لعلَّ حياتنا المعاصرة, والتي راحتْ تطرحُ علينا (مفاهيم) غامضة, وصلتْ بنا أخيراً، إلى حيثُ أصبحنا لا نعرف مِنْ أينَ نبدأ, ولا في أي اتجاهٍ نسير, ولا إلى أينَ المنتهى !
ولعلَّ شعوبنا, حَالها حَال جميع دول العالم الثالث, فَقدتْ اليقينَ والهدف, بحيث أصبحتْ أول فريسة (لمفاهيم) الحياة المعاصرة.. حياةٌ ضاعتْ فيها الآمال والأحلام, وتلاشى فيها الطموح حتى بلغَ مرحلة اللاشيء.. فصرنا نعيشُ جميعاً، لمجرد أنَّ أرواحنا تسكن أجسادنا، مِنْ غير إرادة لنا في ذلك, وتخرج أيضاً مِنْ حيث لا ندري !
اختلطتْ علينا القيم, واختلط الحابلُ بالنابل - كما يقولون - .. وصارتْ (مفاهيمُ) الحياة المعاصرة, تحملُ التناقضات, كل التناقضات, في صميمها.
فذات ( المفاهيم ) التي كانتْ تَعتبرُ الحَمَلَ في وقتٍ مِنَ الأوقات هو الفريسة, أصبحتْ تعتبرُ الذئبَ ضحيةً في ظلِّ (الإزدواجية) المُرعبة التي تطغى على هذا العصر.
لذا؛ عندما تكون كاتباً عربياً, وتأتيكَ بلادكَ العربيةُ - قدَّسَ الله سرّها - بقوافل قتلاها, بين اغتيالاتها الفردية, ومذابحها الجماعية, وأخبار الموت الانتقائي في تفاصيله المرعبة, وقصص مُواطنيها البسطاء في مواجهة أقدارٍ ظالمة ؛ لابدَّ أنْ تسأل نفسك : ما جدوى الكتابة ؟.. وهل الحياة حقاً في حاجةٍ إلى شعراء وكتّاب وروائيين، ما دام ما تكتبه في هذه الحالات ليس سوى اعتذارٍ لمنْ ماتوا، كي تبقى أنتَ على قيد الحياة!
وما دامتْ النصوص الأهم, هي ليستْ تلك التي تُوقّعها أنتَ باسمكَ الكبير, وإنما هي في الواقع، تلك التي تكتبها دماء الرجال والشيوخ، الأطفال والنساء، المُعرَّفون منهم والنكرة, الصامدون حيث تنهار الجبال.. والواقفون دون انحناء بين ناري السلطة والإرهاب.. أولئكَ الذين ما برحوا يدفعون بأرواحهم، في معرض الموت العبثي، فداءً لقضيةٍ أسميناها " الحق " .. بينما نعتها آخرون بأنها " عين الباطل".
عندما تكون صاحبَ قلم عربي, وتكتب عن حال العرب, لابدَّ أنْ تكتب عنه بكثيرٍ مِنَ الحياء, بكثير مِنَ التواضع. لا لشيء، وإنما لكيلا تتطاول، دون قصد، على قامة الواقفين هناك، على شواطئ الدماء الزكية.. أو على أولئك البسطاء، الذين فرشوا بجثثهم سجاداً للوطن، كي تواصل أجيالاً أخرى، المشي نحو حلمٍ سميّناه الحق... والذين على بساطتهم, وعلى أهميتكْ, لنْ يرفعكَ إلى مرتبتهم، سوى الموت مِنْ أجل الحق.
و دمشق .. تلكَ المدينة التي ما كانتْ يوماً مَسقط رأسي، وإنما مسقط قلبي وقلمي, هاهي ذي اليوم تُصبح مَسقط دمي.. والأرضُ التي يَقتلُ عليها بَعضيَ بَعضيْ ؛ كيف يُمكنني مواصلة الكتابة عنها ولها، وأنا هنا، واقفاً على مسافةٍ وسطيةٍ بين القاتل والمقتول.
ففي سنتين فقط، هما عُمْرُ غَضْبةٍ اختلف الناس في تسميتها، فَقَدْنَا في دمشق، أكثر مِنْ ستين عالمٍ وكاتب ومبدع.. هم نبراس الثروة العلمية والثقافية في سوريا.. وأعلامها.
ومَنْ أخطأه الموت ممن تبَّقى.. أصابه التشوّه في زاويةٍ ما مِنْ روحه.. تشوّهٌ يلزمه عمراً يُعادل عمر دمشق،كي يتلاشى تماماً من كينونة صاحبه..فأيّ نزيف فكري هو هذا..وأيّة فاجعة وطنية هي ذي!
مُنذُ الأزل.. نكتبْ وندري بأنَّ في آخر كل صفحة، ينتظرنا رقيبٌ - مِنَ الله - يَنبشُ بين سطورنا, يراقبُ صمتنا وأنفاسنا, ويترَّبصُ بنا بين جملتين.
كُنا نعرفُ الرقيب، ونتحايل عليه. ولكن الجديد اليوم في الكتابة وفي الثقافة، أننا لا ندري مَنْ يُراقب مَنْ.. وما هي المقاييس المعترف بها في هذا الزمن ؟!..
يُحزنني أنْ أكون مِنْ أوائل الذين اكتشفوا الجديد في الكتابة هذه الأيام.
يُحزنني لأنَّه اكتشافٌ موجع .. ومُدمي.
ذلك أنَّ الجديد في الكتابة اليوم، أنَّ أحلام المُبدعين تواضعتْ.. بل قُلْ إنها تقزَّمت.
دليلي على ذلك، ما أخبرني به الصديق الكبير " ابراهيم كنعان " على لسان " أحد " الناجين مِنْ مذبحة المُبدعين، الذين ساقتهم فِطرتهم إلى " مكتبة الأسد الوطنية في دمشق" : أنه يوماً ما، كانَ يحلم أنْ يعيش بما يكتب.. فأصبحَ يحلم ألا يموت يوماً بسبب ما يكتب.
صاحب قصيدة " كُفّوا السؤال " .. ما كانَ ليُدلي بذلك التصريح، لولا تهديد التصفية الذي تلقّاه مِنْ قبل الملائكة المُوكل إليهم مهمة قبض الأرواح، وذلكَ بعد أنْ بَلَغَهُمْ أنَّ هذا المُوالي ما زالَ على قيْد البوح.
يا أنتْ.. عندما تكون شاعراً أو قاصّاً أو روائياً سورياً، لابدَّ أنْ تسأل نفسك: كيفَ تجلسْ لتكتب شيئاً في أيّ موضوع كانْ، دونَ أنْ تُسندَ ظهركَ الى قبر أحدٍ عرفته يوماً !
في زمن العنف العدميّ, والموت العبثي, عليكَ أنْ تسأل نفسكَ مرةً واثنتين وثلاث:
ماذا تكتب ؟.. ولمن تكتب؟.. داخلاً معْ كل موتٍ في حالةِ صمت أبدي، حتى لتكاد تصدّق، أنَّ في صمت الكاتب عنفاً أيضاً.
ماذا تكتب أيّها الروائي المُتذاكي.. ما دامَ أيّ مجرمٍ صغير، هو أكثرُ خيالاً منك.. وما دامتْ الرواياتُ، الأكثر عجائبية وإدهاشاً، تكتبها الحياة.. هناك!
سواء كنتَ تريدُ أنْ تكتبَ قصة تاريخية, أو عاطفية، أو بوليسية..
سواء كنتَ تريدُ أنْ تكتبَ رواية عن الرعب، أو عن المنفى.. عن الخيبة.. عن المهزلة.. عن الثورة.. عن الحريَّة.. عن الكرامة.. عن المؤامرة.. عن الجنون.. عن الذعر.. عن العشق.. عن التفكك.. عن التشتت.. عن الموت المُلفّق.. عن الحزن المُنمَّق.. عن الأحلام المعطوبة.. عن الثروات المنهوبة... عن أي شيء كان؛ عليكَ أنْ تتوقف فوراً، وأنْ لا تُتعبَ نفسك وتُهدر حبرك.
لقد سَبَقَتْكَ متاهات الحربُ في كتابة كل شيء. فتَرجَّلْ عن صهوة قلمك، أيها الفارس القادم في زمنٍ ليس بزمنكْ.
نعم .. الحرب هي الروائي الأول في سوريا.
وأنت, أيّها الكاتب الذي تعتقدُ أنكَ تملك العالم بالوكالة, وتدير شؤونه في كتاب.. الذي يَكتبُ قطعاً ليسَ أنتْ، ما دُمتَ تكتبُ بقلمٍ قصصاً يشارككَ القدرُ في تنسيقها بالدم.
سألتكَ ولمْ تُجبني : لماذا تكتب ؟.. ولمن ؟.. وكيف يُمكن فضّ الاشتباك بينكَ ككاتبْ.. وبين الوطن؟.. وهل المنفى هو المكان الأمثل لطرح تلك الأسئلة الموجعة أكثر مِنْ أجوبتها؟!..
نعم .. إنه زمنُ الشتات العربي أيها الناجِ مِنَ الموتِ خطأ ً.
وطنٌ يحتضر .. ويتبعثر علمائه وكتّابه ومثقفوه بين المقابر والمنافي، ليُواصلوا الميراث التراجيدي للثقافة العربية, وينضمّوا للشتات الفلسطيني، وللشتات العراقي.. والشتاتُ غيرِ المعلنْ لأكثر مِنْ بلد عربي, تُنفى منه شعوب بأكملها, وتنكسر فيه أجيالٌ مِنَ الأقلام، إكراماً لرجل أو لحفنة مِنَ الرجال, يُفكرون بطريقة مختلفة، ولا يغفرون لكَ أنْ تكون مختلفاً.
نعم.. نحن اليوم، في أزهى عصور الانحطاط الديني, والثقافي, والفكري، والثوري، والسياسي.. وحتى الجنسي.
دليلي على ذلك.. أنَّ الجميع وصلوا إلى مرحلة, أصبحوا لا ينتظرون في الغد, إلا رجوعاً سحيقاً إلى الوراء.. وأصبحتْ لغةُ الإحباط التي لا يملك الأجداد غيرها, هي ذاتها لغة الشباب, المُخضًّبة طفولتهم ببحار اليأس القاتمة .
لَعَمْري إنها حياة رديئة.. حياةٌ عاهرة .. كل ما فيها ضياٍع وتخبط ويأس.. بكاءٌ وألمٌ ودموعْ.. وزمنٌ منعدمُ التضاريس, لا يُمكن تحديد الأمسِ مِنَ الحاضر مِنَ المستقبل فيه.
فلماذا.. لماذا، وقد سَلَّمنا أنفسنا طَواعيةً للغزاة المَبْعوثين رَحمةً وهُدىً للعالمين، نُصرُّ على التفكير، ونحنُ ندري بأنَّ التفكير غدا اليوم أخطر تهمة.. حتى إنه يَشتركُ مع التكفير في كل حروفه، ويبدو أمامه مجرد زلة لسان ؟..
ولماذا نُصرُّ على الكتابة، ونحن نعي بأنها غدتْ هي الأخرى أكبر تُهمة ؟.. وهل يَستحق أولئك الذين َنكتبُ مِنْ أجلهم، كل هذه المجازفة ؟..
أيها الناجِ، اطمئن.. هذه المرّة، لا أنتظرُ منكَ إجابة.. وإنما هي أسئلةٌ أتركها لهم.. برسم التأمل.