سبق الى القطار لحجز التذاكر هو وولده الوحيد الصغير صاحب العينين اللامعتين الضيقتين تشبهان أعين اليابانيين ، على أن تلحقة زوجته وابنتهما الوحيدة ذات العشر سنوات ، وعندما فاجأه القطار بالحضور والتحرك استقله حاملاً ولده صاحب الست سنوات قبل مجيئهما ، وفى الهاتف طلب منهما أن يلحقاهما بالأتوبيس أو الميكروباص .
يفرح الأطفال بالمناظر الطبيعية على الجانبين وبحركة القطار البهلوانية وجريانه وسط البيوت والأراضى وبصوته الزاعق وسيره الصاخب ، محذراً ومنذراً بمقدمته المتجهمة كل من يتجرأ ويقف فى طريقه أو يفكر فى مواجهته .
يحرص هو على اصطحاب الابنة لتعايش البشر والمواقف والنماذج الانسانية المتنوعة التى لا تتكرر ولا تجتمع الا فى رحلة القطار .
من الصعب أن يفهم الولد الصغير هذه الأمور وتلك القضايا الانسانية العميقة ، فعمره لا يسمح ، كما تصور هو ، ومن يراه مندمجاً فى مراقصة القطار فى هزاته صعوداً وهبوطاً وشمالاً ويميناً ، يستبعد انتباهه لشئ آخر يتعلق بالمشاعر أو بالأفكار .
انضم اليهما شاب فى العشرينات ضعيف البنية هادئ الملامح بشعر كثيف أجعد ، يرتدى نظارة طبية ويحمل أوراقاً تعطى انطباعاً ما حول عمله الوظيفى الحكومى ، ويسيطر عليه الارتباك ، ومنظره العام يوحى بوضعه الاجتماعى المتوسط حيث يرتدى ثياباً عادية محاولاً الحرص على التأنق والتلطف مع الآخرين .
لكنه ظل يتحدث فى هاتفه طوال الوقت ويعاود النظر الى ساعته والى أسماء المحطات ، وتتساقط دموعه من خلف نظارته ويضغط بيده اليسرى بشدة على قلبه ، وقد جلس قبالتهما ، يحكى لمن يحادثه عن امرأة فى الأربعينات ترتدى شالاً من الصوف على رأسها وعباءة سوداء مطرزة وذات بنية متينة ووجه منتفخ جاءته فى العاشرة صباحاً مكان عمله بدوامه الحكومى لتقضى مصلحة لها واتهمته بالتحرش ، وخرجت بعد مشادة معه الى المكاتب ومدير الهيئة تلطم على وجهها وتخبط على صدرها وتشكو الاهانة وانتهاك حرمة جسدها .
يقترب القطار من محطته النهائية ويزمجر كالعادة ويهتز اهتزازات ارتدادية تخلع القلوب ، ويجرى الشاب محاولاً ضبط ثيابه والسيطرة على أوراقه ومغالبة وجع قلبه ، مشيراً فى كلماته الأخيرة عبر الهاتف أنه سيكون فى المستشفى العام بجوار السينما التى خطط لحضور الفيلم الأجنبى الجديد المعروض فيها بمفرده .
الرجل يحاول جاهداً تتبعه فى الزحام فتعوقه حركة ولده البطيئة ، فيحمله وينتظران على الرصيف الرئيسى بجوار الكافيتريا لحين وصول الزوجة والابنة ، ويمر أمامهم ناس من كل شكل ولون ، ويفقد الأب ولده للحظات وبعد شهقة ذهول يجده أمامه ، ومع وصولهما يتصاعد صوت الاسعاف وتتجه الأنظار لشاب محمول على الأكتاف يحاولون مساعدته على التنفس وافساح الطريق أمامه لتسهيل وصوله سريعاً لعربة الاسعاف .
وبعد أن استدلوا عليه فى المستشفى وحضروا مراسم الجنازة فى قرية قريبة من عاصمة المحافظة استقلوا القطار الأخير ، وأخرج الابن الصغير ذو الستة أعوام من جيبه بقايا نظارة محطمة ، وراح يحكى لأخته بالتفصيل عن مأساة شاب ضعيف البنية والقلب مات بعد أن صدمته أنثى متينة البنيان فتحطمت نظارته ، والأب يشاهد وينصت للحوار مندهشاً .