينه في الأرض , ومنهجه في الحياة , ونظامه في الناس . ولم يكن بد أن يبني نفوسها أفرادا ويبنيها جماعة , ويبنيها عملا واقعا . . كلها في آن واحد . . فالمسلم لا يبنى فردا إلا في جماعة . ولا يتصور الإسلام قائما إلا في محيط جماعة منظمة ذات ارتباط , وذات نظام , وذات هدف جماعي منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها . هو إقامة هذا المنهج الإلهي في الضمير وفي العمل مع إقامته في الأرض . وهو لا يقوم في الأرض إلا في مجتمع يعيش ويتحرك ويعمل وينتج في حدود ذلك المنهج الإلهي .
والإسلام على شدة ما عني بالضمير الفردي وبالتبعة الفردية - ليس دين أفراد منعزلين , كل واحد منهم يعبد الله في صومعة . . إن هذا لا يحقق الإسلام في ضمير الفرد ذاته , ولا يحققه بطبيعة الحال في حياته .ولم يجئ الإسلام لينعزل هذه العزلة . إنما جاء ليحكم حياة البشرية ويصرفها . ويهيمن على كل نشاط فردي وجماعي في كل اتجاه . والبشرية لا تعيش أفرادا إنما تعيش جماعات وأمما . والإسلام جاء ليحكمها وهي كذلك . وهو مبني على أساس أن البشر يعيشون هكذا . ومن ثم فإن آدابه وقواعده ونظمه كلها مصوغة على هذا الأساس . وحين يوجه اهتمامه إلى ضمير الفرد فهو يصوغ هذا الضمير على أساس أنه يعيش في جماعة . وهو والجماعة التي يعيشون فيها يتجهون إلى الله , ويقوم - فيها - على أمانة دينه في الأرض , ومنهجه في الحياة , ونظامه في الناس .
ومنذ اليوم الأول للدعوة قام مجتمع إسلامي - أو جماعة مسلمة - ذات قيادة مطاعة هي قيادة رسول الله [ ص ] وذات التزامات جماعية بين أفرادها , وذات كيان يميزها عن سائر الجماعات حولها , وذات آداب تتعلق بضمير الإنسان مراعى فيها - في الوقت ذاته - حياة هذه الجماعة . . وذلك كله قبل أن تقوم الدولة المسلمة في المدينة . بل إن قيام تلك الجماعة كان هو وسيلة إقامة الدولة في المدينة . .
وننظر في هذه الآيات الثلاث فنرى امتزاج الخلق الفردي بالحاجة الجماعية , في ظل العقيدة الدينية , وطبيعتها التي تقتضي تحقيقها في الحياة البشرية في صورة نظام يقوم عليه من يحرسه ويتولاه .
إن الآيتين الأوليين تتضمنان العقاب من الله سبحانه والاستنكار لأن يقول الذين آمنوا ما لا يفعلون . .
وهما بهذا ترسمان الجانب الأصيل في شخصية المسلم . . الصدق . . والاستقامة . وأن يكون باطنه كظاهره , وأن يطابق فعله قوله . . إطلاقا . . وفي حدود أبعد مدى من موضوع القتال الذي يجيء في الآية الثالثة .
وهذه السمة في شخصية المسلم يدق القرآن عليها كثيرا , وتتابعها السنة في تكرار يزيدها توكيدا:يقول الله تعالى منددا باليهود:(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب . أفلا تعقلون ?). . ويقول تعالى منددا بالمنافقين: (ويقولون:طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول). . ويقول فيهم كذلك:(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام , وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد). . ويقول رسول الله [ ص ]:" آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف , وإذا أؤتمن خان " . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة . ولعل الحديث الذي سنذكره هنا من أدق وألطف التوجيهات النبوية الكريمة في هذا الاتجاه . . روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال:أتانا رسول الله [ ص ] وأنا صبي , فذهبت لأخرج لألعب . فقالت أمي:يا عبدالله تعال أعطك . فقال لها رسول الله [ ص ]:" وما أردت أن تعطيه ! " فقالت:تمرا . فقال:" أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة " . . ولعله استقاء من هذا النبع النبوي الطاهر الرائق امتنع الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - من الرواية من رجل سافر إليه مسافات شاسعة ليأخذ عنه حديثا . حينما وجده يضم حجره ويدعو بغلته يوهمها بطعام وحجره فارغ ! فتحرج أن يروي عنه , وقد كذب على بغلته !
فهذا بناء أخلاقي دقيق نظيف لضمير المسلم وشخصيته التي تليق بمن يقوم أمينا على منهج الله في الأرض .وهو الأمر الذي تقرره هذه السورة . وهذه حلقة من حلقات التربية في الجماعة المسلمة التي يعدها الله لتقوم على هذا الأمر .
فإذا جئنا للموضوع المباشر الذي كانت هذه الآيات تواجهه عند نزولها . . وهو موضوع الجهاد . . فإننا نقف أمام موضوعات شتى للحديث والملاحظة والعبرة .
نقف أولا أمام النفس البشرية التي تلم بها لحظات الضعف الطارئة , فلا يعصمها منها إلا عون الله , وإلا التذكير الدائم , والتوجيه الدائم , والتربية الدائمة . . فهؤلاء جماعة من المسلمين قيل في بعض الروايات:إنهم من المهاجرين الذين كانوا يتمنون أن يأذن الله لهم في القتال وهم في مكة من شدة الحماس والاندفاع . وكانوا يؤمرون بكف أيديهم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (فلما كتب عليهم القتال)في المدينة في الوقت المناسب الذي قدره الله (إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية , وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب !). . أو هم جماعة من المسلمين في المدينة كانوا يسألون عن أحب الأعمال إلى الله ليفعلوه فلما أمروا بالجهاد كرهوه !
وهذه الوقفة كفيلة بأن تفتح أعيننا على ضرورة الموالاة للنفس البشرية بالتقوية والتثبيت والتوجيه ; وهي تواجه التكاليف الشاقة , لتستقيم في طريقها , وتتغلب على لحظات ضعفها , وتتطلع دائما إلى الأفق البعيد . كما تلهمنا أن نتواضع في طلب التكاليف وتمنيها ونحن في حالة العافية ! فلعلنا لا نقوى على ما نقترح على الله حين يكلفنا إياه ! وهؤلاء جماعة من المسلمين الأوائل يضعفون ويقولون ما لا يفعلون ; حتى يعاتبهم الله هذا العتاب الشديد , وينكر عليهم هذا الإنكار المخيف !
ونقف ثانية أمام حب الله للذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص . . نقف أمام هذا الإغراء القوي العميق على القتال في سبيل الله . . وأول ما يسجل هنا أنه كان لمواجهة حالة تقاعس وتخلف وكراهية للقتال . ولكن هذا السبب الغريب في الحادث المحدود لا ينفي أن الحض عام , وأن وراءه حكمة دائمة .
إن الإسلام لا يتشهى القتال , ولا يريده حبا فيه . ولكنه يفرضه لأن الواقع يحتمه , ولأن الهدف الذي وراءه كبير . فالإسلام يواجه البشرية بالمنهج الإلهي في صورته الأخيرة المستقرة . وهذا المنهج - ولو أنه يلبي الفطرة المستقيمة - إلا أنه يكلف النفوس جهدا لتسمو إلى مستواه , ولتستقر على هذا المستوى الرفيع . وهناك قوى كثيرة في هذه الأرض لا تحب لهذا المنهج أن يستقر , لأنه يسلبها كثيرا من الامتيازات , التي تستند إلى قيم باطلة زائفة , يحاربها هذا المنهج ويقضي عليها حين يستقر في حياة البشر . وهذه القوى تستغل ضعف النفوس عن البقاء في المستوى الإيماني وتكاليفه , كما تستغل جهل العقول , وموروثات الأجيال , لتعارض هذا المنهج وتقف في طريقه . والشر عارم . والباطل متبجح . والشيطان لئيم ! ومن ثم يتعين على حملة الإيمان وحراس المنهج أن يكونوا أقوياء ليغلبوا عملاء الشر وأعوان الشيطان . أقوياء في أخلاقهم , وأقوياء في قتال خصومهم على السواء . ويتعين عليهم أن يقاتلوا عندما يصبح القتال هو الأداة الوحيدة لضمان حرية الدعوة للمنهج الجديد , وحرية الاعتقاد به , وحرية العمل وفق نظامه المرسوم .
وهم يقاتلون في سبيل الله . . لا في سبيل ذواتهم أو عصبيتهم من أي لون . . عصبية الجنس وعصبية الأرض وعصبية العشيرة وعصبية البيت . . . في سبيل الله وحده , لتكون كلمة الله هي العليا . والرسول [ ص ] يقول:" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .