أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: تفكيك الحالة العربية

  1. #1
    الصورة الرمزية عمر الحجار أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2011
    الدولة : حيفا \ اجزم
    العمر : 53
    المشاركات : 767
    المواضيع : 37
    الردود : 767
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي تفكيك الحالة العربية

    تفكيك الحالة العربية
    (نقد القوى التوليتارية اليسارية)





    على امتداد القرن العشرين ومع بداية القرن الجديد ، كانت وظلت كلمة " اليسار " تطلق للدلالة على القوى التي تدعو إلى الاشتراكية، إلى التغيير الاشتراكي للعلاقات الاقتصادية _ الاجتماعية ، أكان هذا التغيير جذريا شاملا أم جزئيا.
    وحتى في البلدان المستعمرة أو المتخلفة التابعة ، أي ما عرف بالعالم الثالث، فإن الدعوة إلى الاستقلال الوطني والتحرر وتخفيف التبعية، لم تكن تكفي لوصف أصحابها بأنهم يساريون، بل كان عليهم – كي يحوزوا هذا الشرف – أن يعلنوا انتمائهم إلى الاشتراكية. وكان يقال إن حركة التحرير الوطني في كل قطر فيها يمين ويسار ، وان دعاة الاشتراكية هم يسار تلك الحركة.
    وكانت كلمة" يسار" في إطار دلالتها الاشتراكية المذكورة ، تحمل معنى نسبيا، وفق طبيعة، ووجهة نظر كل فئة من الفئات التي ترفع راية اليسارية. فكل فئة كانت تزعم أنها هي التي تمثل اليسار الحقيقي، وتقيس يسارية الآخرين على مقدار قربهم أو بعدهم عن سياستها وأفكارها وشعاراتها. فالشيوعيون يرون أنفسهم اليسار الوحيد الصحيح، أما الآخرون فهم وسطيون أو يمينيون إذا جنحوا عنهم يمينا، ومتطرفون مغامرون إذا جنحوا عنهم يسارا. والاشتراكيون المعتدلون أو الديمقراطيون أو القوميون، يرون في الشيوعيون قوى مغالية ومتطرفة ، بينما كان اليساريون المتطرفون يرون في الشيوعيين فئة تخلت عن ثوريتها ، وتكيفت وسقطت في الانتهازية.
    لقد كان مؤشر " اليسارية" لدى القوى المختلفة هو الدعوة إلى التغير الاشتراكي هدفا، بوسائل ثورية عنيفة أو غير عنيفة. وكانت كل الأهداف الأخرى تأتي في مرتبة لاحقة، أو ثانوية، وهي غير كافية لمنح بطاقة اليسار، وهي – أي الأهداف- إما أن تكون خطوات على طريق التغيير الاشتراكي ، أو أنها تتحقق تلقائيا في إطار ذلك التغير.
    وبما أن غاية الاشتراكية هي تحقيق العدالة وتحرير الكادحين، للسير في طريق التقدم الذي تعوقه الرأسمالية، فان القوى اليسارية رأت في نفسها ممثلا للعمال والفلاحين الكادحين، واعتقدت أن تمثيلها لهم يعطيها شرعية اجتماعية، وان نبل غاياتها( العدالة والتقدم والاشتراكية..) يكسب أساليبها شرعية ثورية تبرر لها العنف الذي تستخدمه أحيانا لانتزاع السلطة ، كما تبرر لها الممارسات غير الديمقراطية بعد الوصول إلى السلطة أحيانا.
    وحين نجحت بعض هذه القوى في الوصول إلى السلطة عن طريق الثورة المسلحة ، أو الدعم الخارجي ، أو الانقلابات العسكرية.
    بدأت مسيرتها التغييرية ، فشرعت تغرس في المجتمع نموذجا جديدا للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وتقمع معارضيها، فارضة نوعا من الوحدانية السياسية والفكرية ملغية أحزاب اليمين، حاصرة مقاليد المجتمع _ على التدريج _ بيد حزب واحد.
    لقد وضعت هذه القوى العدالة في مواجهة الديمقراطية السياسية، والشرعية الثورية في مواجهة الشرعية الدستورية ، فكانت نتيجة ذلك أنها إبتعدت عن الديمقراطية والشرعية دون أن تقترب من العدالة ، وإذا كانت قد حققت بعض الخطوات في طريق العدالة الاقتصادية، فان تلك الخطوات كانت ضعيفة ومحصورة بالجانب الاقتصادي، ولم تلبث أن أفرغت من محتواها ، لان أساليبها البيروقراطية ولدت قوى تملك حق اتخاذ القرار، وتتحكم بالشأن السياسي والاقتصادي، وتمكن سيطرتها على المجتمع لتتحول إلى طبقة لا تحوز وسائل الإنتاج مباشرة، ولكنها تتحكم بها وبإنتاجها وتوزيعه وبالسلطة السياسية ومكاسبها، وتقف في وجه كل تغير لهذا الواقع.
    لقد أضاعت " الشرعية الثورية" العدالة بعد أن أضاعت الشرعية الدستورية ، وابتلعت قوى اليسار ما سمته بالديمقراطية الاجتماعية بعد أن ابتلعت الديمقراطية السياسية، وهكذا تحولت القوى التي كانت يسارية بدعوتها التغييرية فيما مضى ، إلى قوى محافظة ويمينية.
    نعم، ليس " اليسار" موقعا ثابتا لأصحابه لا يتزحزحون عنه ، ويمكن أن يتحول اليسار إلى يمين واليمين إلى يسار. وهذه إشكالية جديدة تبرز في إطار نسبية مفهوم " اليسار" وهي إشكالية أظهرتها التجربة السياسية في القرن العشرين.
    فحين ينتقل اليسار إلى موقع الحكم ، يصبح فئة حاكمة تتمسك بالسلطة والنموذج الاقتصادي _ الاجتماعي _ السياسي الذي تفرضه، ويغدو هذا النموذج وسيلتها للمحافظة على سلطتها وترسيخ سيادتها . انه ( رأي اليسار) قد يقبل بتوجيه انتقادات هامشية محدودة لنموذجه، لكنه يرفض أن يُنتقد هذا النموذج انتقادا جذريا يطال أساسه وهيكله العام، ويقف _ وقد يستخدم في موقفه وسائل غير ديمقراطية _ في وجه أي تغيير لبنية النظام الذي أقامه. بينما يتحول اليمين الذي أطيح به واخرج من مواقع الحكم إلى اليسار، لأنه يطالب بتغيير الواقع التسلطي، يطالب بالديمقراطية السياسية وشرعية الأحزاب والمعارضة وغير ذلك.
    قد يرد على هذا القول، بأن موقف اليمين هذا ليس موقفا يساريا، فهو يطالب بتغيير رجعي، بالعودة إلى الوراء، إلى نموذج استغلالي ، انه يسعى إلى ردة لا إلى تغيير ، انه موقف نكوصي مخالف لحركة التاريخ، لكن تجربة اليسار في القرن العشرين ردت على هذا الرد بوضوح. فاليسار" الماركسي" أو " شبه الماركسي" الذي انفرد بالسلطة وألغى المعارضة وفرض على المجتمع لونا واحدا، لم يكن فعله_ بالنتيجة _ حركة إلى الأمام، ولم يدفع حركة التاريخ في طريقها الصاعد، لأنه خالف طبيعة الحياة الاجتماعية الإنسانية القائمة أصلا ومآلا على التعدد والتنوع، وإذا انطلقنا من أي تقدم لا يمكن أن يتم الا من خلال صراع الأضداد في وحدتها وعن طريق الحوار والتلاقح بين القوى وتمييز الصواب من الخطأ عبر التجربة، فسنجد أن تجاهل التعددية وإلغاء تجلياتها وصورها السياسية والفكرية وفرض اللون الواحد، لا يمكن أن يؤدي الا إلى الجمود وضعف حركة المجتمع وتدني مستواه على مختلف الأصعدة .
    لقد وجدت البشرية، عبر مخاض طويل وثمن باهظ وتطور تصاعدي ، إن الديمقراطية السياسية هي وسيلة لتنظيم العلاقة بين القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة، والتيارات الفكرية المتنوعة.
    وإذا كانت هذه الديمقراطية ناقصة _ وهي كذلك فعلا _ فان إتمامها لا يكون بالتراجع عنها ، بل بالمحافظة على منجزاتها وثوابتها وترميم ثغراتها.
    من هنا فان تحول القوى " اليمينية" إلى موقف النضال من اجل إلغاء نموذج اللون الواحد، هو تحول إلى موقف ديمقراطي، يصب في النهاية في مجرى التقدم، أي موقف يساري تغييري.
    سوف يرى بعض من يقرأ هذا الكلام ، انه يقوم على فرضية خاطئة ، فالقوى اليمينية التي تناهض اليسار حكما ، لا تهدف إلى الديمقراطية حقا ، ولا تنطلق من مصالح الشعب بل من مصالحها الضيقة.
    نعم ، إنها تنطلق من مصالحها، وقد لا تهتم بمصالح الشعب والتقدم عندما تطرح مسألة التغيير الديمقراطي، أو _ على الأقل _ قد لا يكون ذلك همها الرئيس ، ولكن التطور التاريخي يقوم أصلا على التطابق بين مصالح طبقة أو فئة اجتماعية ومصالح تقدم المجتمع. وعندما نقلت البرجوازية المجتمع الإنساني نقلة هائلة في طريق التقدم كانت تنطلق أساسا من مصالحها، ولم يأت دورها التقدمي الا من خلال تطابق مصالحها مع مقتضيات التقدم الاجتماعي.
    ويقودنا هذا إلى فكرة أخرى ، يمكن أن تكون رئيسية في تقويم المواقف وإطلاق أحكام القيمة عليها. فلا يجوز النظر إلى الموقف انطلاقا من طبيعة القوى التي تتخذه أو من أهدافها المعلنة فقط، بل انطلاقا مما يمكن أن يؤدي إليه في سياق التطور العام. فقد يتخذ اليسار _ دون وعي منه _ موقفا لا يخدم التقدم، وليس ثمة شك مثلا في أن منظري ديكتاتورية البرولتاريا كانوا صادقين مع أنفسهم ومنسجمين مع رغبتهم في تحرير الكادحين من الظلم والاستغلال ودفع المجتمع في طريق التطور التقدمي، ولكن مآل ديكتاتورية البرولتاريا لم يؤد إلى ما أريد له، بل إلى عكسه، وبالتالي ، فان الانسجام مع الرغبة في التقدم لم يكن انسجاما مع مقتضيات التقدم.
    إن البحث في إشكالية التحول من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار، سيدفع بنا إلى استنتاجين نراهما أساسيين:
    1- إن قوى اليسار ينبغي الا تكف عن التسلح برؤيتها النقدية وموقفها التغييري إذا وصلت إلى السلطة، والا فإنها تفقد طابعها اليساري.
    2- ليس كل ما يطرحه اليمين يقع في خانة الخطأ، وان كان مخالفا للرؤى اليسارية ومن المفيد أن يتعلم اليسار من انتقادات خصومه ويبحث عن الصواب في مواقفهم.
    هكذا كان مآل المسيرة اليسارية حتى تسعينات القرن العشرين، وهكذا فشلت القوى اليسارية في تحقيق ما طرحته من أهداف نبيلة.فكيف يمكن للباحث أن يتناول هذه التجربة الطويلة والمريرة ليسار القرن العشرين؟ وكيف يمكن لليساري أن يعدل مفاهيمه ورؤاه بعد هذا المآل التراجيدي لتجربته؟
    اعتقد أن يسار القرن العشرين بعامة ، واليسار الشيوعي بخاصة ، وقع في خطأين . أولهما: الانسياق وراء الهدف البعيد _ إذا صح التعبير _ والنظرية الاشتراكية على أنها منقطع عما سبقه ، والى التغيير الحقيقي في المجتمع باعتباره التغيير الاشتراكي حصرا، وبالتالي عدم إدراك أهمية التغيير داخل النظام الرأسمالي، وعدم إدراك أن الاشتراكية هي السير خطوة خطوة وعلى مراحل وعبر تغيرات تدريجية تتراكم باتجاه العدالة ومزيد من العدالة.
    وثانيهما: فصل الهدف عن الوسيلة ، والدعوة إلى التغيير بوسائل " ثورية " عنيفة، واستصغار الديمقراطية السياسية وازدراء منجزاتها وثوابتها، ولا سيما بعد الوصول إلى السلطة.
    انطلاقا من تحديد هذين الخطأين، أرى ضرورة الوصول إلى فهم جديد ل " اليسار" يقوم على " جعله" يسارا ديمقراطيا ، وأنا أضع كلمة " جعله " ضمن أقواس، لان القوى اليسارية المعروفة، التقليدية، قد تكون عاجزة عن التحول بذاتها ، وبآليتها الداخلية، إلى يسار ديمقراطي. وبالتالي، يفتح حقلا جديدا في النضال اليساري، حقلا يتسع لكل من يعمل من اجل الديمقراطية وحقوق الوطن والمواطن. إنني أرى أن اليسار الديمقراطي الجديد، وهو الذي ينطلق من أن الاشتراكية هي العدالة المتزايدة، وهي ما يمكن الوصول إليه بالنضال الدؤوب من اجل تغيرات متتابعة متراكمة متنامية في النظام الرأسمالي، لان الاشتراكية تنمو شيئا فشيئا في إطار ذلك النظام ولا تأتي من خارجه ، بل تغيره من الداخل، لا تهدمه بل تحوله تحويلا.
    من هنا ، يمكن لنا أن نحاول تصور ملامح اليسار الجديد، المنسجم مع ملامح عصرنا وسماته ومقتضيات النضال من اجل التقدم فيه.
    ولعل أول سؤال ينبغي أن يجيب عنه هذا التصور هو: هل ثمة حاجة موضوعية لوجود اليسار في عصرنا؟ هل بينت تجربة اليسار على امتداد قرن من الزمن ضرورة استمرار التمحور حول اليسار واليمين؟
    لقد استنتج بعض الباحثين، من تغيرات في أواخر القرن العشرين، وفي ظل " الأزمة العالمية الشاملة على المستوى الاقتصادي والمعيشي" ضرورة " إعادة النظر بالمدارس الاقتصادية والمذاهب السياسية" وذلك من اجل" الوصول إلى معالجات تتجاوز التقسيمات الرائجة بين اليسار واليمين".
    إن ما اشرنا إليه في الموضوع من مشكلات وسمت اليسار، ولا سيما اليسار الماركسي ، وإشكاليات برزت في سياق تجربته، يدفعنا إلى اليقين بأن ثمة ما ينبغي علاجه وتجاوزه، بل ثمة ما ينبغي إدانته في هذه التجربة، لكن هذا لا يجعلنا نستنتج أن يسار القرن العشرين كان بلا فائدة، وانه لم يقم بدور مرموق على ساحات السياسة والثقافة والفكر في القرن العشرين. فلقد اقترنت معظم انجازات التحرر الوطني والتقدم في مجال الخدمات الاجتماعية وقسط غير قليل من التطور الثقافي بنشاط القوى اليسارية وتأثيرها. تحقق بعض ما تحقق من انجازات على يد القوى اليسارية عندما كانت حاكمة، وتحقق بعضه بضغط هذه القوى عندما كانت خارج الحكم، وتحقق بعضه أيضا من قبل قوى يمينية حاكمة وذلك تفاديا لضغط يساري تلتف حوله قطاعات شعبية واسعة.
    وعلى كل حال، فإن انقسام القوى السياسية في المجتمع إلى يمين ويسار وما بينهما، هو انقسام موضوعي لابد من وجوده دائما، لأنه ثمة حاجة مستمرة إلى التغيير التقدمي، تمثلها قوى لها مصلحة فيه، وثمة قوى لها مصلحة في إعاقة هذا التغيير ولجم القوى الداعية إليه.
    إن صيغة " الوصول إلى معالجات تتجاوز التقسيمات الرائجة بين يمين ويسار" على حد قول " علي حرب"، ليست صيغة موضوعية ولا هي قابلة للتحقيق. وقد تكون الصيغة الأكثر موضوعية هي الوصول إلى حلول توافقية ومعالجات على أساس الوجود الضروري ليمين ويسار تربط بينهما وتحكم علاقتهما جدلية الوحدة والتناقض، ويكون صراعهما حواريا لا يلغي التناقض بل ينطلق منه ولا يدمر الوحدة _ التي هي في النهاية وحدة المجتمع _ بل يصب فيها .
    من هنا ، فإن من ملامح اليسار الجديد أن يتبنى الديمقراطية له ولغيره، وان يحرص على توفير مناخ ديمقراطي تعمل فيه قوى اليمين وقوى اليسار، فهذا أفضل للمجتمع وتقدمه. وليس صحيحا ولا مفيدا ، ما دعا إليه اليسار الماركسي أو المتأثر به في العقود السابقة من قصر الديمقراطية على القوى اليسارية.
    ويدفعنا هذا الموقف غير الصحيح وغيره من المواقف والمفاهيم اليسارية التي ذكرناها، إلى المزيد من الاقتناع بضرورة معالجة مشكلة العلاقة بين اليسار الجديد واليسار القديم.
    ليس من حق اليسار الجديد أن ينفصم عن أصله وجذوره، وعن اليسار الذي انبثق منذ أوائل القرن العشرين، واستمر في الحضور والفعل على امتداده. وليس من مصلحته أن يفعل ذلك . بل سيكون من أهم مصادر قوته هو الامتداد في الماضي، هذا العمق الكبير الذي يكاد يصل إلى مائة عام، وسيكون له رصيد من الكفاح المتنوع ، ومخزون من التجارب والخبرات ، وسيكون له سلف صالح أعطى الوطن والتقدم والتحرر السياسي والاجتماعي الكثير الكثير.
    وإذا كان من أهم نقاط ضعف يسار القرن العشرين انه لم يبحث لنفسه عن جذور محليه في التاريخ ، وفي الفكر النهضوي والحركات النهضوية العربية في القرن التاسع عشر، مما منعه من أن يتأصل، وفتح هوة بينه وبين التكوين النفسي والفكري والسلوكي للإنسان العربي المعاصر، فإن اليسار الجديد من مصلحته أن يصل ما انقطع من الماضي بمراحله المختلفة، وان يؤسس لفهم مختلف يقوم على الانعتاق من وهم القطيعة والتميز المطلق، القطيعة مع الماضي، قريبه وبعيده، والقطيعة عن السلف المباشر المتمثل بفكر النهضة وحركاتها ورجالها، والقطيعة مع القوى والحركات السياسية والثقافية والاجتماعية المجاورة له والمعاصرة، والانعتاق من وهم التميز المطلق الذي يضع اليسار في واد واليمين في واد، ويخلق ساحة الفعل السياسي والاجتماعي ساحتين منفصلتين، مسلما بأن تلك ساحة اليمين، لا تلائمه ريحها ونكهتها ولا مجال لعمله فيها، وهذه ساحة اليسار التي عليه أن يسحبها ويغلق نوافذها ويحول دون تسرب أية نسمة يمينية إليها.
    وبطبيعة الحال ، فإن اليسار الجديد، وهو يبحث عن جذور له في الحركات والتيارات التغييرية في الماضي، سيجد أن عليه أيضا أن يكون الوريث المبدع لتجربة اليسار الحديث ، يسار القرن العشرين، فهي _ كما ذكرت _ تجربة ثرية بما هو جدير بأن يورث ويحمل ويعتز به. وإذا قدم اليسار الجديد نفسه بوصفه مطلق الجدة، مبتور الصلة بالحركات السياسية والفكرية اليسارية التي تكونت وناضلت في العقود الماضية، فهذا يعني انه وقع بالخطأ ذاته، أي بوهم القطيعة المطلقة والتميز المطلق الذي وقع فيه سلفه.
    ومفاد ذلك كله أن اليسار الجديد سيجد نفسه محكوما بضرورة الحل الجدلي لثنائية التواصل والانقطاع، لا في العلاقة مع تراث الأمة في مراحلها السابقة فقط، وإنما مع تراثه هو ، مع اليسار السابق له، يسار القرن العشرين.
    ولكل من طرفي الثنائية المذكورة: التواص والانقطاع، عامل موضوعي وآخر ذاتي إرادي.
    فالانقطاع الموضوعي ، لان اليسار الجديد سيجد نفسه أمام مهمات مختلفة عن مهمات سلفه وظروف مغايرة لتلك التي نشأ فيها سلفه وروابط قومية ودولية غير روابطه...
    والانقطاع إرادي ، لأنه نتاج وعي التجربة السابقة ووضع اليد لا على انجازاتها فحسب، وإنما وبشكل خاص _ على مثالبها ونقاط ضعفها ، وتحديد المكونات الذاتية لتلك المثالب والنقاط ، وبالتالي، فإن الانقطاع هو نتاج إرادة التغيير ، نتاج القراءة النقدية لتجربة يسار القرن العشرين والموقف اليساري التغييري تجاه حركة اليسار ذاتها.
    لكن الانقطاع _ على قوة عوامله الموضوعية ، ومع توفر الإرادة الدافعة إليه _ سوف يصطدم بعامل ذاتي مؤثر. فالعناصر التي تطرح التغيير والانقطاع، هي بأكثريتها الساحقة _ قد ولدت وترعرعت وتكونت في كنف اليسار القديم واغتذت بمفاهيمه ومفرداته، وهي تحمل خصائصه بدرجات متفاوتة، وسوف تجد نفسها مشدودة إلى القديم ، لغة وسلوكا، انشدادا تقبع عوامله في اللاشعور الفردي والجمعي. ويضعنا هذا أمام مشكلة أخرى ، وهي التناقض في العامل الإرادي الذاتي ذاته، بين ما يدفع إلى الجديد ( الطموح) وما يشد إلى القديم( التربية والتكوين) وتعد هذه المشكلة من أهم معوقات التجديد.
    والتواصل موضوعي، لان الانقطاع نسبي، وكل جديد هو ابن القديم وامتداده، لا يمكنه أن يقطع معه كل الخيوط والوشائج، وستظهر ملامحه فيه كما تظهر ملامح الآباء في الأبناء. ولكن التواص إرادي أيضا، أي ينبغي أن تتوفر إرادة تحميه. فقد تغري جدة الأفكار وحداثة المفردات والمصطلحات الكثير من دعاة التجديد بفصم العرى وقطع الأواصر بين الجديد والقديم ورفض القديم رفضا كليا مطلقا... تماما كما أغرى الجديد في العقود الأولى من القرن العشرين عددا كبيرا من دعاته، فحدث الانقطاع الذي اشرنا إليه بين اليسار والماضي التراثي والنهضوي. أي إغراء الجديد اليوم قد يدفع بدعاته إلى تكرار خطأ الأمس والسقوط في وهم القطيعة والتميز المطلق. ومن هنا تبرز الإرادة، يبرز الوعي في تحقيق ثنائية التواصل والانقطاع.
    أما الثنائية الأخرى التي سيجد اليسار الجديد نفسه مطالبا بمعالجتها، فهي ثنائية الوحدة والتنوع، لا في علاقته بالقوى غير اليسارية ، وإنما في علاقاته الداخلية ، في العلاقات بين فصائله، وداخل كل فصيل منها.
    إن ما ظهر في القرن العشرين، مع احتراب اليسار واضطراب العلاقات بين فصائله، كان مرتبطا إلى حد بعيد بعدم الوصول إلى معالجة جدلية لثنائية الوحدة والتنوع ، فكل فصيل يساري كان يرى في الفصائل اليسارية الأخرى خصوما ، كما كانت الوحدة الداخلية لكل فصيل تقوم على رفض فكرة التنوع في صفوفه ، وهذا ما جعل الوحدة تقوم على القمع وتغييب الديمقراطية، وتتحول إلى عصا غليظة تشهرها القيادة في مواجهة الأفكار والتيارات المعارضة لها، وجعلها أيضا وسيلة لـ " تقوية" الفصيل في مواجهة الفصائل الأخرى ، وهي وسيلة وهمية كما ثبت بالتجربة.
    إن غنى كل حركة يعتمد على ما فيها من تنوع، وقوتها تقوم على التحقيق السليم لجدل الوحدة والتنوع. ينطبق هذا القول على قوى اليسار مجتمعة ، وعلى كل واحدة منها على حدة.
    وثمة مسألة أخرى لابد أن نتناولها بوصفها واحدة من ملامح اليسار الجديد، إنها علاقته بالثقافة والحركة الثقافية.
    ينطلق فهم هذه العلاقة من ثنائية: الواقع والوعي.
    فكون الوعي انعكاسا للواقع الموضوعي لا يعني انه تابع تبعية مطلقة. انه طرف ايجابي في الثنائية المذكورة، وهو انعكاس للواقع، ولكنه انعكاس فعال، ومؤثر، وفي لحظات معينة تظهر استطالات في الوعي تخرج عن إطار الانعكاس وتتجاوز الواقع لتشده نحو التغيير. إنها جدلية التأثير المتبادل، إنها أولية الواقع وسبقية الوعي، فلا تغير حدث في التاريخ دون دور الوعي. وبهذا المعنى يمكن القول أن الوعي يتبع الواقع بمقدار ما يتبع الواقع الوعي.
    إذا أدرك اليسار جدل الواقع والوعي إدراكا سليما، فإنه سيجد نفسه _ موضوعيا _ حركة ثقافية، حركة للتأثير في وعي الناس واعتماده وسيلة للتغير. وإذا انطلقنا من أن التغيير لا يمكن أن يتم في عصرنا الا بالطرق الديمقراطية، فسوف نرى أن اقتناع الناس بالتغيير شرط لابد منه كي يمنحوه أصواتهم وممارساتهم. فميدان عمل اليسار إذا هو وعي الناس، وقد تتنوع وسائل هذا العمل، غير أن الحاسم فيها هو العمل الثقافي.
    لقد دلت تجربة يسار القرن العشرين ، على انه كثيرا ما كان يقع في احد خطأين ناجمين عن عدم إدراك جدل ثنائية : الواقع و الوعي. فالمبالغة في رؤية استقلال الوعي ( أي استصغار شأن الواقع الموضوعي وشروطه) كانت أساسا لتقديم الذاتي على الموضوعي في المعالجات، وفي تحديد المهمات ، وأساسا للمواقف غير الواقعية، مواقف حرق المراحل والتجاوز المصطنع لمرحلة قائمة ما تزال تحوز مبررات الوجود ومقومات التطور، كما كان أساسا للتركيز على مهمات لا يحتملها الواقع وتقديمها على مهمات من حقها التقدم ، وقد آل ذلك إلى الفشل في تحقيق المهمات المرسومة على الورق وتأخير انجاز مهمات ممكنة الانجاز، مهمات مفتاحية في سياق التطور.
    ومقابل ذلك ، فقد قاد عدم إدراك استقلال الوعي، والتقليل من دوره بوصفه محركا للنضال التغييري وللتغيير ذاته، إلى تضاؤل اهتمام اليسار بـ " تربية الوعي" وضمور النشاط الفكري والثقافي لفصائله مما أدى إلى انتشار نوع من الوعي السطحي الزائف، و أنتج حالة من التشوه في كثير من فصائل اليسار، فهي تطرح التغيير لكنها لا تشحذ أدواته، وهي تحرض أكثر مما تثقف، مما غلب لدى أعضائها ومناصريها الحماسة على المعرفة، والغريزة الثورية على الوعي الثوري.
    وإذا أمعنا النظر في كلا الخطأين المذكورين، فسنجد أنهما يقومان على قاعدة واحدة هي زيف الوعي، والعجز عن إدراك علاقته بالواقع إدراكا سليما.
    إن إدراك العلاقة الجدلية بين طرفي ثنائية: الواقع والوعي، انطلاقا من أولية الواقع وسبقية الوعي، سوف يضع علاقة اليسار الجديد بالثقافة والحركة الثقافية في سياقها الصحيح.
    وأخيرا ، فإن نبذ العنف والتمسك بالأساليب الديمقراطية الشرعية في النضال من اجل التقدم التدريجي على طريق العدالة، هما من سمات النضال اليساري الديمقراطي الجديد، وبالتالي، فإن كل موقف في وجه النزعات العنيفة والمتطرفة مثلا، هو موقف يساري وكل موقف مؤيد للديمقراطية والعقلانية والعلمانية، هو موقف يساري، سواء أكان صاحبه داعية اشتراكية أم لم يكن، فإخراج اليسار من أطره الضيقة هو احد ضرورات بناء يسار ديمقراطي جديد.
    قد يقال: وإذا اتسع مفهوم اليسار إلى هذه الدرجة، فمن هي القوى اليمينية إذا؟
    إنني أرى أن القوى اليمينية اليوم هي تلك التي لا تزال تبحث عن حلول ماضوية لمشكلات العصر والوقائع المستجدة، وهي قد توجد في مختلف التيارات السياسية والفكرية، وهي أيضا تلك التي تعرقل التطور الديمقراطي وتعوق خطوات العدالة الاجتماعية انطلاقا من مصالحها الجشعة.
    وعلى كل حال ، فإن مصطلح" يمين، يسار" يظل مصطلحا إشكاليا ، ونسبيا في تابعيته للزمان والمكان والموقف الملموس.




    المراجع:
    علي حرب: من ثنائية المثقف والسلطة إلى ثنائية المثقف ورجل الأعمال
    خالد بكداش: حركة التحرر الوطني والنضال في سبيل الاشتراكية
    عطية مسوح: الماركسية من فلسفة للتغيير إلى فلسفة للتبرير
    وأنا الذهاب المستمر إلى البلاد

  2. #2
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    لقد وضعت هذه القوى العدالة في مواجهة الديمقراطية السياسية، والشرعية الثورية في مواجهة الشرعية الدستورية ، فكانت نتيجة ذلك أنها إبتعدت عن الديمقراطية والشرعية دون أن تقترب من العدالة ، وإذا كانت قد حققت بعض الخطوات في طريق العدالة الاقتصادية، فان تلك الخطوات كانت ضعيفة ومحصورة بالجانب الاقتصادي، ولم تلبث أن أفرغت من محتواها ، لان أساليبها البيروقراطية ولدت قوى تملك حق اتخاذ القرار، وتتحكم بالشأن السياسي والاقتصادي، وتمكن سيطرتها على المجتمع لتتحول إلى طبقة لا تحوز وسائل الإنتاج مباشرة، ولكنها تتحكم بها وبإنتاجها وتوزيعه وبالسلطة السياسية ومكاسبها، وتقف في وجه كل تغير لهذا الواقع.
    لقد أضاعت " الشرعية الثورية" العدالة بعد أن أضاعت الشرعية الدستورية ، وابتلعت قوى اليسار ما سمته بالديمقراطية الاجتماعية بعد أن ابتلعت الديمقراطية السياسية، وهكذا تحولت القوى التي كانت يسارية بدعوتها التغييرية فيما مضى ، إلى قوى محافظة ويمينية.

    بعيدا عن اليسار واليمين وأيٌ يقود لأي أو يتحور لأي من مصطلحات إشكالية قامت أصلا كشافات إضاءة في مرحلة التوجيه الفكري على هامش صراع المعسكرين رأس المالي والاشتراكي، فإن كل ما يتنازع الساحة من توجهات متحزبة أوغير متحزبة هي بالنهاية حركات ثقافية تهدف للتأثير في وعي الجماهير كخطوة باتجاه التغيير نحو الأفضل من وجهة نظر متبنيها
    وبمراعاة استقراء الواقع ومواءمة الواقعي المعقول مع المأمول من وجهة نظر الفكر أو التوجه المُتبنى، يتم تحديد المهمات باتجاه المقبول مرحليا ، بانتظار إنجاز مراحل أكثر تقدما من التوعية والبناء الفكري التي سترتقي بتحققها في مستوى المعقول ليقترب أكثر فأكثر من روح وفكر التوجه العامل

    إلى تضاؤل اهتمام اليسار بـ " تربية الوعي" وضمور النشاط الفكري والثقافي لفصائله مما أدى إلى انتشار نوع من الوعي السطحي الزائف، و أنتج حالة من التشوه في كثير من فصائل اليسار، فهي تطرح التغيير لكنها لا تشحذ أدواته، وهي تحرض أكثر مما تثقف، مما غلب لدى أعضائها ومناصريها الحماسة على المعرفة، والغريزة الثورية على الوعي الثوري.
    أزعم أن هذا يصح لوصف الحركات الاسلامية الفاعلة على الساحة كما يصح لوصف اليسار بمختلف مراحل عمله


    بحث استثنائي رائع يكشف لنا عن مفكر ومحلل سياسي في واحتنا طويل الباع

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  3. #3
    الصورة الرمزية عايد راشد احمد قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2009
    الدولة : تائه في دنيا المعاني
    المشاركات : 1,865
    المواضيع : 49
    الردود : 1865
    المعدل اليومي : 0.35

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله

    استاذنا الجليل

    موضوع قيم ومرتب الافكار ونظرة لتوجه سياسي واقتصادي موجودة افكارها علي ارض الواقع

    لكن كل هذه النظريات اجتهادات بشرية قابلة للنجاح او الفشل

    فلقد نجحت في امكان متل الصين وفشلت في اماكن اخري وهدا يتوقف علي اسلوب تطبيقعا وطبيعة الشعوب والظروف المحيطة بالنظرية

    جهد موفق استاذنا الكريم

    وتقبل مروري واحترامي
    صاحب البسمة والنسمة
    تقيمك بمشاركة مطلوب كما انت تحتاج فلا تبخل

المواضيع المتشابهه

  1. الحالة 316 ( قصة قصيرة )
    بواسطة سمير الفيل في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 24-06-2019, 09:15 PM
  2. الحالة الثقافية والأدبية في مصر في العصر العثماني:حسين الهنداوي
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى قَضَايَا أَدَبِيَّةٌ وَثَقَافِيَّةٌ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16-07-2016, 10:49 PM
  3. منهجية تفكيك التكتلات المعادية
    بواسطة هشام النجار في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 23-04-2015, 09:12 AM
  4. رؤية فلسفية في الحالة السورية
    بواسطة سامح عسكر في المنتدى الحِوَارُ السِّيَاسِيُّ العَرَبِيُّ
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 17-09-2012, 07:40 PM
  5. تقرير مؤسسة Rand عن الحالة الاسلامية !
    بواسطة ابو نعيم في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-12-2004, 09:59 PM