تفاحة الناصرة
لا، لست أقترف النشيج، ففي دمي مدن معلقة، وفي الأشجار أجساد مخلقة، وفي الشرفات نيران، كأن يدي تشيد عظامها في الليل، ثم تحتل سارية المدائن في النهار، كأن أرضا ترضع الموتى، فترجعهم إلى أحلامهم وتدوم في الترحال، والطرق الخفية، تخصف الأقوال من مؤن المزارع، ربما نادوا على جيرانهم، وتمايلوا جرحى ومبتعدين في شفق الحجارة والحرير، وربما غاصوا إلى أمعائهم، متمنعين يطالبون الروح والصدف المجاهر بالجئير، سيرجعون، سيرجعون إلى غضار في الجدار.. ويكبرون، سيرجعون إلى المتاهة ، ثم ينسربون في شفق التراب عصارة فضية . تندى بدمع آسن ، ودم على الأيام، تجتر الظلام، تضيء عصفا من سفاح القلب. اشهد أنني مزجت أوراقي بأنفاس مضرجة ، وجئت مدينة الأحياء تمثالا بلا رئتين يغرب في الهواء.
الماء يفجر في الناصرة ، الماء يطلع في الحصار وردا، وينزف من خراف الصيف ، يقمع في الخوابي غيمة، ويجوس لحم فراغنا المضروم بالزبد الخفي وبالدناءة ، تلمسين بداية الأشياء، تلتبس النهاية ، كل شيء ها هنا دون البداية والنهاية. دونما جدوى ، اعلق مقلتي على خريفك .. تذبل الأوراق، اقرب من متاهك تنضر الأوراق، تحترق الزهور على روابيك السخية ، والسهول تكاد تضيء ، أنت لا تمضين في أفق من النيران والإعصار، لو تمضين، اشبك كل أسئلتي على حبل الغسيل، واشنق الأحلام، كاد صقيعك المجنون يشبقني، ودون تحية أمعنت فيه دما، وشيئا من لهاث فاسد ، يحترق الصنم الجديد، في العبادة أنت تحترقين في ضعة النشيد. فأرجم الكلمات فوقك كالنواقيس، الدجى يعلو علي ويعتليها، هذه الكأس الأخيرة لا تبارح غفلتي دوما، ولا تلتبس اليقظات، تلتبسين كالنسيان، اخضر فيك ، اخضر من نجيع اخضر، وعباءة موشومة بالحب، احفر هكذا في القلب، اغترف المساء، وارتدي عبق الشوارع، كيفما كانت شوارعك الشهيدة، ارتدي روحي، وقمصانا من الزبد العنيف لديك أرجو أن أوازي عالما، متخلع الأخشاب، مدمى المفاصل، أو أوازي قامتي في غيثك المدمى، محمولا على قدم، وأوراق معطنة، وزاد لم يعد قمحا ولا تفاحة زرقاء...
كانوا هنا .. يتراهنون على الأغاني، واغتيال الماء، كانوا يحطبون المجد من أغصانه، ويدمرون الجذع والنسغ الخبيء، يدمرون الراحة الوردية القسمات، ألمسهم بكف بارد، وأبادر النيران، أضرم فيك أنساغا من الكلمات، يخصب جسمك الشفاف، أخصب بالضياء، وثرثرات غبارك الشهوي، تحتملين قسوتي الخريفية، دائما أشكو ، ولا تشتكين، هل خلعت عيونك من سواد الليل أقمارا؟ هل اشتجرت مرافئك القصية في دمي؟ وعلمت أن الموت كان، وكنت فيّ. علمت انك تمخرين طراوة الأشكال. مجدا من فصول الماء، أجيالا من الغرف المضيئة، أمطريني كلما عاد الطواف، وأمطري هذي الحدائق، بعدها تتخاطرين على سوار الجليل، يشربك المساء فينتشي ، وأهيم بعدك في احتضار الشمس، أشرق بالحنين إلى موائدك الشهية، كم من الشهوات تختزنين، كم ندما وانساقا من الأحياء، كم موتى؟
أسارق غفلتي ، وأجيء فيك، أجيء، يحملني عل كتفيك نيسان بعيد فتحملين غرابتي، نجمين يرقبان أسرهما بعينيك وينتظران ينتظران برقا فاطرا كبد السماء..
ألقاك عبر الماء ، أشق الماء، لا ألقى سواك.. هنا تخاريم، وأضواء مغلفة بأسراب من البشر الهلاميين، يحتربون في حزنك، أو تجليك، ويحتربون في وعدك، كلما عادت غيوم الله عبر مجرة النزوات، تفتتحين آخرتين فأهرب في تخومك ضاربا مجد الدماء بكفي المعصوم، تنهمرين في لغة مهرأة فلا تشتد، تنهمرين في النسيان ، يغترف الأسى وجها ترابيا ، ويشكو عريه، فتضج أطيار على الأغصان ، تحنو قبلة في وردة الإنسان، أغترف الكآبة ، وابتسامة وجهك الجليلي المريمي، ابدأ لهفة الأنغام، موسيقى تحط على جرار الروح قبرة وتنأى، كيف لا أنأى ؟ وأنت صباح هذا المجد يأتي من ابن العذراء، أنت مدينة الأحلام، اقدر أن أسافر في ترديها. وان أجد الدجى قطعا من الصوان والشهداء، تشرق شمسنا فيك، فتنصرفين دون تحية أو قبلة تبقين من أسفي عليك حجارة صماء. تصعد في قرار الماء. تصدم رأسي المفتون بالشطآن. آكل ما أشاء، على جبين البحر أصداف مملحة. وعريك كامن فيها.. سألتك ، أتداري خيبة المنفي. فابتعدت ذراعاك الشتائيان عن رمل. وراح القلب يتخبط في مسافة جرحه العدمي، راح الطير يضرب في الحديد بها، فضاع اللون وأنسفح الظلام مطأطئا كالخمر ، منسفحا على بطن الرغام..
أشهى من المدن الكسيرة أنت، والمدن المطيرة أنت ، أشهى من دمي، ورهية كالماء، يعقد حاجباك الآن هدنة عائد من موته الغابي، تحتلين أنفاس المدينة بالكتابة والتشابيه الشجية، كاد يدركني الفضاء على وشايته وكاد، جمعت أشلائي، وصحت لغيمة كانت تريح جفونها في الماء أن تأتي.. أبادلها شبابي. أو اجرد من ثيابي ابنها المصلوب، يسحب تاج الشوك إلى الوراء، ولا يصدق أن مجنونا يقوم الماء فيه، ليضرب الشيطان بالشطآن والمدن الحبيسة بالرياح، ويضرب العربات والأشباح بالموت المعطر، فتنة هذا الممات، طراوة هذي الحياة، وسمعنا يصطك، وارفة هي الأشجار، حين تظلل الجثث الجميلة، تنتشي بسكونها وتعود تصحبها إلى الخلجان، موتى عائدون إلى مهابتهم، وفولاذ يكاد يمضيه عدم فيأسى.
لو ترين الماء ينهض من أَسِرتهِ، ليسخن ، ثم يغلي طابخا رحم الجليل، وطابخا حلما خرافيا بشهوته إلى ترسيخ هذا الدم، تراب يستعيد الماء، دم يستعيد ترابه، والماء فتنته أمام الله أن يشقى، ويعبر في صفاء الحالة الأولى، ليطلق لحمه المأسور من أصفاده.
ويرتد شيئا للوراء، و من الوراء يرتد دوما للأمام....