أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 13

الموضوع: حنين إلى زمن بئيس

  1. #1
    الصورة الرمزية عبد الرحيم صادقي أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    المشاركات : 1,300
    المواضيع : 106
    الردود : 1300
    المعدل اليومي : 0.26

    افتراضي حنين إلى زمن بئيس


    حنّ صديقي إلى الماضي وكاد قلبه ينفطر حين ذكر أياما خلت. قلت له: أتدري أننا نحنّ إلى الماضي لأنه مضى، ولو عاد لكرهناه؟ قال: بل لأنه أجمل. قلت: أفكان كله كذلك؟ إنما تَذكر بعض لحظات. قال: كان الناس على فطرتهم التي فطرهم الله عليها، وكانت النفوس أنقى وأطهر. قلت: فماذا لو ذكّرتُك بما تكره؟ قال: ستكون لحظات معدودة، وهي على ندرتها أجمل إذا ما قيست إلى مثيلاتها في زمننا البئيس هذا. قلت: أفتذكر ما كان للآباء من هيبة في بيوتهم لا تُفهَم؟ أتذكر أن أباك رحمة الله عليه كان يجيب سؤالك ويشفي كل حيرة؟ أكان بين الأزواج مكاشفة وكلام صُراح؟ أما كان يُظلّ البيتَ ستارُ حياء في غير محله؟ أما كانت المشاعر تشكو جفافا وإن لم يفارقها الصدق؟ ولفرط هيبة الرجال ما كان أحدهم يقول لزوجه "أحبك" مخافة أن تُخدش هيبته. وهل كانت تطاوعه نفسه الأبية أن ينادي زوجَه باسمها؟ قال: صدقت والله! كان جهلا تَدثَّر بزيّ العلم، وحياء مغشوشا، ومشاعر متصلبة، يحسبها الجاهلون خلقا كريما.
    قلت: أما تذكر أن الطفل في زمننا البئيس كان حينما يعثر فيقع منبطحا على الأرض تنهال عليه الأم بضربات جزاء وفاقا؟ قال: إي والله! وكأنما تبغي أن يكون الجزاء من جنس العمل! قلت: ألست تذكر أنه كان في كل بيت غرفة للضيوف مقدسة لا يطؤها أهل البيت، ولاسيما الصغار منهم؟ على حين يصطفّ الأطفال جنبا إلى جنب حين ينامون، قد افترشوا فراشا واحدا، والتحفوا لحافا يتجاذبونه، بالضبط كهيئة أولئك اللائذين بالملاجئ ذات حرب.
    قلت: أتذكر كيف كان تعليمنا؟ كانت العصا تجبّ كل منهج تربوي. كنا نذوب فرَقا، ونتلوى رعبا. وأكثر عُقَدنا النفسية الآن سببها ذلك الزمان الذي تحنّ إليه. كان معلّمونا أكفاء صادقين، على قسوة لا معاذير لها. ولو بقيَت شدّتُهم إلى يوم الناس هذا لاكتأب أكثر أبنائنا أو قضوْا فرَقا لِما نرى فيهم من ضعف ولين. كنا ندرس أشياء لا ندري لِم، ونُمتحن في أشياء لا نعرف فيمَ تفيد. أوَتذكر كيف كان عطف الكبار على الصغار؟ أتذكر يوم طرَدَنا ذلك الشيخ المعمّم من المسجد لأن الصغار يومئذ ما كان يُسمح لهم بدخول بيوت الله. كان كل طفل -ولو مميِّزا على شرط الفقهاء- تُسوّل له نفسه اقتراف إثم الدخول طفلا مُريبا. كان عليه أن ينتظر التأديب. ولكَم أُخرِجنا من الصف الأول إلى الصف الثاني، ثم إلى الذي قبله، فإلى الذي قبله، فإذا نحن خلف المصلين كنُوق فارِدة، قد حجبوا عنا رحمة الله! ولأن الكبار كانوا ذوي هيبة، فما كانوا يجالسون الصغار أو يَطعمون معهم، أو يمازحونهم خشية أن يَبطل وضوء أحدهم. وويلك ثم ويلك لو جادلت كبيرا وأنت الصغير! قال: فإني أتحسّر على حماسة شباب ولّى. قلت: فهل كان مع الحماسة حصافة ودراية؟
    قلت: أتذكر كم كان يشقى بعض أصدقائنا كل يوم حتى يبلغوا أقرب مدرسة؟ بعضهم يقطع فيفاء مشيا على الأقدام في حرّ وقرّ، وآخرون مفازة علّهم يجدون على الطريق هدى أو سيّارة تُقلّهم. كنتَ تراسل عزيزا، وإذا بالرسالة غدوُّها شهر ورواحها شهر. وحين يصلُك الردّ يكون عزيزك قد غيّر عنوان إقامته. وأمّه التي دعوتَه إلى عيادتها في مرضها الشديد قد توفّتها المنيّة. زماننا يا صديقي كان زمن كتم الأنفاس، وتقديس الحاكم بهواه، والخشية من الرقيب. ألم يكن يقال لنا إن للجدران آذانا؟ أما كنت تقصد ورّاق المدينة بحثا عن جريدة محترمة، وأنّى لك الخيار وهو مَحجّ المثقفين الوحيد؟ أما كنت تصاب بالغثيان ثم تكظم غيظك حين يبث لك تلفاز القوم نشرات أخبار بالأبيض والأسود، تحدثك عما فعل وليّ الأمر، وكيف حل وارتحل؟ ثم حين يحين موعد سلسلة راعي البقر تستلقي على ظهرك وأنت من العافين عن الناس. لم تكن غير خمس ساعات من البث بلا زيادة أو نقصان. يا لحماستنا منقطعة النظير ونحن نتابع ما فعل منتخب بلد المليون ونصف المليون شهيد، واللعبة في صبرا وشاتيلا حمراء قانية. في زماننا عزيزي هلك مظلومون في سجن الحاكم ظلما وعدوانا، وما وجدوا من يَذكرهم.
    يا صديقي! إن النساء كن يتألمن في صمت، ولولا أن الله أفرغ عليهن صبرا وأوتين جلَدا وسماحة لاستحالت حياتهن جحيما. كانت إحداهن تموت في حيضة أو نفاس ولا يُعلم سبب موتها. تمرض ولا تشكو، ومن ذا يأخذ بيدها إلى الطبيب؟ كانت ترعى البيت وربَّ البيت وعيالَه مُضمِرة تحت جناحها علّة البدن والروح. لا تتخلّف عن موعدها الباكر كل صباح، ولا عذر لها في ملازمة فراشها إلا الموت. تُضرَب وتصبر، تُسجن في بيتها فلا تُجاوز ظُلّتها، وهي العفيفة الطاهرة إذا لزمته، والناشز إذا خرجت لقضاء بعض حوائجها. تُحرَم التعليم وإرثَ أبيها، ليتقاسمه الذكور، إذ هم وحدهم أبناء أبيهم! تتزوج المرأة فيذهب بها الزوج إلى بيت أبيه فيكون أهل الزوج كلهم أرباب قِوامة. ومن ذا يمنع الأب أن يؤدب كَنّته؟ أما الوالدة فلا تُردّ لها كلمة، ولا يُعصى لها أمر. أليس أبوه أبوها وأمّه أمها؟
    ذلكم هو زماننا أيها الصديق، وهو زمان فضائل ولا شك! قال صديقي: يا الله! لقد كان زمننا بئيسا بحق! بل إنه زمن زامِن، فهل لنا أن نحلم بزمن جميل؟ قلت: زمننا الجميل حقا حين نجمع فضائل أمسنا إلى فضائل يومنا أيها الصديق! ولا سبيل إلى ذلك إلا بعلم سديد، وقبسات من الحكمة. ولقد أهديتك واحدة في بدء الكلام وسأهديك أخرى في نهايته. قال: فهات! قلت: الحنين إلى الماضي أمارة الخوف من قابلات الأيام غالبا. فتحرّر من خوفك!


  2. #2
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    زمننا الجميل حقا حين نجمع فضائل أمسنا إلى فضائل يومنا أيها الصديق! ولا سبيل إلى ذلك إلا بعلم سديد، وقبسات من الحكمة.
    لو استطعنا الجمع بينهما سنبقى الأفضل، لكننا نعيش حسرات على الماضي ممسكين بتلابيبه، وإن اهترأت؛ ربّما خوفا من الحاضر ومن أنفسنا أن تضعف
    الحنين إلى الماضي أمارة الخوف من قابلات الأيام غالبا. فتحرّر من خوفك!
    التّحرّر من الخوف هو الخطوة الأولى لاعتلاء سلّم الواقع والحاضر
    جميل ما قرأت أستاذ عبد الرّحيم ... التّغني بأفضليّة ما كان داء استفحل بين الكثيرين ... وقد جاء عرضك رائعا
    بوركت
    تقديري وتحيّتي
    للتّثبيت تقديرا

  3. #3
    الصورة الرمزية عبد الرحيم صادقي أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    المشاركات : 1,300
    المواضيع : 106
    الردود : 1300
    المعدل اليومي : 0.26

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    لو استطعنا الجمع بينهما سنبقى الأفضل، لكننا نعيش حسرات على الماضي ممسكين بتلابيبه، وإن اهترأت؛ ربّما خوفا من الحاضر ومن أنفسنا أن تضعف
    للتّثبيت تقديرا
    هناك من يبالغ في كرهه للماضي، وتراه يمجد حاضره،
    في حين نجد من يحن إلى ماضيه وتراه دائم التأفف من حاضره.
    ليس هناك زمن سوء وشر بإطلاق، كما أنه لا وجود لزمن كله خير.
    والأفضل أن ننظر بعين الحكمة والاعتدال.
    بوركت أيتها الكاملة
    تحياتي لك
    ودامت لك السعادة.

  4. #4
    الصورة الرمزية لانا عبد الستار أديبة
    تاريخ التسجيل : Nov 2012
    العمر : 53
    المشاركات : 2,496
    المواضيع : 10
    الردود : 2496
    المعدل اليومي : 0.60

    افتراضي

    نعم أيها الكاتب الرائع
    لا يوجد زمن بئيس على إطلاقه لا الماضي ولا الحاضر
    ولكل زمان أوجه جماله وأوجه بؤسه
    مقالتك جميلة
    أشكرك

  5. #5
    الصورة الرمزية عبد الرحيم صادقي أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    المشاركات : 1,300
    المواضيع : 106
    الردود : 1300
    المعدل اليومي : 0.26

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة لانا عبد الستار مشاهدة المشاركة
    لا يوجد زمن بئيس على إطلاقه لا الماضي ولا الحاضر
    ولكل زمان أوجه جماله وأوجه بؤسه
    مقالتك جميلة
    أشكرك
    وشكر الله لك اهتمامك ودفعك
    نحن من نصنع البؤس والجمال
    تحياتي لك لانا
    دمت بخير

  6. #6
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي

    الماضي على الرغم من جماله إلا أن به أخطاء عدة جميل أن يتداركها الأجيال ويصححون أخطاء آبائهم في الحاضر , وكذلك الحاضر على الرغم من جمالياته وتصحيح بعض الأخطاء القديمة إلا أنه خلا من البساطة ومن غيرها الذي تعودها اهلونا قديما , وهكذا في كل زمن يكون فيه الجميل وفيه الشئ القبيح الذي تعترضه فتحنُّ إلى الجانب المشرق في الماضي
    زمننا الجميل حقا حين نجمع فضائل أمسنا إلى فضائل يومنا أيها الصديق! ولا سبيل إلى ذلك إلا بعلم سديد، وقبسات من الحكمة.
    هذا هو الحل الأمثل خاطرة رائعة ومفيدة جدا
    تقديري لقلمك

  7. #7
    الصورة الرمزية عبد الرحيم صادقي أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    المشاركات : 1,300
    المواضيع : 106
    الردود : 1300
    المعدل اليومي : 0.26

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة براءة الجودي مشاهدة المشاركة
    كل زمن يكون فيه الجميل وفيه الشئ القبيح الذي تعترضه فتحنُّ إلى الجانب المشرق في الماضي
    نظرتِ بعين الإنصاف يا براءة.
    نِعم الرأي
    تحياتي لك

  8. #8
    الصورة الرمزية فاتن دراوشة مشرفة عامة
    شاعرة

    تاريخ التسجيل : Jul 2009
    الدولة : palestine
    المشاركات : 8,906
    المواضيع : 92
    الردود : 8906
    المعدل اليومي : 1.66

    افتراضي

    لكلّ زمان أبناؤه الذين يمتلكون الأدوات لخوض غماره

    زمان أجدادنا تلائم مع قدراتهم ومعرفتهم وزماننا مفصّل عل مقاس علومنا كذلك

    وعلينا أن نربّي أبناءنا ليستطيعوا العيش في زمانهم الآتي

    لن ينفعنا التشبّث بكلّ ما ولّى في حين نرى كلّ ما خولنا يسير قُدُما

    والرّسول صلّى الله عليه وسلّم طالبنا بأن نربّي أبناءنا لزمان غير زماننا

    طرح رائع مبدعنا

    مودّتي

  9. #9
    الصورة الرمزية عبد الرحيم صادقي أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    المشاركات : 1,300
    المواضيع : 106
    الردود : 1300
    المعدل اليومي : 0.26

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاتن دراوشة مشاهدة المشاركة
    لكلّ زمان أبناؤه الذين يمتلكون الأدوات لخوض غماره
    زمان أجدادنا تلائم مع قدراتهم ومعرفتهم وزماننا مفصّل عل مقاس علومنا كذلك
    وعلينا أن نربّي أبناءنا ليستطيعوا العيش في زمانهم الآتي
    لكل زمان تحدياته ورجاله
    نِعم الكلام أختي فاتن.
    بوركت

  10. #10

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. الحب في زمن الإنهزام ..(إلى كل عراقي و فلسطيني و...)
    بواسطة محمد الأمين سعيدي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 53
    آخر مشاركة: 13-08-2009, 07:39 PM
  2. طلاب آخر زمن، لأ ونظار آخر زمن!
    بواسطة ماجدة ماجد صبّاح في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 12-10-2007, 09:28 PM
  3. ابنتي حنين ... إليك حنين
    بواسطة محمد سامي البوهي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 17
    آخر مشاركة: 28-04-2007, 04:48 PM
  4. إلى مغادرة ...صمت في زمن الثرثرة!!
    بواسطة د. سلطان الحريري في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 36
    آخر مشاركة: 17-02-2007, 04:04 PM
  5. حنين إلى أمّي
    بواسطة هشام الخطيب في المنتدى النَادِى التَّرْبَوِي الاجْتِمَاعِي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 01-12-2006, 02:04 PM