أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 14

الموضوع: إبـــــــادة

  1. #1
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي إبـــــــادة

    ليلا ، اقتحموا منازل القرية والناس نيام ، أخرجوا جميع الرجال بالقوة منها ، شخصت أبصارهم تحت الظلام ، وجفت قلوبهم ، ضمادات سوداء تغلق أعينهم. في وقت وجيز حشروا جميع الرجال في شاحنة كبيرة. تحت عمود كهرباء يعصر أنواره بمقدار، كنت أراقب المشهد من كوة صغيرة وأنا مختبئ تحت أخشاب متهرئة. وأنا أشاهد الرجل الضخم ومسدسه يتدلى على جانب خصره الأيمن ، يحشر أبي بعنف بين الخلائق البشرية ، ما عادت روحي ترغب أن تستقر في جوفي ، ترجرجت أنفاسي ، غـزا دم دافئ كل أطرافي .
    قبل انطلاق الشاحنة ، استجمعت قوتي ، قفزت بين الأجسام، بخفة دسوني بين أضلعهم. الثواني تقتل الثواني. والساعات تقتل الساعات .
    جاء ضوء النهار يمحو أثر الظلام ، وجدوا أنفسهم أمام جبل يلامس السحاب. لا أثر للشاحنة، ساروا كقطيع ماعز ، يتفرقون ، يتجمعون. يفرغون بين شفاههم ريحاً دافئة. يستنشقون نسمات باردة، بأيديهم يشيرون إلى الجبل . توقفوا ، تبادلوا النظرات ولم ينبسوا بكلمة. شخصوا بأبصارهم إلى الأعلى، أسقطوا رؤوسهم بين صدورهم.
    نظر إلي أبي نظرة عميقة ،ابتسم ، لا أدري هل كان يسخر مني لفرط الثقة بالنفس ؟أم يبارك مجيئي معه ؟ شخص بعينيه للسماء، سمعته يترحم على أمي التي ماتت قبل أشهر. انسكبت دموع دافئة اعتصرها الألم في خفاء. أحسست أن قلبه لم يعد يستقر في جسمه.
    تساءل القوم من يكونوا ؟ ابتسم أحدهم وقال : لا يهم من هم ، ولكن ، من نحن الآن ؟
    خطوت ، عدوت ، أتطلع إلى قمة الجبل . على ارتفاع شاهق طائرة تحلق فوق رؤوسنا ، الكل يتتبعها بأعينهم وأنا أمسك بيدي الصغيرة جلباب أبي . تغيب الطائرة ويبقى هديرها يسكن قلوبنا . توقفنا ، حاولت أن أدل على أنفسنا بمنديل أبيض كان يقي عنقي من لفحة البرد، لكن أبي منعني .
    ارتجفت قلوب القوم في مرآة النهار. قذفوا دموعهم في الخلاء الموحش، وقفوا يتمتمون ، نظروا إلى قامتي بعمق ، فهمت أنهم تذكروا أولادهم ، نساءهم ، منازلهم ....
    اختبأ الجميع بين فجاج ضيقة في الجبل ، فلما جاءت كتائب الظلام ، سرنا ، مزقنا الحدود ، من هضبة إلى سهل ، من غابة إلى أكمة ، وصلنا إلى جرف عال يطل على شاطئ بحر ممتد. كانت مياهه العميقة تراقبنا ، والأمواج المتلاطمة على علو شاهق تحذرنا.. قال عمي جبران:
    ـــــ تأكدوا يا قوم أننا قد انفصلنا عن تاريخ الوطن . سقطت منا بطاقة الإقامة .. لم يتمم كلامه حتى اخترقت جسمه رصاصة صامتة ، أردته قتيلا. صاح عمي طاهر في وجوهنا:اختبئوا ، لكن الطائرة أمطرت تباعا قنابل متفرقة علينا .
    صغر جسمي يسمح لي بالاختباء بين صخور الجبل ،لا أدري هل تجاوزت عشر سنوات أم لا ؟ همد القصف ، ورغم ذلك لم أستطع أن أخرج من مخبئي الصخري ، لم أسمع خشخشة للأقدام ،ولا همسات منفلتة من ألسنة الرجال. على مضض غلبني النوم ، نمت نومة المكروب والخوف ينتصب بين عيني، والذعر يقف على باب قلبي .
    صفعتني أضواء الشمس ، فركت عيني بيدي فأسرعت أبحث عنهم .. لم أجد أحدا .. وقفت على علو المنحدر الذي يطل على شاطئ البحر الغاضب ، رأيت بعض الجثث يلمسها ماء البحر كلما اندفع الموج تباعا. تسللت عبر منحدر ضيق إلى الشاطئ ، وقفت على رؤوس الجثث والموت قد أخذ أنفاسهم ، تهـــتز كلما امتد الماء إليها ، جثث متناثرة كأكياس متهرئة ومنفوشة من كثرة البلل .
    بحثت عن جثة أبي فلم أجدها ، صرخت بكل قوتي في وجه اللانهائي ، جفلت النوارس ، لكنها عادت ترمي بنفسها في الماء لتسرق الحيتان دون أن تكترث بوجودي . احتميت بالفراغ الموحش ، استأنست بهدير أمواج البحر التي تظهر وتختفي .. لم تكن لي طفولة ما على هذا المكان ، حاولت أن أنقش طفولتي الجديدة على شيء ما ، على شجرة، على صخرة .. لكن .. ما من شيء ينذر بالأمان .
    فكرت أن أدفن الجثث بعيدا عن عيون التماسيح ، احترت في اختيار المكان ، سرت أبحث عن موقع يليق بالشهداء ، لم أجده . قـفـلت راجعا إلى نقطة الانطلاق ، ذهلت ، لقد اختفت كل الجثث نهائيا . مررت نظري وسط البحر فلم أر شيئا ، الماء يقارع الماء ، والأمواج تصارع الأمواج في غضب .
    قعدت تحت شجيرة صغيرة تلقي بظلها على رمال يابسة ، مكتئبا أندب حظي المنكود ، وأنفاسي تتلاشى بين حبيباتها الذهبية. ولما أحسست أن اللحظة تترك ندوبها على نفسيتي، تذكرت الله، فراسلت السماء بيدي الصغيرتين ، وطيور البحر تحلق فوق رأسي كأنها تريد أن تتخطفني ، وأخرى جاثمة على الصخور تراقب حركاتي . وأسراب أخرى تتقاطر على الطحالب والنباتات .
    لوى الحزن قلبي فقررت أن أنتظر وأنتظر ، والانتظار ينهش عيني ، أنتظر سفينة عابرة قد تأتي ولا تأتي ، لكن.. من عمق قلبي ، تمنيت أن يسرق أبي قارب صيد ويعود لينقذني !

  2. #2
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    سرد رائع ووصف يجعل القارئ يعيش الأجواء الموصوفة ويترقّب الحدث
    هو الواقع المؤلم نستقي منه الأفكار ونخطّها شاهدا على فعل البشر، ومآسيهم!
    شكرا لك أخي الأستاذ الفرحان على روعة الإبداع
    بوركت
    تقديري وتحيّتي
    (من يكونون)

  3. #3
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    سرد رائع ووصف يجعل القارئ يعيش الأجواء الموصوفة ويترقّب الحدث
    هو الواقع المؤلم نستقي منه الأفكار ونخطّها شاهدا على فعل البشر، ومآسيهم!
    شكرا لك أخي الأستاذ الفرحان على روعة الإبداع
    بوركت
    تقديري وتحيّتي
    (من يكونون)
    شكرا لك أختي المبدعة المتألقة على قراءتك القيمة لهذا النص المتواضع ، قراءة سررت بها ..
    شكرا على اهتمامك النبيل وكلمتك الطيبة .. كلمة أعتز بها ..
    شكرا على التنبيه لجملة " من يكونوا " أتمنى تصحيحها في النص ..
    مودتي وتقديري ..

  4. #4
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    تتجلى في نصوصك قدرة فائقة على قولبة الفكرة وتطويع الكلم، والقدرة السردية العالية الموظفة بمهارة وتمكن، ابتداء من اختيار العنوان، دخولا فى الانطلاقة القوية في عتبة النص الثانية بعد العنوان، فتدرج البناء الحبكى حتى حتى القفلة، تتفاعل جميعا في طرح غاية النص بروعة الأداء وألقه..
    ما أحلاه قصا وما أرفعها غائية..

    دمت بروعتك أديبنا
    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  5. #5
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ربيحة الرفاعي مشاهدة المشاركة
    تتجلى في نصوصك قدرة فائقة على قولبة الفكرة وتطويع الكلم، والقدرة السردية العالية الموظفة بمهارة وتمكن، ابتداء من اختيار العنوان، دخولا فى الانطلاقة القوية في عتبة النص الثانية بعد العنوان، فتدرج البناء الحبكى حتى حتى القفلة، تتفاعل جميعا في طرح غاية النص بروعة الأداء وألقه..
    ما أحلاه قصا وما أرفعها غائية..
    دمت بروعتك أديبنا
    تحاياي
    الأخت الفاضلة والأديبة المتألقة .. ربيحة .. تحية طيبة ..
    شكرا على قراءتك الهادفة والمركزة لهذا النص المتواضع ..
    شكرا على إشادتك وتواصلك القيم .. اهتمام نبيل ، وتشجيع أعتز به ..
    تقديري واحترامي ..

  6. #6
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    كعادتك أديبنا الفاضل ترسم لنا المشهد بريشة الفنان وتجعلنا على قرب من الحدث ..
    نص جميل و مشوق نقل إلينا مأساة العنف والإبادة أيّاً كان موطنها .
    تحياتي وتقديري.
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  7. #7
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد السلام دغمش مشاهدة المشاركة
    كعادتك أديبنا الفاضل ترسم لنا المشهد بريشة الفنان وتجعلنا على قرب من الحدث ..
    نص جميل و مشوق نقل إلينا مأساة العنف والإبادة أيّاً كان موطنها .
    تحياتي وتقديري.
    شكرا لك أخي المبدع المتألق عبد السلام على قراءتك القيمة لهذا النص المتواضع ،
    شكرا على اهتمامك النبيل وكلمتك الطيبة .. كلمة أعتز بها ..
    مودتي وتقديري ..

  8. #8
    الصورة الرمزية محمد ذيب سليمان مشرف عام
    شاعر

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 19,255
    المواضيع : 522
    الردود : 19255
    المعدل اليومي : 3.71

    افتراضي

    بوركت ايها الرائع
    حرفك الجميل يشد الانفاس
    كنت معها حتى اخر نفس
    ووجدتها تحكي حكايات المواطن المغلوب والحاكم الظالم
    فما زالت تمارس بصيغ اخرى
    شكرا لك

  9. #9
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد ذيب سليمان مشاهدة المشاركة
    بوركت ايها الرائع
    حرفك الجميل يشد الانفاس
    كنت معها حتى اخر نفس
    ووجدتها تحكي حكايات المواطن المغلوب والحاكم الظالم
    فما زالت تمارس بصيغ اخرى
    شكرا لك
    تحية طيبة .. أخي الكريم والمبدع المتميز محمد ..
    شكرا على قراءتك الهادفة والمركزة لهذا النص المتواضع ..
    شكرا على تواصلك القيم .. اهتمام نبيل ، وتشجيع أعتز به ..
    تقديري واحترامي ..

  10. #10
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 392
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    قدرة كبيرة على التصوير بالكلمات من أروع ماقرأت فقد برع أديبنا الفاضل في أن يتجول بنا داخل النص لنعيش مع البطل مأساته وما يحمل النص من اسقاطات أخرى
    شكرا لك أديبنا الفاضل
    تحية وتقدير
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة