الدجاجة وسبعة ديوك
المصادفة كالمعجزة تماماً تحدث لشخص واحد في المليار ولها شروط قد لا تتوفر أبداً رغم أنها متاحة للجميع. وأحياناً تمر من تحت سمع الجميع وبصرهم لكنهم لا يفطنون إليها.
حدث بالصدفة أن كنت جالساً بمطعم القرية الصغيرة بضفة النهر قرب البحيرة ، حيث الناس هنا يعرفون بعضهم وبالاسم . جلست المرأة التى يسميها الجميع وينادونها ب(المجنونة) ، ... جلست مصادفة علي الطاولة المقابلة لي بأطفالها الستة. سألتهم فرداً فرداً ماذا يشتهي كلً منهم ؟؟ ، قام صاحب المطعم وهو رجل بمنتصف العمر بجلبابه الأبيض وقال لها :- إنتظري حتي آتيك (بالراتب) ، وكان يقصد بقايا الطعام الذي يخلًفه الزبائن بعد أن يشبعوا ولا يعرفون ماذا يفعلون بما تبقى من طعام فيتركونه، طلب الإبن الأكبر سمكاً ، وطلبت الطفلة كبدة مقلية بالزيت ، وطلبت هي لنفسها لحماً مشوياً وكاستراً ، وطلب الصغار- بعد أن ترددوا إشفاقاً عليها من ضخامه المبلغ - طلبوا لحمًا مشوياً فشجعتهم عليه قائلة لهم :- القروش كثيرة أطلبوا أي شئ. وأضافت لقائمة المطلوبات تحليه ومشروباً (بيبسي) ، وبعد أن شبعوا وشربوا البيبسي وأنا أرقبهم ، وأسترق إليهم النظر بعض الأحيان ،.. الصغير أشقر الشعر في بلد لا يعرف أهلة سوى لون الشعر الأسود أو الأبيض !!!! بإستثناء آل إسكندر وهم ينحدرون من أصول أغريقية هاجروا منذ زمن بعيد لكنهم تسودنوا وتصاهروا مع كل قبائل المنطقة تقريباً ، أوبعض الخواجات الذين يزوروننا من حين لآخر لكنهم لايبقون سوى أياماً قليلة ، وكذلك خواجه (سنيورا) وأمه الأثيوبية،.. كانت صديقة لأحد المهندسين الإيطاليين الذين أشرفوا علي بناء خزان خشم القربة ،... كان الوحيد بعينين خضراوين وشعر ذهبي كشعر سنبلة الذرة الشامية وببشرة حنطيه اللون أشبه بمشروب الميرندا،...الفتاة جميلة ، بدوية التقاطع وفيها الكثير من الشبه بعرب البطانة، عيناها كأمها،.. واسعتان ومكحولتان ، تعلو وجهها مسحة حزن لمن هو عليم ببواطن الأمور، إلا إن ضحكتها كلثغ الموج الصباحي عند الشاطئ ، تزين مفرق شعرها الكثيف بودعات ويديها ببعض الأسورة البلاستيكية برتقالية اللون ، شفافة ورخيصة، أما الذي يكبر الصغير بعام فسمرته في لون الأبنوس، داكن السمرة لدرجة أن الشمس إذا مست بشرته الناعمة يخال اليك أن رساماً مزج لونه الأسود بلون كحلي لتخليق ذلك اللون!!! ، ... يذكًرك بقبائل الدينكا والمورلي النيلية بجنوب السودان ، أسنانه شديدة البياض لامعة وكأنها طليت بالجير الأبيض للتو ، أحد الأبناء يبدو لك لا مبال لكنه يرقب ما يدور حوله ويرصده ولا تفوته شاردة ولا واردة إلا وهو مدرك لها ، عميق الدواخل لا يعرف سرًه كبئر في أرض رملية وبعينين كأنهما نبع صافي وشعر مفرود كرماح جيش علي وشك الدخول في معركة !!، فيه الكثير من سمات البجا بشرق البلاد وطبعهم ، أما الصغيرة الأخري فغجرية التقاطيع والسمات ، تحسن التصنًع وتجيد التمثيل لدرجة الإتقان ، تسرق بحرفية تحسد عليها ، نهضت لإلتقاط عقب سيجارة رمي بها أحد الزبائن، سحبت منها نفساً ثم أدخلته رئتها الصغيرة ولم تسعل كما يحدث للصغار عادة عندما يدخنون أول سيجارة !!! ، يبدو أنها تعوًدت فعل ذلك مرارًا كثيرة. الأم بملامح أثيوبية و لكنةٍ حبشيةٍ عند التحدث حلوتين وتقاطيع كأنها إحدي ملكات قبائل الأمهرا الأثيوبيين !!! ، تبدو في حركتها .... فراشة تلقًح حقل أزهار!، لها فم صغير ضيًق كخاتم وخصر مخروط ، نظرت إليهم وسألت نفسي تري كيف ستكون هذه الأسرة بعد عشرين أو ثلاثين عاما؟!.
قالت لي مازحة :- ....عجبناك ؟! .
تعال وتفرًج علينا في البحر بعد شوية ، خرجوا من بوابة المطعم الخلفية وهي من خلفهم كراع يقود أغنامه عائداً للديار قبيل الغروب بإتجاه الزرائب والحظائر ، ... بطونها شبعه ، سعيدة تتقافذ صغارها هنا وهناك، أو صواص الدجاج الصغار في حماية أمهم ورعايتها من كل سوء ، سلكوا الطريق المستقيم المفضي مبشرة لضفة النهر وانحدروا الضفة المرتفعة عبر المنحدر والجرف الصخري الضيًق للنهر وأمهم من خلفهم تحذرهم .
:- إياكم وأن يسقط أحدكم أو يخدش الصغير .
حين وصلوا سطح الماء أمرتهم ان يخلعوا ملابسهم كي لا تبتل ، ففعلوا جميعاً حتى أصبحوا بملابسهم الداخلية أما هي فنزلت بملابسها بعد أن نزعت عنها ثوبها وفرشته على الأرض ثم رصَت فوقه ملابسهم وأسمالهم الصغيرة ، ووضعت فوق كل قطعة ثقلاً – حجراً صغيراً – ،... كانت ومازالت بالماء برودة وبقية من طلاوة الليل المنعشة ،.. بدا النهر من خلفهم في تلك الساعة الصباحية والشمس تتكسًر على سطحه نهر من القصدير أو نهر من ضوء !!، تلصًصت خلفهم بحذر وإكتفيت بمراقبتهم من أعلي المنحدر ،.. سبحوا لأكثر من ساعة حتى إمتصت أجسادهم الصغيرة برودة الماء فارتعشت أول الأمر ثم انتعشت ودبّت فيها الحياة كزروع أتاها الماء بعد عطش، امتلأت ضفتا النهر صخباً وضجيجاً وضحكاً وشاركتهم الأمواج مرح لعبهم !!!!، وفجأة إرتفعت حركة أهاجت سطح الماء !!!!!، قلت في نفسي أنه التمساح !!!، لكنني حين دققت النظر إكتشفت أنها المجنونة وقد تملًكتها روح شيطانية!!، صارت تصرخ بلذَة وفرح خرافيين وهي تضرب الماء بقدميها وكفيها، حين بدا التعب يغمر الأجساد الصغيرة بخدر كالنعاس أمرتهم بإغراق أنفسهم !!، حينها أسرعت لنجدتهم فهددتني بكسر رأسي بحجر حملته بيدها وأمرتني ان أقف متفرجاً .
قلت:- لماذا ؟
قالت:- طلبت منك أن تتفرج علينا ولتكون شاهداً فقط ، لا لتنقذنا !!!
قلت:- الإنتحار حرام ، ويعاقب الله فاعله بنار جهنم .
فقالت بعربية مكسًرة :- وإنتم ما يعاقبكم ؟! ، كلكم كذًابون مجرمون ، زنيتموني ولم تتًقوا الله فيً أٍنا الغريبة وسطكم بأولادي، ... مجنونة !! ...ومسكينة ! ... ما عندها زول! ... شوف الأولاد وأشارت بأصبعها إليهم ،
:- كل فردة من بلد!! ، كل واحد أبوه براه !!
نظرت للاطفال ،... مرعوبين وعيونهم جاحظة بإنتظار معجزة .
قال أوسطهم :- لا أريد أن أموت.
:- ليه يا حبيبي ؟!!!، أبوك ما جاء شافك ولا يوم سأل منك إنت كمان عايز تبقي زيه؟! إنت بالذات لازم تموت أول واحد وأطبقت على عنقه الصغيرة بيديها تحت الماء ولم تتركه حتى فاضت روحه وطفا قريباً من سطح النهر قريباً من قدميها .
:- أغطسوا.
فغطسوا حتى تقطعت أنفاسهم ، نظرت للشاطئ الصخري في الأعلي وقد إمتلأ بالناس وهم ينظرون بلا حراك كأنًهم أحجار الشاطئ!!.
تقدم نحونا أحدهم بدافع الشهامة لربما يمكنه فعل شيئ ، قائلاً:- أنا أتكفل بك وبهم جميعا.
قالت :- بعد إيه يا حبيبي ، ما ينفع ،..، إنت عندك واحد فيهم؟!
قال :- لا .
:- خلي أب واحد فيهم يجئ ينقذه.
نظرت للجموع ولكن ....، ... مرّ زمن طويل دون أن يتقدم أحد وكأنً الناس أصام أو تماثيل من حجر!!!، ظلت عيون الصغار جاحظة بإنتظار معجزة كمعجزة إسماعيل عليه السلام - ولن تحدث-
قالت:- شايف ؟!! ، مافي ولا أب واحد منهم !! كلهم أولادي براي ولدتهم وما عندهم أب . تصدًق ؟!
ثم نظرت للصغار مخاطبة :- شايفين ما عندكم أب ، ولا واحد فيكم ! أنا أمكم براي ولدتكم عشان كده حنموت ... برانا ...، أنا وأنتو ...، وأشارت بأصبعها متوعدة
:- أغطسوا.
فغطسوا.
رفعت بصرها ونظرت للحشود فوق الضفة ورفعت يدها كأنها جندي يؤدي التحية العسكرية لقائد كبير وحيتهم جميعاً عدة مرات ، نظرت لعينيً المتوسلتين طويلاً وخاطبتني
:- آسفه يا أخوي.
ولوَحت لي مودعة . ثم إستدارت صوب منتصف النهر ، فستانها مبتل وملتصق بجسدها يرسم تفاصيله الخرافية فأدهشتني التفاصيل !! . حين طوًق الماء خصرها إلتفتت خلفها فوجدت أحد الصغار متظاهراً بالغرق ينوي الهرب فعادت بسرعة وأطبقت عليه ثم سحبته من عنقه ورأسه مغمور في الماء صوب منتصف النهر ثمً ركبت فوقه بثقلها بعد أن وضعت رأسه الصغير بين فخديها حتي إختفى ! . أخيراً نظرت لجثثهم الطافية قرب السطح وصرخت بجنون ثم غاصت للعمق ، كان آخر ما شاهدته يدها المرفوعة تلوَح لي من فوق الماء ثمً فستانها المورًد بورود حمراء صغيرة وكثيرة منفوخ بالهواء يطفو فوق جثتها عند منتصف النهر، والملاءة الكبيرة وهي مكوًرة بجثثهم عند الشاطئ والرجال يحفرون مطمورة الدفن قبل إخراجهم من الماء ودفنهمً في حفرة كبيرة كجيفة ترفع أرجلها بالهواء في داخلها على وشك الإنفجار، نظرت حولي غير مصدًق . كان ثوب المجنونة ومن فوقه ملابس أطفالها مثبتة بأحجار صغيرة ، سحبته ووضعته فوق كومة التراب وإنصرفت لا ادري الي أين !!!!.
قصة قصيرة بقلم / فائز حسن العوض