ومنه نجد أن الثقل خصّ بالدعوة الإسلامية لجلالها، وأهمية التكليف بالإيمان، وخصّ يوم القيامة بالثقل، وهو كائن زمني محدّد ومعنوي، فالثقل يبعث على تهويل أمره لما يجد فيه الكافرون من مشقّة، وكذلك الأمر في ثقل الساعة، وكأنها تهبط على القلوب، فتغلظ فيها، وكأنها مادة يعاني وطأتها الإنسان، ويتكسر قلبه. فقرة للمفردة تحدّثوا عن جمالها الموسيقى، ولكنّ متابعة قدرتها التصويرية في التجسيم والتشخيص كانت ضئيلة. كما يجب علينا ألا ننتظر سياق الاستعارة الواضحة صنيع القدامى، إذ أهملوا ما يكون في إحكام الصورة، من مثل قوله عز وجل: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ } [ سورة فصّلت، الآية: 50 ] ، وحسية التجسيم لا تطلب لذاتها، بل لما وراءها من إيحاءات نفسية، قال ابن الأثير: «وأما فائدة التشبيه من الكلام فهي أنك إذا مثّلت الشيء بالشيء، فإنما تقصد به إثبات الخيال في النفس بصورة المشبّه به أو بمعناه، وذلك أوكد في طرفي الترغيب فيه أو التنفير عنه» واهتم الدارسون بالكلمة المجسّمة، في صلب الجملة القرآنية، إذ أضفى القرآن عليه دقة فنية محكمة، فقد أضاف إلى جمال الاستعارة جمال انتقاء المفردة الحسية من بين ما يشبهها من الدّلالة لمراعاة المواقف وخصوصيتها، وبين الطبيعة والإنسان في القرآن علاقة فيها الوئام والانسجام، ويتجلّى هذا في وصف النجوم والأشجار والأنهار والليل والنّهار، فهي مخلوقات مسخّرة لأجل سعادته، ولأجل تحقيق سيادته، فهو يستغلّها عمليّا في شئون حياته، كركوب البحر، والتمتع بفواكهها، والاستعانة بالأنعام، وأكل لحومها، وكذلك في لحظات التأمل الجمالي، فبعد تحقيق الضروريات، هنالك وقفة كماليّة، ويمكن أن نستنتج هذا من قوله تبارك وتعالى عن الجمال: { وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [ سورة النّحل، الآية: 6 ] ، وقوله: { وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ، لِتَرْكَبُوها، وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ } [ سورة النّحل، الآية: 8.] ، فالأنعام وسيلة للركوب وقضاء الحاجات، وجمال الطبيعة آية يستدلّ بها القرآن على وجود الله تعالى، وقدرته وتدبيره للعالم : { وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ سورة فصّلت، الآية: 12] ، وكثيرة هي الآيات التي تعدّ حججا دالّة على عظمة الخالق تستند إلى ما أودع في الطبيعة من آيات الجمال. والطبيعة في القرآن ذات هدف ديني، فإذا ذكرت الجنة بسطت لنا أوصافها ترغيبا للمؤمنين، وحثّا لهم على الطاعات والخير، ليستحقّوا أنهارها وثمارها، وتذكر جزئياتها التي تشبه في الظاهر جمال طبيعة اعتدناها في الأرض، وفي ذلك تقرّب فيه رحمة من مفهوم الإنسان للطبيعة: { فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ سورة الرحمن، الآية: 68] وقوله : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، حَدائِقَ وَأَعْناباً } [ سورة النبأ، الآيتان: 31 – 32 ] ، فقد جاء في الحديث القدسي قوله تعالى: «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» ( البخاري، صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق: 3/ 1185.) ، وهذه الطبيعة وسيلة ترهيب أيضا، فكم من أمة خسفت بها الأرض 0 { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا } [ سورة العنكبوت، الآية: 40 ] ، وقوله: { إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [ سورة القمر، الآية: 19] ، فهي مسخّرة لصالح الكائن البشري، إلا أنها سرعان ما تنقلب شرا عليه بأمر خالقها، فالشجر ينمو، ولكن العذاب في جفافه، لينال الجاحدون بعضا من عقوبتهم في الدنيا، والنار التي هي مساعد في معاشه تكون مصدر العذاب الأخروي. فالطبيعة مظهر لقدرة الله ووحدانيته وكماله، والنظام الذي تسير وفقه إشارة واضحة على وجود الخالق: { ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }[ سورة الملك، الآيتان: 3 – 4] ، فالطبيعة في القرآن الكريم لا تقف محايدة، بل تتمتع بمدلول خلقي، ففيها دعوة إلى علّة وجودها، ولا شك أن القرآن الكريم اتجه لأغراض فنية إلى استخدام مفردات الجمادات، ليصور معانيه في أقصى طاقتها المؤثّرة، واعتمد ما هو عام شامل لا يقتصر على بيئة محدّدة، وما هو متعارف على دلائله، وما تثبته المشاهدة، فالحجر متعارف على قسوته عند العربيّ وغيره، وعلى مدى العصور، فإذا شبّهت به قلوب الكافرين ظلّت الصورة عالقة في الأذهان ما دام المرء على وجه البسيطة، وكذلك البحر في هوله وضخامته، والرّماد في خفّته وتطايره، وقيمة الجماد أي المشبّه به لا تتسم بالمباشرة والابتذال، ذلك لما يضفي البيان القرآني على هذه الكائنات المنتزعة من الطبيعة من معان سامية، وجمال فني أخّاذ عميق التأثير. ولربما أعيد هنا ما ذكر في فقرة التجسيم، ذلك لأن التّجسيم يقوم على استخدام مفردات الطبيعة، وعلى تغيير مجال المفردة. ويعدّ الرّمانيّ صاحب الفضل في هذا المقام فقد وقف عند قوله تعالى: { كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } [ سورة القمر، الآية: 20 ] إذ يقول: هذا «بيان ما لم تجر به عادة إلى ما قد جرت به، وقد اجتمعا في قلع الريح لهما، وإهلاكها إياهم» ، وقد وقف الزمخشريّ في كشّافه عند هذه الآية فقال: «كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا، وهم جثث طوال عظام، كأنّهم أعجاز نخل، وهي أصولها بلا فروع، ومنقعر منقلع من مغارسه، وقيل: شبّهوا بأعجاز النخل، لأن الريح كانت تقطع رؤوسهم، فتبقى أجسادا بلا رءوس» . وفي الآية الكريمة: { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ } [ سورة إبراهيم، الآية: 43 ] . يقول ابن قتيبة: «يريد أنها لا تعي خيرا، لأن المكان إذا كان خاليا، فهو هواء، حتى يشغله الشيء» يكاد يسير على منهج أبي عبيدة الذي يردّ المفردة من حيّز المجاز إلى حيّز يقرّب الاستعارة من العقل، وتترك الظّلال النّفسية للقارئ، فيفهم تجميد هذه الأفئدة التي صارت هواء لا يستقرّ، ولا يتّخذ جهة محددة، ففي الكلمة هبوط بالمستوى الإنساني، ونزع للتعقّل باستخدام الجماد الفارغ. ونقف عند ابن ناقيا في استشهاده بالآية الكريمة: { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ }[ سورة المنافقون، الآية: 4] ،فهو يقول: «شبّههم بخشب نخرة متآكلة دخلة، إلا أنّها مسنّدة يحسب من رآها أنّها صحيحة سليمة». وهو يشير إلى تناقض الشكل والمضمون الذي تحدّث القرآن عن وجوده في تصرّفات المنافقين بأساليب متعددة، فأجسامهم تعجب، وألسنتهم عذبة الكلمات، وفي خبايا نفوسهم يستقرّ المكر، وكذلك أشار إلى تقييد الصورة بإسناد الخشب الذي يخلو من المنفعة إلى الحائط. وهذا ما أضافه الزمخشري قائلا: لأنّ الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظانّ الانتفاع، وما دام متروكا غير منتفع به أسند إلى الحائط، فشبّهوا به في عدم الانتفاع» وهذا التعليل يعدّ إضافة جمالية إلى ما ذكره الرماني، ومفتاحا لكل تأمّل فنيّ، وفي الآية: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ } [ سورة الكهف، الآية: 29 ] . يقول ابن ناقيا: «فلما كانوا يلجئون إلى ورود هذه المياه، ويلقون العناء بشربها، والكلفة في تناولها، وكان القرآن الكريم قد نزل بلسانهم، وعلى ما عهد من شأنهم، ذكر الله تعالى لهم من العذاب الذي أعدّه للظالمين ما يكون في بعض أحوالهم مثال له، فيذكرون الكثير باليسير، والغائب بالحاضر ... وكما خوّفوا بشرب هذا الماء، فكذلك شوّقوا إلى أنهار الجنّة، ومائها وسلسبيلها وتسنيمها، ليروا أنّ ذلك أنفس بالقياس إلى ما وصفوه في أشعارهم» . ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الطبيعة لا تقتصر على البيئة العربية، فالماء عنصر هام في حياة البشرية، ونلمس مثل هذا الوعي عند الزمخشري لدى تفسيره للآية: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } [ سورة البقرة، الآية: 19] إذ يقول: «شبّه دين الإسلام بالصّيّب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلّق به في شبه الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالبرق، وما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام ، فقد فهم الربط بين معنى الجماد وأهمية وجوده في الصورة البصرية مشيرا إلى ظاهرة مطّردة في أسلوب القرآن، وهي تبيان المعاني المجرّدة وجلاؤها بماديّات مشاهدة من مثل النور والظلام والمطر، فيجسم الهدى مثلا بالنور، ويجسّم الضلال بالظلمات. وهذا ما سمّاه ابن الأثير تمثيلا في تفسير الآية: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ } [ سورة النّور، الآية: 39 ] ، وعدّه أحسن أنواع التشبيه قائلا: «تشبيه معنى بصورة، وهذا القسم أبلغ الأقسام الأربعة لتمثيله المعاني الموهومة بالصّور المشاهدة» . ولا شك في أن كلمة «المشاهدة» في عبارته تنمّ على معنى الطبيعة المستمرة التي اختارها البيان القرآني ، وأوّل ما يسترعي النظر من خصائص التشبيه في القرآن أنه يستمدّ عناصره من الطبيعة، وذلك هو سرّ خلوده، فهو باق ما بقيت الطبيعة، وسرّ عمومه للناس جميعا ... فلا تجد في القرآن تشبيها مصنوعا يدرك جماله فرد دون آخر ، ولا شك في أن الطبيعة المختارة لإبراز جوانب الصورة الفنية هي شاملة، لأنها من حيث تأثيرها قائمة في أذهان كلّ مجتمع، فلا اختلاف في بلادة الحمار وغبائه، ومكر الثعلب، وصبر الجمل، ودناءة الكلب. وقد ألبس القرآن هذه المفردات لبوسا جديدا في خضمّ التأثير الوجداني المنبث في الصورة، وقد كان القصد الفني سببه، وعلى الرغم من وجود الجراد والفراش والعنكبوت في البيئة العربية، فإننا نجد في القرآن مجاوزة للبيئة ، وقيمة المشبّه به أن نفاسته ليست موضع عناية القرآن الكريم، لأنّ البحث هنا عن القيمة الفنية لا عن النفاسة الماديّة أو النّدرة التي كانت موضع عناية لدى بعض الشعراء في بعض العصور ، فالدّيمومة كائنة في أثر كيفية ملاءمة مفردات الطبيعة للمضمون الفني، والأمر ليس تلفيقا، بالإضافة إلى ديمومة ما ينتقى من الطبيعة ما دامت الحياة. واهتم المحدثون بإيحاء التأثير الكامن في اختيار الجماد في الصورة البصرية أكثر من اهتمامهم بجودة التصوير الحسي، فقد وقف سيد قطب عند الآية الكريمة: { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ } [ سورة البقرة، الآية: 23 ] ، وقال: «لا يستجيبون فهم إذن حجارة، وإن تبدّوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية .. على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع مشهد النار التي تأكل الأحجار، ومشهد النار الذين تزدحمهم هذه الأحجار في النار». وفي تفسير سورة الواقعة يشير إلى شدة العذاب في ذكر كلمة «الزقوم» من الآية الكريمة: { لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ } [ سورة الواقعة، الآية: 52 ] إذ يقول: «على أن لفظ الزقوم نفسه يصوّر بجرسه ملمسا خشنا شائكا مدبّبا يشوك الأنف، بله الحلوق». وهو يلتمس هذه الشدة في القاف المضعّف ثم الوقوف على الميم الحرف الشفوي، فقد نظر البدوي إلى قوله تعالى: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ } [ سورة البقرة، الآية: 19 ] ، وقال: «فمثّلهم القرآن بحال من حصرتهم السماء بصيّب، وفي هذه الكلمة ما يوحي بقوة المطر وشدة بطشه، فهو ليس بغيث ينقذ الأرض من ظمئها، ولكنه مطر يصيبها ويؤثّر فيها، وفي النص على أنه من السّماء ما يوحي بهذا العلوّ الشاهق، ينزل منه هذا المطر الدافق، فأيّ رعب ينبعث في القلوب من جرّائه» . وهو يتملّى جمال الفرق بين تشبيه الموج بالجبال في مكان، وبالظّلل في مكان آخر، ويبحث في الموقف الشعوري الموائم بكلّ منهما، ومن خصائص التشبيه القرآني المقدرة الفائقة في اختيار ألفاظه الدقيقة المصوّرة الموحية، فقد شبّه القرآن الموج في موضعين فقال: { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ } [ سورة هود، الآية: 42 ] ، وقال: { وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ سورة لقمان، الآية: 32 ] ، وسرّ هذا التنوع أنّ الهدف في الآية الأولى يرمي إلى تصوير الموج عاليا ضخما، فتستطيع كلمة الجبال أن توحي به إلى النفس، مع أن السفينة محوطة بالعناية الإلهية، فليست في خطر الغرق، أما الآية الثانية فتصف قوما يذكرون الله عند الشّدّة وينسونه لدى الرّخاء، ألا ترى أن الموج يكون أشدّ إرهابا، وأقوى تخويفا إذا هو ارتفع حتى ظلّل الرءوس» ، والمقصود في الآية الأولى نوح عليه السلام وقومه. فأصحاب السفينة في الآية الأولى هم مؤمنون وهم في الآية الثانية جاحدون لنعمة الخالق، وكلمة «ظلل» توحي بالقرب والتّماس، مما يرعب القلوب أكثر من وصف الموج بالجبال التي قصد فيها ضخامة الأمواج فقط، وليس التخويف. وإنه ليؤكّد أن الإيحاء ذو نصيب كبير في الصورة البصرية، يقول: «ليس الحسّ وحده هو الذي يجمع بين المشبّه والمشبّه به، ولكنه الحسّ والنّفس معا، بل إن للنفس النصيب الأكبر والحظّ الأوفى» ، ومن ذلك تشبيه القلوب بالحجارة في قوله عزّ وجلّ عن اليهود: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ سورة البقرة، الآية: 74 ] ، يقول بدوي: «ويجعل القرآن في الحجارة المثال الملموس لقسوة قلوب اليهود، ويبعدها عن أن تلين لجلال الحقّ وقوة الصدق، ألا ترى أنّ القسوة عند ما تخطر بالذّهن تخطر إلى جوارها الحجارة القاسية». وألمح بدوي إلى ظاهرة فنية في القرآن، وهي إحكام الصورة البصرية بتفصيل الحديث عن المشبّه به، وذلك بالصفة أو بغيرها، يقول: «ولم يكتف القرآن في تشبيه الجبال يوم القيامة بالعهن، بل وصفه بالمنفوش وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) ( سورة القارعة، الآية) ، للدّقة في تصوير هشاشة الجبال» ، وهذا النهج الفني كفيل بأن يجعل الصورة كاملة العناصر في نفوس القراء، وأدعى إلى التأثير في الفكر والوجدان على السّواء. قال تعالى: { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [ سورة الفيل، الآية: 5 ] ، وقال عز وجل: { أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ } [ سورة إبراهيم: الآية: 18 ] ، وفي تصوير قساة اليهود: { كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ سورة البقرة، الآية: 74 ] ، فقد وصف ورق الزّرع في سورة الفيل بأنّه مأكول، ليزيد من تصوير قبحهم، فقد أكلت الدّوابّ هذا الورق، وأتبع الرّماد بذكر الرّيح العاتية، وأضرب عن الحجارة، ليصمهم بأنّهم أقسى من الحجارة، وهذا ما يشدّ الانتباه، ويفسح المجال لتخيّل قلوب صلدة، وهذا الإحكام لا يقتصر على مفردات الجماد. وفقد اعتمد القرآن الكريم على ما هو مستمر دائم مثل الحجر والمطر والجبال والنّبات، لتكتسب الصورة البصرية عموم التأثير واستمراره، فبرزت الشّحنة النفسية في استعمال مفردات الجمادات ومناسبتها للمواقف الشعورية؛ والأحياء جزء من المشاهدات اليومية التي خلقها الله عزّ وجلّ، وهذا لا يقتصر على البيئة العربية، وقد ذكرت الأحياء في سياق توضيح نعمة الله، ليسير المرء في موكب الحياة، فمنها ما يؤكل ومنها ما يركب، ومنها المحلّل، ومنها المحرّم، قال تعالى: { وَالْأَنْعامَ خَلَقَها، لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [ سورة النحل، الآيتان: 5 – 6 ] . وجاء ذكر الأحياء في الصورة الفنية مخصّصا بشكل دائم لمقام التّوبيخ وإظهار بشاعة الكافرين، ولهذا اختير من الحيوان الجانب السلبيّ والقبح وقلة الفائدة والجمال، فقد كرّم الله الحيوان، وبيّن أن كلّ حيوان ينتسب إلى جماعة هي أمّة قائمة بذاتها، لما يطّرد فيها من أسلوب العيش، وهذه الأمم شبيهة بالأمم الإنسانية، قال عزّ وجل : { وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ } [ سورة الأنعام، الآية: 38 ] ، وقد ركّزت الصّورة الفنية على خصوصية الطابع الحيواني، فالحيوان لا يملك إرادة الكفّ والمنع شأن الإنسان، ولا يستطيع أن يضبط نوازعه، ولا أن يفكر، فكلّ تصرفاته آليّة اندفاعيّة تعمل بدافع من غرائزه. ففي الصورة البيانيّة الجانب القبيح من الحيوان، إنّنا نقرأ عن لهاث الكلب، لا عن وفائه، وغباء الحمار، لا صبره، والطابع البهيمي الغرائزي عند الأنعام، لا فائدتها في الرّكوب والأكل. ويجدر بنا هنا أن نتوقف مليّا، ونتلمّس جمالية انتقاء الطبيعة في قوله تبارك وتعالى: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } [ سورة الأعراف، الآية: 176] ، وهنا تنتقى حالة خاصّة من تصرفات الكلب، لتمثل ديمومة شناعة المرتدين المنافقين، وطول ألسنتهم، وتلاعبهم بالكلمات. ولعلّ هذه الانتقائية تستمدّ قوّتها من تصوير المنافق المرتدّ، وهو يدلّي لسانه كالكلب نتيجة ضرام نار الحقد في دخيلته، ويلهث وراء الدمار، وذلك في حال الأمن والخوف على السواء، فالتودّد لا يجدي معه، ويقول الجاحظ في (الحيوان: 3/ 38.) : «فكان ذلك دليلا على ذمّ طباعه، والإخبار عن تسرّعه وبذائه، وعن ونظرته التخصصية بمنزلة مفتاح لتصوّر هؤلاء الكفرة، وقد قرنوا بالكلب من جهة محدّدة، فللكلب فوائد كثيرة أيضا، والجاحظ يقدّم لنا تفسيرا لاختيار حيوان بعينه في النص القرآني، وإن كان الأمر لا يمتّ بصلة للصورة الفنية البصرية، فمنه نفهم الإيحاء النفسي للاختيار الدّقيق الذي يوائم الطبيعة البشرية التي تنفر من القبح، يقول عزّ وجلّ حكاية عن ولد آدم عليه الصلاة والسلام: { يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ } [ سورة المائدة، الآية: 31 ] ، وهذا الحيوان يفيد تأكيد بشاعة الموقف المعبّر عن وحشية، وما يقتبس من الجاحظ يعدّ تنظيرا لظاهرة قبح الحيوان في الصورة الفنية، إذ قال: «ولو كان في موضع الغراب رجل صالح، أو إنسان عاقل، لما حسن به أن يقول: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا العاقل الفاضل الشّريف، وكلّما كان المقرّع به أسفل كانت الموعظة في ذلك أبلغ» ( الجاحظ، الحيوان: 3/ 411.) . ويتّضح هذا الرأي في تأويله لاختيار الخالق مسخ الكافرين قردة وخنازير، فهذا يوائم الطبيعة البشرية التي تنفر من القبح في هذين الحيوانين، يقول: «ولو لم يكن لهما في صدور العامّة والخاصّة من القبح والتّشويه، ونذالة النّفس، ما لم يجعله لشيء غيرهما من الحيوان لما خصّهما الله بذلك» ( الجاحظ، الحيوان: 4/ 39 ) ، ويؤكد ابن أبي الاصبع هذا الرأي في إعجاز خلق الذّباب، تحرير التحبير، ص/ 474.). فالقصد من وجود هذه الحيوانات في الصورة الفنية تبيين تدنّي مستوى الكافرين وشناعة تصرفاتهم، وبعدهم عن الصفات الآدمية، ويمكننا أن نورد بعض الآيات في هذا الشأن مثل قوله تعالى: { فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } [ سورة الواقعة، الآية: 55 ] ، وقوله تعالى : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } [ سورة القلم، الآية: 16] ، وقوله تعالى: { كلا لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ } [ سورة العلق، الآية: 15 ] ، وكثيرا ما شبّه الكفار بالأنعام والدّوابّ. وهكذا نجد أن القرآن ينفي عن المشركين صفة التفكير عند ما يقرنهم بالجماد، فهناك عملية تحنيط وتجميد لهم، ويأتي الحيوان في الدرجة الثانية من التّدرّج، لأنه يتسم بالحركة، والقرآن باستخدام الحيوان يبثّ الحركة فيهم، ويؤكد تسلّط الغرائز، وكلّ ذلك لأجل توصيل صورة القبيح في أسمى شكل مؤثّر، فالناصية خصّت بالدّوابّ عموما، وهي في الآية تدلّ على تحقير الكافر ومهانته، فهو كالبهيمة تضرب ناصيته، وهو يشرب كالحيوان من الماء المغلي، ويعدل عن ذكر أنفه، فيضخّم قبحه، ويمثّل بحيوان له خرطوم، ويتجلّى القبح في العدول عن الأنف إلى الخرطوم، فهنا هبوط بآدمية المفتون الشرير إلى دونيّة البهائم والسّباع ( عبد الرحمن، عائشة، التفسير البياني: 2/ 63.) التي كان يعيش عيشتها. ونقف على ذكر العنكبوت في القرآن، ، فقد قرن عمل الكافرين في القرآن ببيت العنكبوت، إذ جعلهم: ( كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) ( سورة العنكبوت، الآية: 41.) ، ونبدأ بالجاحظ صاحب النظرة العلمية، لنفيد من تخصصه وتذوّقه، فهو يقول: «فدلّ على وهن بيته، فكان هذا القول دليلا على التّصغير والتقليل» ( الجاحظ، الحيوان: 3/ 38.) . إنّه يشير إلى هلهلة ما تنسجه العنكبوت، وينتقل مباشرة إلى العبرة من هذا التجسيم، وقد قال الرماني في هذا الشاهد: «تشبيه قد أخرج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، وقد اجتمعا في ضعف المعتمد، ووهاء المستند، وفي ذلك التحذير من حمل النفس على الغرور بالعمل على غير يقين» ( الرماني، علي بن عيسى، ثلاث رسائل، ص/ 78.) لقد نبّه إلى تجسيم المعنى المجرّد، وهو الأعمال القبيحة بصورة مرئية تعتمد التشبيه المركّب، ودلّ على طبع هذا الحيوان، ليعطي البعد الإنساني لذكره، واهتمامه يرتكز على البيت، وليس العنكبوت بشكله البشع وما يضفيه على الكافر، وقد انشغل الزمخشري بتذييل الآية وهو قوله تعالى: { وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ } [ سورة العنكبوت، الآية: 43 ] ، فقال: «أي لا يعقل صحّتها وحسنها وفائدتها إلّا هم، لأن الأمثال والتشبيهات، إنما هي الطّرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار» ( الزمخشري، الكشاف: 3/ 206. ). وانشغاله بتذييل الآية يقدّم فكرة جليلة، لأنه يرى أنّ وعي انتقاء الحيوان للمعاني يحتاج إلى تمحيص وتدبّر، وذلك لفهم إيحاءات جمّة يفهمها العالمون بتدبّرهم وتذوقهم، وفي هذا التذييل هنا تعريض بجهل هؤلاء المعترضين على القرآن. ويقول فتحي أحمد عامر: «والعنكبوت أقذر ما تقع عليه العين، حيث لا يألف إلّا الأماكن المهجورة، ولا يعيش إلّا في الخرائب، ولا يصح في حكم العقل، أو في حكم العاطفة والوجدان أن تكون العنكبوت على حظ، ولو قليل من النظافة الحسية والنظام، وبيتها أوهن البيوت بالاستقراء، لأنه لا يحتمل نفخة واحدة، فتتطاير خيوطه المهوّشة مع الريح، والعلاقة بين الهيئة الأولى والهيئة الثانية علاقة نفسية، فعبّاد الوثن يتخذون أحقر أنواع العبادة، ولا يصحّ في حكم العقل أو في حكم العاطفة أن يكون هؤلاء الذي يسجدون لصنم على حظّ، ولو قليل، من النظافة المعنوية والعفّة والترفّع عن الدّنايا» ( الزمخشري، الكشاف: 3/ 206.). وهكذا لمسنا تنفير هذه الحشرة للناظر، وقد ركّز القرآن على العنكبوت مؤطّرة ببيتها الزّريّ، فشكل البيت مع الحيوان لا يريح البصر، وكل ما يعرف عن قذارة هذه الحشرة يعدّ مفسّرا لجمالية تجسيمها لقبائح الكفار. ومن جهة الإحاطة ، ففي الآية: { إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } [ سورة لقمان، الآية: 19 ] نجد جدّة وعمقا لدى الزمخشري، وقد ذكر هذا الحيوان بصورة إيجابية لدى ذكر النّعم، فهو وسيلة للركوب، وذكر أيضا في مجال التّشنيع والتّسفيه داخل الصورة الفنية، وقد شبّه به الكفار في نفورهم وإعراضهم عن آيات الله، وفي هذه الآية يقصد نهاقه المذموم الذي شبّه به الصوت المرتفع، يقول الزمخشري: «والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة وكذلك نهاقه، ومن استفحاشهم لذكره مجرّدا، وتفاديهم من اسمه، أنهم يكنّون عنه، ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة، وقد عدّ من مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه، وإخراجه مخرج الاستعارة، وأن جعلوا حميرا، وصوتهم نهاقا، مبالغة في الذمّ والتهجين» ( الزمخشري، الكشاف: 3/ 234.) . وما يضاف أن مقولته تنطبق على كل الصور التي استخدمت الحمار مثل قوله تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً } [ سورة الجمعة، الآية: 5 ] . وقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } [ سورة المدّثّر، الآيتان: 50 – 51 ] ، وليته تحدّث عن الصوت المزعج للحمار، وقد يكون أحيانا بلا سبب، كما يرفع الناس أصواتهم أحيانا، لأجل فقّاعة من فقاقع الحياة وقشورها البالية. وهذا ما لفت إليه النظر الدكتور نور الدين عتر عند ما تلمس جمال التعبير في الصيغة، إذ يقول في تفسير الآية: { إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [ سورة لقمان، الآية: 19 ] : «صورة منفّرة غاية التنفير، تزيدها بشاعة صيغة الجمع «الحمير» وتوحيد كلمة «صوت» الذي يدلّ على صوت هذا الجنس البالغ غاية القبح بسبب ارتفاعه وصخبه» ( عتر، د. نور الدين، 1982، محاضرات في تفسير القرآن الكريم، طبعة أولى، المطبعة التعاونية، دمشق، ص/ 73. ). لقد استطاع بعض الأسلاف التوصّل إلى جمال الاستمرار في الطبيعة التي اختيرت للصورة الفنية، وهذا الثّبات أو الاستمرار قائم لدوام صنيع الكفار، واستمرار أسلوب المنافقين، فما أحقّهم بصفات حيوانية لا يختلف فيها اثنان. وقد رأى بدوي أنّ من عوامل استحقاق وجود المشبّه به هنا ما يمهّد له في الآية، ومن شواهده قوله عزّ وجلّ: { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ } [ سورة الأعراف، الآية، 179 ] ، إذ يقول: «وأنت ترى في هذا التشبيه كيف مهّد له التمهيد الصالح، فجعل لهم قلوبا لا يفقهون بها، وأعينا لا يبصرون بها، وآذانا لا يسمعون بها، ألا ترى نفسك بعدئذ مسوقا إلى إنزالهم منزلة البهائم؟» ( بدوي، من بلاغة القرآن، ص/ 205.) . لقد تراءى لبعضهم أن الرومنسيين هم الذين أدخلوا فكرة تصوير القبيح، وهذا ما تراه روز غريب قائلة: «وهنا تصبح أهمية المعنى كعنصر جمالي، أنه يسمح للقبح أن يكون مظهرا من مظاهر الفنّ، فكم من وجه قبيح كثير العيوب يجذبنا بقوة تعبيره وجمال معانيه» ( غريب، روز، النقد الجمالي، ص/ 81.). بيد أننا لا نجد مسوّغا لأولوية الرومنسيين، إلّا إذا كان المقصود تفريغ تصوير القبح من المعاني السامية، فهو قبح غير هادف، إذ يرتكز الهجاء على معاني القبح في شعرنا العربي. ولا شكّ في أن القرآن بثّ الجمال في الإتقان الفني لدى تصوير القبح من غير إهمال الوظيفة السامية للصورة المؤثّرة، ولعلّ هذه العجالة المتواضعة تؤكد أن القرآن في ترهيبه يصوّر القبح بطريقة مؤثّرة غاية التأثير، خصوصا في السور المكية، فنجد شجرة الزّقّوم، وامتلاء البطون بالنار، والماء الذي يشوي الوجوه والثياب النيرانية، والمقامع الحديدية والصّديد. وهذا لا يبعث على الرعب الخالص أو القرف وحده، كما يكون أحيانا في الفن، إنما يطغى شعور بالرّهبة والخضوع لصاحب الهيبة العظمى، والحيوان مسخّر لصالح البشر، ولا يعني ذكره في الصورة إلا تأكيدا لبعض الخصوصيات والاستفادة منها للتعبير، ولا سيّما الأنعام. ولا بدّ من التأكيد على أن القرآن الكريم يبيّن أهمية الجماد والحيوان، فهما من مخلوقات الله عز وجل، وقد أقسم القرآن بالجماد، مثل: الصبح والنجوم والكواكب، وبالنباتات، مثل: التين والزيتون، لتدلّ هذه الأشياء على عظمة الخالق، وقد اختار في الصورة الفنية النبات، وأحكم اختياره بنزع صفة الحياة عنه عند ما وصف الكفار، فالخشب مسنّدة، والعصف مأكول، وأعجاز النخل منقلعة من جذورها. أما في وصف المؤمنين فقد اختار النبات الحي، قال عز وجل: { ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [ سورة الفتح، الآية: 29 ] ، فالتشبيه بالزّرع ينمّ على حيوية ونشاط، وخصوصا بإحكام المشبّه به بمؤازرة الشّطء والاستغلاظ والاستواء، مع ما تفيد الفاء من سرعة في النماء. ونستنتج أن القدامى وقعوا على المدلول الفني لذكر مشاهدات الطبيعة، وذلك وفق مصطلحاتهم الدقيقة، وأنهم فهموا اقتصار الصورة الفنية على الجانب القبيح من الحيوان . وقد بيّنّا أن المعاصرين أكّدوا عموم الطبيعة في القرآن الكريم، ونفي اقتصارها على البيئة العربية، كما أنهم أضافوا بعض إثارة من الخيال في تملّي جمال ذكر مفردات الطبيعة، وتدل المشاهدات على أن الجماد يشارك النبات في السكون وعدم الإحساس، إلّا أن النبات يتصف بالنمو، كما أن النبات يشارك الحيوان في النمو، ويأتي دونه، لأن الحيوان يتصف بالغريزة والتنقّل ويأتي الإنسان الذي وهبه الله العقل على رأس هذه المخلوقات التي يدل ترتيبها على عظمة خالقها. أما التشخيص الذي هو إبراز الجماد أو المجرّد من الحياة من خلال الصورة بشكل كائن متميّز بالشعور والحركة والحياة وإبراز علاقة عاطفية بين المبدع والمشاهدات كأن يضفي على مشاهد الطبيعة الشعور بالحزن فتتعاطف معه ا وتعطف عليه إذ تملّك مشاهد الطبيعة مشاعر إنسانية سامية. وبالمقابل عاطفة السرور التي تشعر بها الطبيعة عند تشارك في غبطة وسرور فيكون الضياء ابتسامة رقيقة، ويكون النسيم دغدغة لطيفة. والتشخيص في كتب البلاغة أدخل في الاستعارة، لأن المفردة المشخّصة تستعار من الإنسان للجماد، لبثّ روح فاعليّة الإنسان في الأشياء. وقد كان في استعارة الجماد والأحياء ما يوحي بهبوط الأسس الانسانية في الكافرين، وفي التشخيص صعودا بالأشياء، لتأخذ صفات بشرية، تساعدها على التأثير. ولعل من جماليات هذا الفن أنه يلقي الطمأنينة في نفس القارئ، عند ما يقدّم له مثيله في رفع مستوى الأشياء، فيتلاشى الشعور بالغربة والانعزال، وهكذا يجعل التشخيص المعالم كائنات عاقلة أو أشخاصا، فيشعر المرء بمشاركتها الوجدانية ، ولعل التشخيص أبعد الفنون عن المباشرة في توصيل الكلام، بل هو نوع من التخييل البعيد وفائدته أنه يمتلك مخزونا مؤثّرا في توسيع رقعة الخيال لدى المتلقّي، وليس تلك النّقلة العادية في مجال الاستعارة، فهذه النّقلة تعني التحوّل من مجال الإخبار إلى مجال الرؤية بوساطة الخيال، فيضاف هنا إلى المسألة الاخبار المباشر عمق التأثير. والتشخيص ينقل الصورة من مجرّد الإخبار الذي يحتمل الصّدق والكذب إلى تخيّل مشاهدة أحداثها ووقائعها، مما يوهم المتلقّي أن ما هو مبنيّ على الظن أصبح يقينا ومن التشخيص كما يسميه القدامى (التجسيم عند المحدثين ) قوله تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا } [ سورة الإسراء، الآية: 36 ] ، وقوله تعالى: { رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ } [ سورة يوسف، الآية: 4 ] . وقوله تعالى: { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ سورة الأنبياء، الآية: 33 ] ، فنحن نجد أنّ البيان القرآني استعار السّباحة للكواكب، فجعلها عاقلة، مما يدل على طواعيتها، وتفهّمها لأمر خالقها. ولم يقف الدارسون على مثل هذه الآيات في باب الاستعارة فقط، إذ نجد هذه الآيات في باب المجاز ، مما يدل على أنهم لمسوا البعد النفسي في آيات أخر، ووجدوا في هذه توسّعا عاديا من قبيل الاستعمال اللغوي المجازي، مع أن المجاز لا يختلف عن باب الاستعارة، فإذا كان المجاز مرسلا فهو استعارة، والمرسل ما أرسل عن قيد التشبيه، وكذلك التشخيص فهو استعارة معقول لمحسوس. يقول ابن قتيبة وابن الأثير في قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ } [ سورة فصّلت، الآية: 11 ] ، إذ يردّ ابن قتيبة القول إلى حيّز الحقيقة لتوضيح المعنى ، ويقول ابن الأثير: «نسبة القول إلى السماء والأرض من باب التوسّع، لأنهما جماد، والنطق إنما هو للإنسان لا للجماد. ومما يحمدون عليه أن يشير الدارس إلى أهمية اللفظة المشخّصة بقوله «هذا أبلغ» بعد أن يبيّن الحقيقة اللغوية، ففي الآية الكريمة: { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ } [ سورة الحاقة: الآية: 11 ] تتفق الآراء في أنّ الحقيقة علا، و «طغى» أبلغ لأنّ فيه قهرا، وهو استعارة معقول لمحسوس، وقد كانت بداية هذا التذوق لدى الرّمّاني . وهنالك آيات في ذكر جهنم وتصوير أهوالها، أسبغ البيان القرآنيّ عليها صفات جديدة، لتفجير طاقة التأثر، بما يكنه التّخييل الذي تبعثه المفردة في ثوبها الجديد، إذ يقول تعالى: { إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً، وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } [ سورة الملك، الآيتان: 7 – 8 ] ، ويقول الرماني عن الآيتين: «شهيقا حقيقته صوتا فظيعا كشهيق الباكي، والاستعارة أبلغ منه وأوجز، والمعنى الجامع بينهما قبح الصّوت وتَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ حقيقته من شدّة الغليان بالاتّقاد، والاستعارة أبلغ منه، لأنّ مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس مدرك ما يدعو إليه من شدّة الانتقام، فقد اجتمع شدّة في النّفس تدعو إلى شدّة الانتقام في الفعل. ولا يقلّل من شأنه نظرته الذوقية ما جاء في كتب غيره عن ربط الشهيق بصوت الحمار، ونهم البغلة إلى الشّعير، ويبدو أن النظرة الأخيرة تصور عنفوان جهنم بصورة أقوى، فالرماني أحسّ بالصفة الآدمية التي جعلت من النار إنسانا يبكي من الغيظ، وتكاد تتقطّع غيظا من الكافرين، بعد انتظار طويل، وقد أحسّ بدافع الانتقام الذي جعلها عاقلة أشركت في مهمّة قصد العذاب، وهناك تأمل عميق نابع من ذوق شخصي لدى الشريف الرضيّ، فقد قال: «وصف النار بصفة المغيظ الغضبان، الذي من شأنه أن يبالغ في الانتقام، ويتجاوز الغايات في الإيقاع والإيلام». ولا نعدم مثل هذا التعمق لدى الزمخشري الذي أشار إلى رغبة المغتاظ في تقطيع أعضائه، وكأنّه يتقطّع، ويمزّق ما عليه ، ومن هذا القبيل تملّيهم جمال الآية الكريمة: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ } [ سورة الأنبياء، الآية: 18 ] ، فنحن نفهم أهمية كلمة «يدمغه» في سياق كلام الشريف الرضي الذي قال: «الدّمغ إنما يكون عن وقوع الأشياء الثّقال، وعن طريق الغلبة والاستعلاء، فكأن الحقّ أصاب دماغ الباطل فأهلكه» . وتتسم كلمة «يدمغه» بالاختزان نتيجة اشتقاقها من عبارة «ضربة على دماغه»، وكذلك يعطي الزمخشري الأهمية الكبرى للمفردة المشخّصة، وبشكل أوضح في تفسيره للآية: { وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ } [ سورة الأعراف، الآية: 154 ] إذ يقول: «كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولم يستفصحها كلّ ذي طبع سليم، وذوق صحيح إلا لذلك ؛ لا وتعليق صبحي الصالح على الآيتين السابقتين: «مع أن تشخيص جهنّم هو الذي يجعل المشهد حافلا بالحياة والحركة، فهي مغيظة محنقة تحاول أن تكظم غيظها حين ألقي إليها المجرمون، ولكأن منظرهم البشع كان أشدّ من أن تتحمّله، وتصبر عليه، فتلقّتهم بألسنة لهبها، وهي تئزّ وتشهق، وبمهلها وقطرانها، وهي تغلي وتفور، حتى كاد صدرها ينفجر حقدا عليهم، ومقتا لوجوههم السّود، فليس في الصورة استعارة معقول لمحسوس فقط، وإنما استعيرت لجهنم شخصية آدمية، لها انفعالات وجدانيّة، وخلجات عاطفية، فهي تشهق شهيق الباكين، وهي تغضب وتثور، وهي ذات نفس حادّة الشعور» «( الصالح، د. صبحي، مباحث في علوم القرآن، ص/ 325.) أجزائه، ليتوصلوا إلى فضل المفردة،


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)