الأبواب الموصدة
قصة قصيرة
كنت في الخامسة من عمري وقتها ولم أفهم ما جري سوى أنه علق بذاكرتي كما تعلق برادة الحديد الناعمة بالمغنطيس كلما اقترب منها كثيرًا ، وكما تسجل كاميرا الفيديو الصور !!! .
أذكر انه كان صباح غير عادي لأن ماجرى ليلة البارحة لم يكن شيئاً عادياً ،.. تناهي لسمعي حديثاً يدور بين أمي وأبي ولكني تناومت ولم يبد عليً أني قد صحوت أو تحركت على سريري الخشبي حين سمعتهما يتبادلان عبارات غير مفهومه ،...بضع كلمات …سواسيو …كديسه…حمامه…وغيرها من الكلمات ، ثم رأيتهم يتبادلان نظرات لم نعتد عليها في بيتنا الصغير أبداً.
كان الآخرون نياماً باستثناء أمي وأبي وأنا المتناومة !! ، سري التعب في جسدي كما يسري تيار الكهرباء في الجسد وخلت أنني سأموت في أية لحظة !، حين تسللت أمي من تحت الغطاء وسارت باتجاهي وأختي تخشّب جسدي كله وبلت على نفسي من شدة الخوف ، وحين جذبت الغطاء من تحتنا توقفت أنفاسي كليّة وكاد قلبي ينفجر من شدًة الخفقان لكنها غطت جسدي به ثم قبّلت أختي علي خدها وعلي جبهتها قبل أن تشدّ الغطاء من فوقنا ثمً أطفأت الأنوار !!!! لم أنم رغم الظلام الدامس والهواء المطبق اللّزج فكنت أسمع نباح كلاب الجيران التي أعرف أصواتها ونباح كلًاً منها . وخيّل إلي أنها نبحت تلك الليلة أكثر من أي يوم آخر في حياتها !!!، حين أشرقت شمس ذلك الصباح كنت ما زلت مستيقظة تماماً رغم أني لم أبرح فراشي بعد إلا بعد أن غادر الآخرون فرشهم ، كانت أولهم أختي ، والتي عادة ماتجهّز الشاي للجميع بعد كنس الحوش وسقي الأغنام والبهم ثم الدجاج الذي كأكأ بأصوات مرتفعة كأنً ثعلباً أو ثعباناً اجتاح قفصها اليوم ، حين نادت أمي باسمي تظاهرت بالنوم إلي أن سمعتها تهدًدني بالضرب أن هي وصلت فراشي وأنا عليه . حينما خرجت من غرفتنا الصغيرة رأيت أبي يحمل كيساً من الخيش - من تلك المخصصة لطحين الذرة - ، لكنه اضطرب حين فوجئ بي أمامه وسقط الكيس رغماً عنه رغم تظاهره بإسقاطه ، ثم أمرني ببعض الأشياء المرتجلة بقصد صرفي !!!
حين ذهبت لأمي تحاشت النظر في عيني فأيقنت أنً أمراً ما علي وشك الحدوث يحاك في الخفاء !!!، ناداني أبي وأرسلني لدكان بآخر الحي وأوصاني ألا أذهب لغيره مما أثار فضولي ، وأذكر أنني كنت فضولية ومحبًة للاستطلاع بشكل فطري ، طرت للدكان دون أن تمس قدماي الصغيرتان الأرض !! ... لا أدري كيف وصلته ولكنني حين عدت وجدت الباب موصداً فأدخلت يدي الصغيرة من خصاص الباب الخارجي وفتحته - دون أن يشعر بي أحد – ثم من خلل أو شق وسط أخشاب الشباك في الغرفة المخصصة للضيوف من الرجال رأيت أمي تدخل الغرفة ثم تبعها أبي وعيناه محمرتان دخل الغرفة بحركة كحركة دخول الممثل خشبة عرض المسرح بشكل متفق عليه ليلعب كلّ دوره في مسرحية تراجدية ، ثم رأيت أخويّ الكبيرين وهما يحملان كيس الرمل الذي أحضره أبي وفوجئ بي فأسقطه وقد ملأ بالرمل حتى منتصفه وفمه مربوط بقطعة قماش – كأنما أرادوا أن يسكتوه عن قول شيء ما !! - .
بعدها نادي أبي على أختي وكانت قد فرغت لتوّها من صنع الشاي فجاءت به تحمله ، حين دخلت الغرفة فوجئت أن الجميع بانتظارها !! ولبضع ثوانٍ توقفت ومعها توقفت الدنيا عن الدوران !! جحظت عينا أختي وهي تدير رأسها الصغير يمنه ويسره وتنقلّ عينيها الجميلتين غير مصدّقه لما يجري !! وأنا أرقب كل ذلك من خصاص الشباك دون أن يشعروا بي ،.. جعلت تحرك عينيها الناعستين كعيني غزاله سقطت في فخ النمور!!! ، ثم سمعت صوت الباب الخشبي يغلق من خلفها وحين نظرت باتجاه الصوت رأت أخي منصور وقد أغلق الباب بالمفتاح ثم تبعه منتصر الذي أسند ظهره للباب ، فنظرت لأبي … والشرر يتطاير من عينيه المتقدتين ثم تفرّست وجه أمي التي كانت تنظر لبطن أختي المنتفخ وقد حوّلت عينيها للأرض في انكسار، ..صرت أصرخ بكل قوتي ولكن بلا صوت وأقول لها في- نفسي :- أهربي ... أهربي… ولكن إلي أين ؟!!!
كان عند منتصف الغرفة سرير من الحطب عليه لحاف رفيع …….، تحرك أبي باتجاهها فارتجفت لكنها تسمّرت في مكانها من شدة الخوف حتي أخذ منها صينية الشاي ووضعها علي الأرض ثمّ أطبق علي يديها الصغيرتين وسط يديه كما تطبق المصيبة بالشقي ، ثم قام بتقييد يديها بحبل بلاستيكي كان يخفيه خلف ظهره ولم يكن بحاجه لذلك ، كانت قد قررت الاستسلام دون مقاومة ثم سحبها لمنتصف الغرفة ورأيت من مكاني إن ملابسها قد تبللت من البول ، ... حين رفع جسدها النحيل بدت خفيفة كخرقة قماش ، ورأيت جسدها يوضع بمنتصف السرير تماماً ولأنها كانت فارعة ونحيلة كساق الذرة الذي أبكر صاحبها في زراعتها قبل بقية الحقل .
كان في جوف أختي قرص الشمس والفصول جميعاً ، ..كانت أطيبنا وأروعنا ، وبإشارة من أبي لأخويّ حملا إليه كيس الرمل وهي مستسلمة كأنها ميتة أو إنها ماتت قبل ذلك -لا أدري -لأنني لم أعد أسمع شيئاً بعده ، - ما سمعته كان مجرد خيال !!! - ، وبيده الأخرى وبمساعدة أخويّ وضع الكيس فوق رأسها الصغير فأحنته قليلاً للخلف كأنها تتحاشىاه برغبة أخيرة لتفادي الموت ثم بالضغط عليه بيد أبي وتحت ثقل أخويّ بدأ رأس أختي يغوص تحت كيس الرمل شيئاً فشيئاً ، وسمعت شخيراً كشخير النائم أو كالحمل الذبيح أو خرخرة المزكوم !!
ثم من مكاني رأيت ساقيها النحيلتين من مكاني هناك وهما تهمدان في حركتهما ببطء وتبارحهما الحياة إلى الأبد ويسقطان بجانبها في رخاوةٍ ولين .
بقلم / فائز حسن العوض