شعر الفتوح في العراق في العهد الراشدي:
انطلق الشعر على ألسنة الفاتحين في العراق مع أول ضربة سيف، وقد أحاط بالمعارك والأحداث إحاطة، بحيث يمكن أن يعد وثيقة تاريخية لها خطرها. وهو من حيث تصويره لحياة المجاهدين ومشاعرهم، وتصويره لمشاعر المقاومين أيضًا يمكن أن يعد وثيقة وجدانية رائعة لهذا الحدث الفذ في تاريخ الإسلام والمسلمين.
واكب الشعر أحداث الفتح منذ أول التقاء، كان من الحفير أو كاظمة بين خالد وهرمز، حيث دارت الدائرة على الفرس، ثم انتصر المسلمون على قارن بن قريانس في وقعة المذار أو الثنى، وأكثروا القتل في جنده، فتغنى القعقاع بن عمرو التميمي بهذا النصر قائلًا:
فنحن وطئنا بالكواظم هرمزًا ... وبالثنى قرني قارن بالجوارف
وكذلك يفعل الأسود بن قطبة، فيعير عرب القبائل الذين انضموا للفرس بسبي المسلمين نساءهم وافتضاحهم فيقول:
لعمرو أبي بجير حيث صاروا ... ومن آداهم يوم الثنيِّ
لقد لاقت سراتهم افتضاحا ... وفتنا بالنساء على المطيِّ
آلا ما للرجال فإن جهلًا ... بكم أن تفعلوا فعل الصبيِّ
وعندما يجتمع العرب الموتورون مع الفرس يوم أُلَّيس، ويرى المسلمون منهم نكالًا حتى يصلي خالد صلاة الخوف- يصور الأسود بن قطبة التميمي هول المعركة، وبسالة المقاومين فيقول:
لقينا يوم أليس وأمغي ... ويوم المقر آساد النهار
فلم أرَ مثلها فضلات حرب ... أشد على الجحاجحة الكبار
قتلنا منهم سبعين ألفًا ... بقية حزبهم نخب الإسار
سوى من ليس يحصي من قتيل ... ومن قد غال جولان الغبار
ويصور عاصم بن عمرو ثبات المقاومين من الفرس يوم العقيق فيقول:
ألم ترنا غداة المقر فينا ... بأنهار وسكانها جهارا
قتلناهم بها ثم انكفأنا ... إلى فم الفرات بما استجارا
لقينا من بني الأحرار فيها ... فوارس ما يريدون الفرارا
وعندما وصل المسلمون إلى الحيرة ودخلوا قصورها استخفهم الطرب، فانطلقت أغنيات النصر نشوى، تفخر ببلائهم الذي استحقوا به الظفر، يقول القعقاع بن عمرو:
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت ... على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كان عرشهم ... يميل به فعل الجبان المخالف
رمينا عليهم بالقبول وقد رأوا ... غبوق المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا: نحن قوم تنزلوا ... إلى الريف من أرض العرب المقانف
والشاعر هنا يشير إلى ما كان من مجادلة خالد لأهل الحيرة، في نقمتهم على بني عمومتهم من العرب، وما كان من انتسابهم إلى العرب. والشاعر يكشف هذا اللجاج الذي فسروا به موقفهم، وأنهم لم يعترفوا بهذا النسب إلا تحت وطأة السيوف. وهذا عاصم بن عمرو يصف بلوغ المسلمين الحيرة، وإحاطتهم بقصورها فيقول:
صبحنا الحيرة الروحاء خيلا ... ورجلًا فوق أثباج الركاب
حصرنا في نواحيها قصورًا ... مشرفة كأضراس الكلاب
ويمضي خالد بالمسلمين إلى الأنبار، وفي الطريق إليها يتأمل عاصم بن عمرو جموع المسلمين التي حشدها خالد ليأتي بهم من ألبوا عليهم من أهل الأنبار فيقول:
جلبنا الخيل والإبل المهاري ... إلى الأعراض أعراض السواد
ولم ترَ مثلنا كرما ومجدًا ... ولم ترَ مثلنا شخاب هاد
شحنا جانب الملطاط منا ... بجمع لا يزول عن البعاد
لزمنا جانب الملطاط حتى ... رأينا الزرع يقمع بالحصاد
لنأتي معشرًا ألبوا علينا ... إلى الأنبار أنبار السواد
وبعد أن ينقذ خالد عياضًا، ويثأر العرب من بكر بن وائل لمقتل عقة ولهزيمة عين التمر، يوجه خالد أمراءه إلى الحصيد والخنافس والزميل ليبيتوا العرب على غرة، ويقتل روزمهر قائد بيد القعقاع بن عمرو، الذي يفخر بقتله لحليلته فيقول:
ألا أبلغا أسماء أن حليلها ... قضى وطرا من روزمهر الأعاجم
غداة صبحنا في حصيد جموعهم ... بهندية تفري فراخ الجماجم
واستطاع أبو ليلى أن يهزم المهبوذان في الخنافس، فقال يفتخر بصنيعه:
وقالوا ما تريد فقلت: أرمي ... جموعًا بالخنافس بالخيول
فدونكم الخيول فألجموها ... إلى قوم بأسفل ذي أثول
وفينا بالخنافس باقيات ... لمهبوذان في جنح الأصيل
وصور الشعر هذا الحلف الغريب من الفرس والروم والعرب، الذين جمعت بينهم الظروف على المسلمين في وقعة الفراض، ونصر الله المسلمين وقطع دابر الحلف بأيديهم، فقال القعقاع:
لقينا بالفراض جموع روم ... وفرس غمها طول السلام
أبدنا جمعهم لما التقينا ... وبيتنا بجمع بني رزام
فما فتئت جنود السلم حتى ... رأينا القوم كالغنم السوام
وفي أول لقاء لجيش أبي عبيد مع الفرس في النمارق يستحر القتال، ويستبسل المسلمون حتى ينتصروا على رستم، ويأسروا قائديه جابان ومردان شاه، فيستبيحوا السواد يجوسون خلاله بعدما هاجروا نحو ربهم فأنالهم أكتاف الفرس، يقول عاصم بن عمرو:
لعمري وما عمري على بهين ... لقد صبحت بالخزي أهل النمارق
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم ... يجوسونهم ما بين درتا وبارق
قتلناهم ما بين مرج مسلح ... وبين الهوافي من طريق البذارق
ويفزع أهل السواد إلى أبي عبيد يطلبون الصلح، ويقدمون الهدايا والأطعمة الفارسية وتمر النرسيان، بعد أن دانت للمسلمين قرى السواد، واستباحه المسلمون، يقول عاصم بن عمرو:
ضربنا حماة النرسيان بكسكر ... غداة لقيناهم ببيض بواتر
وفزنا على الأيام والجرر لاقح ... بجرد حسان أو يبرد غوابر
وظلت بلاد النرسيان وتمره ... مباحًا لمن بين الديار الأضافر
أبحنا حمى قوم وكان حماهم ... حرامًا على من رامه بالعساكر
وفي قس الناطف تحدث كارثة الجسر، تلك الهزيمة الوحيدة التي لحقت بالمسلمين في جميع فتوحاتهم؛ إذ أخذتهم السيوف والغرق والفرار من كل جانب، وقد ترامت أنباء الهزيمة في بلاد العرب، ورن صداها في كل قلب، يقول حسان بن ثابت لما بلغته الكارثة بالمدينة:
لقد عظمت فينا الرزيئة إننا ... جلاد على ريب الحوادث والدهر
على الجسر قتلى لهف نفس عليهم ... فيا حسرتا ماذا لقينا من الجسر
وعلى الرغم من هذا، فإننا لا نجد غير أبيات تنسب إلى أبي محجن الثقفي في وصف المعركة، ورثاء نفر من شهداء المسلمين، وطبيعي أن تسكت أصوات الشعراء في هذه المحنة، يقول أبو محجن:
أنى تسدت نحونا أم يوسف ... ومن دون مسراها فياف مجاهل
إلى فتية بالطف نيل سراتهم ... وغودر أفراس لهم ورواحل
وأضحى أبو جبر خلاء بيوته ... وقد كان يغشاها الضعاف الأرامل
وأضحت بنو عمرو لدى الجسر منهم ... إلى جانب الأبيات جود وناذل
وما لمت نفسي فيهم غير أنها ... لها أجل لم يأتها وهو عاجل
وما رمت حتى مزقوا برماحهم ... إهابي وجادت بالدماء الأباجل
وحتى رأيت مهرتي مزوئرة ... لدى الفيل يدمي نحرها والشواكل
مررت على الأنصار وسط رحالهم ... فقلت: ألا هل منكم اليوم قافل
ألا لعن الله الذين يسرهم ... رداي وما يدرون ما الله فاعل1
وكانت الفيلة قد فعلت أفاعليها في المسلمين فشتتهم.
وكان أن أذن عمر لمن كان ارتد بالالتحاق بجند العراق ليطهروا، فإذا بهم يتدفقون إلى المثنى، وإذا بهم يخوضون تحت لوائه معركة الثأر والنصر، وقد شاع في نفوسهم إحساس بالاستماتة والتفاني للتكفير عما اقترفوه، كما استمات فل الجسر لمسح عار الهزيمة، وكانت معركة البويب معركة لم يشهد المسلمون والفرس أشد منها، حتى كانت العظام تلوح تلالًا من هام الفرس وأوصالهم، وتحزر بمائة ألف من جثثهم . وتغنَى الشعراء بهذا النصر، وعقدوا أكاليل الغار للمثنى. يقول الأعور العبدي الشني:
هاجت لأعور دار الحي أحزانا ... واستبدلت بعد عبد القيس خفانا
وقد أرانا بها والشمل مجتمع ... إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
أزمان سار المثنى بالخيول لهم ... فقتَّل الزحف من فرس وجيلانا
سما لمهران والجيش الذي معه ... حتى أبادهم مثنى ووحدانا
ووجد أبطال المسلمين في قتلهم مهران شرفًا تنازعه كثيرون منهم، وكثر في ذلك جدالهم. وكان أشهر من تنازع قتله حسان بن المنذر بن ضرار الضبي، وجرير بن عبد الله البجلي، ويظهر أن حسانًا قد طعنه، ثم ضربه جرير بعد ذلك، ولكن حسانًا ينكر أن يكون جرير قد شاركه هذا الشرف فيقول:
ألم ترني خالست مهران نفسه ... بأسمر فيه كالخلال طرير
فخر صريعًا والتقاني برجله ... وبادر في رأس الهمام جرير
فقال قتيلي والحوادث جمة ... وكاد جرير للسرور يطير
فقال أبو عمرو: وقتلى قتلته ... ومثلى قليل وللرجال كثير
فأرسل يمينًا "أن رمحك ناله" ... وأكرم إن تحلف وأنت أمير
ثم تكون بعد ذلك المعركة الحاسمة في القادسية، التي تجهز لها الفرس والعرب بكل ما يطيقون، وحشد لها عمر أهل الرأي والشجاعة والخطابة والنجدة، يحضون الناس ويلهبون مشاعرهم. والتقى سعد بجيش هو خلاصة الأمة الإسلامية مع الفرس في ثلاثة أيام بثلاث ليال، متصلة الحرب حامية الوطيس، ولعب الشعر دوره في المعركة، فلم يكن القتال يبدأ قبل أن يمر الشعراء بين الصفوف يرغبون الناس، ويقدحون عزمهم فينشب أهل النجدات القتال، بينما يشعل الرُّجَّاز أُوار الحماس، كما حدث في أول يوم، فقد برز غالب بن عبد الله الأسدي يرتجز بدء القتال فقال:
قد علمت واردة المسالح ... ذات البيان واللسان الواضح
أني سمام البطل المشايح ... وفارج الأمر المهم الفادح
فإذا بهرمز أحد ملوك الباب يبرز فيأخذه غالب أسيرًا، وخرج بعده عاصم بن عمرو التميمي يرتجز قائلًا:
قد علمت بيضاء صفراء اللبب ... مثل اللجين إذ تغشاه الذهب
أني امرؤ لا من يعينه السبب ... مثلي على مثلك يغريه العتب
وظل القتال دائرًا يغذيه الرجاز والشعراء بلهيب لا ينفد، حتى حال الليل بين الفريقين، ولقد أبلى في هذا اليوم عاصم بن عمرو بلاء رائعًا، وهو يقول عن هذا اليوم المسمى بأرماث:
حمينا يوم أرماث حمانا ... وبعض الناس أولى بالجمال
يشير إلى ما كان من انتداب سعد لتميم لتدافع عن أسد، الذين أضرت بهم الفيلة ضررًا بليغًا. وفي صباح اليوم الثاني يوم أغواث، الذي أغاث فيه القعقاع المسلمين بجند الشام استطاع المسلمون أن يوقعوا بالفرس في غيبة الفيلة التي قطع وضنها عاصم في اليوم الأول، ورفه هذا عن المسلمين، واستمر القتال إلى منتصف الليل، وكفة المسلمين أرجح، وجدد مدد الشام أمل المسلمين، حينما رأوا القعقاع يصول في صفوف الفرس، يقتل من يلقاه، وكان سعد قد حبس أبا محجن الثقفي، فلما اشتد القتال وتردد تكبير الناس في أذنه ثارت حميته، واستعفى سلمى زوج سعد أن تحل قيده، وأن تعيره البلقاء فرس سعد، وأقسم أن يرجع فيضع قدمه في القيد، فرفضت رجاءه فقال:
كفى حزنًا أن ترتدي الخيل بالقنا ... وأترك مشدودًا على وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصاريع دوني قد تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدًا لا أخا ليا
ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألا أزور الحوانيا
فلما سمعت سلمى شعره رقت له وأطلقته، فاقتاد البلقاء، وركبها وعليه سلاحه، وانطلئق يقصف الأعداء بسيفه قصًّا منكرًا، وسعد يقول: لولا محبس أبي محجن لقلت هذا أبو محجن، فلما انقضى اليوم رجع فوضع قدميه في القيد، وظل القتال إلى الليل، والمسلمون آملون في الظفر، يفعلون في الفرس أفاعيلهم، حتى ليقال: إن القعقاع قد زاحف الفرس ثلاثة وثلاثين زحفًا، فقتل في كل منها فارسًا، وكان آخرها الذي قتل فيه يزرجمهر، وقال في قتله:
حبوته جياشة بالنفس ... هدارة مثل شعاع الشمس
في يوم أغواث فليل الفرس ... أنخس بالقوم أشد النخس
حتى تفيض معشري ونفسي
وفي الصباح الثالث لم يكن القعقاع قد غمض له جفن، فقد سرب جنده تحت جنح الليل إلى المكان الذي أقبلوا منه، وأمرهم أن يتقاطروا مئة مئة، فإذا بهم يفعلون، يتبعهم هاشم بن عتبة في بقية جند الشام، وأخذ يحمل على الأعداء فيهد صفوفهم، ولكن الفيلة عادت في هذا اليوم تفعل بالمسلمين كفعلها يوم أرماث وتشتت خيول المسلمين، حتى تمكن القعقاع والربيل من عيونها ومشافرها فولت تثب في النهر، واشتد القتال واستحر، وخيم الظلام، فلم يفصل بين الفريقين، ولم يكن يسمع غير صليل السيوف وهرير الفرسان. وزاحف القعقاع دون إذن سعد، وتبعته القبائل تحذو حذوه، فما جاء الظهر حتى أظهر الله المسلمين، فهدموا المجنبتين، وانفرج القلب فانقضوا عليه، وبلغ أهل النجدة سرادق كسرى ويه رستم فقتله الله. وكان صوت القعقاع وهو يترجز بشير الظفر:
نحن قتلنا معشرًا وزائدا ... أربعة وخمسة وواحدا
نحسب تحت اللبد الأساودا ... حتى إذا ماتوا دعوت جاهد
الله ربي واحترزت عامدا
كانت القادسية المعركة الفاصلة في الفتوح الشرقية، ولم يرَ المسلمون ولا الفرس وقعة أشد منها هولًا، فقد فقدَ المسلمون ثمانية آلاف شهيد. وكان قتلى الفرس ثلاثين ألفًا، وأبلى أبطال المسلمين فيها بلاء فخروا به، وسجلوه على الدهر في شعرهم. وكانت أرجازهم طبولًا تدفع بالمسلمين إلى اقتحام الأهوال، وتدفع بهم إلى أن يكونوا نماذج رفيعة لبقية المجاهدين. وهذا هو عمرو بن معد يكرب الزبيدي يصيح طربًا كأنه غلام مفتون وهو يرى صفوف الفرس تميل تحت وقع ضرباته:
أنا أبو ثور وسيفي ذو النون ... أضربهم ضرب غلام مجنون
يآل زبيد إنهم يموتون ، وقد تخلف عن القادسية كثرة شعر الفتوح الشرقية؛ إذ شهدها نفر من الشعراء المكثرين والمشهورين، وانطلق الشعر على ألسنة الفاتحين، وكأنما هو طقس حتمي من طقوس الحرب والاقتحام، وقد صورت جوانب المعركة تصويرًا دقيقًا، وصفت فيه الحوادث والمشاعر، وفخر المجاهدون ببلائهم، وأشادوا بما قدموا. وطريف هذا التنازع الشعري حول مقتل رستم، الذي اشترك فيه طائفة من كبار الفرسان الشعراء، وتنازعوا فيه دمه، من مثل عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وقيس بن مكشوح، وعمرو بن شأس الأسدي، وزهير بن عبد شمس، وغيرهم من الفرسان أمثال طليحة بن خويلد، وقرط بن جماح العبدي، وضرار بن الأزور الأسدي، وهلال بن علفة التميمي. يقول قيس بن مكشوح:
جلبت الخيل من صنعاء تردي ... بكل مذجج كالليث سامي
إلى وادي القرى فديار كلب ... إلى اليرموك فالبلد الشآمي
وجئن القادسية بعد شهر ... مسومة دوابرها دوامي
فناهضنا هنالك جمع كسرى ... وأبناء المرازبة الكرام
فلما أن رأيت الخيل جالت ... قصدت لموقف الملك الهمام
فأضرب رأسه فهوى صريعًا ... بسيف أفل ولا كهام
وقد أبلى الإله هناك خيرًا ... وفعل الخير عند الله نامي
وهذا زهير بن عبد شمس ينسب هذا الشرف إلى نفسه فيقول:
أنا زهير وابن عبد شمس ... أرديت بالسيف عظيم الفرس
رستم ذا النخوة والدمقس ... أطعت ربي وشفيت نفسي
وهذا عمرو بن شأس الأسدي يفخر بهذا الصنيع وينسبه إلى قبيلته، ويطلقه في عمومها:
جلبنا الخيل من أكتاف نيق ... إلى كسرى فوافقها رعالا
تركن لهم على الأقتام شجوا ... وبالحقوين أيامًا طوالًا
وداعية بفارس قد تركنا ... تبكي كلما رأت الهلالا
قتلنا رستما وبنيه قسرا ... تثير الخيل فوقهم الهيالا
وفر الهرمزان ولم يحامي ... وكان على قبيلته وبالا
تركنا منهم حيث التقينا ... قيامًا ما يريدون ارتحالا
وأيا كان من قتل رستم، فإنه يبدو أن المتنازعين جميعًا قد اشتركوا في قتله أو ساعدوا عليه، وصور الشعر في هذه المعركة موقفًا دقيقًا كاد يودي بوحدة المجاهدين أمام أعدائهم، ذلك أن سعد بن أبي وقاص عاوده أول المعركة مرض كان يتردد عليه، جعله لا يستطيع أن يركب أو يجلس، فهو مكب على وجهه، وفي صدره وسادة يعتمد عليها، ويشرف على الناس من القصر، يرمي بالرقاع فيها أمره ونهيه، وقد نمت هذه الأنباء إلى الفرس فاستبشروا بها، ثم نمى إليهم: أن المسلمين برموا بسعد وتندروا بمرضه، وأن قائلًا منهم يقول:
نقاتل حتى أنزل الله نصره ... وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهن أيم
وبلغ سعدًا ما تندر به الناس، وأن طائفة من وجوه القوم تتهمه وتشغب عليه، وترميه بالخور وضعف العزم، فحز ذلك في نفسه وأثار غضبه، فأمر بأن يحمل وأشرف على الناس حتى يروا ما به، ثم شتم من شغب، وهم بهم وقال: "أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالًا لغيركم، والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم، ويشاغلهم وهم بإزائهم، إلا سننت به سنة يؤخذ بها بعدي"1. وإزاء هذا الحزم أعلن الناس ولاءهم وطاعتهم. وقال جرير بن عبد الله البجلي: "إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر، وإن كان عبدًا حبشيًّا". فسرت هذه الروح في نفوس الجند وسكنت بوادر الفتنة. ويذكر بعض الباحثين أن أبا محجن الثقفي كان فيمن حبسهم سعد في هذا اليوم بسبب تخرصهم . ويروى أن الشاعر المتخرص هو النعمان بن قبيصة، وأن عبد الله بن سنان الأسدي جادله بطعنة أخرست صوته إلى الأبد، وذكر أنه لم يفعل هذا إلا حمية لقريش يقول:
لقد غادر الأقوام ليلة أدلجوا ... بقصر العبادي ذا الفعال مجدلا
دلفت له تحت العجاج بطعنة ... فأصبح منها في النجيع مرملا
أقول له والرمح في نغض كتفه ... أبا عامر عنك اليمين تحللا
سقيت بها النعمان كأسًا روية ... وعاطيته بالرمح سما مثملا
تركت سباع الجو يعرقن حوله ... وقد كان عنها لابن حية معزلا
كفيت قريشًا إذا تغيب جمعها ... وهدمت للنعمان عزا مؤثلا
ويبدو في حديث جرير بن عبد الله البجلي -الذي يشبه الاعتذار- أنه كان ينفس على سعد إمارة الجيش؛ ولذلك قال قولته التي تلقفها المتخرصون، وفيها ينسب سعدًا إلى الجبن:
أنا جرير كنيتي أبو عمر ... قد نصر الله وسعد في القصر
وقد عرف سعد كيف يرد قالة جرير، عندما أشاد ببطولة أميرين من أمراء الجيش وببلائهما، هما القعقاع بن عمرو، وجمال بن جويه الكناني، وأظهر استهانته ببجيلة كلها فقال:
وما أرجو بجيلة غير أني ... أؤمل أجرها يوم الحساب
وقد لقيت خيولهم خيولًا ... وقد وقع الفوارس في الضراب
فلولا جمع قعقاع بن عمرو ... وحمال للجوا في الكذاب
هموا منعوا جموعكم بطعن ... وضرب مثل تفتيق الإهاب
ولولا ذاك ألفيتم رعاء ... تشل جموعكم مثل الذباب
وبرغم هذا الجو المضطرب الملتهب الذي سيطر على المعركة، فإن فسحة من الوقت ضئيلة، ولحظات من خلو البال -في أوقات الراحة النادرة- كانت تتبدى للمجاهدين كالبريق الخاطف على أطراف الأسنة يختلسونها فيعالجون فيها أمورًا خاصة تتعلق بحيواتهم الاجتماعية والشخصية.. ومر أن بعض المحاربين كانوا تحملوا بنسائهم، وأن أكثرهم استصحابا لنسائهم يوم القادسية كانوا بجيلة والنخع، فكان في النخع سبعمائة امرأة، وفي بجيلة ألف منهن، ولم تستطع أهوال الحرب أن توقف مصاهرة أحياء العرب لهاتين القبيلتين فاستوعبوهن؛ ولذا سميت النخع وبجيلة بأختان العرب أو بأصهارهم . وكانت "أروى" بنة عامر الهلالية النخعية قد تقدم لخطبتها ثلاثة من المجاهدين، هم: بكير بن عبد الله الليثي، وعتبة بن فرقد السلمي، وسماك بن خراشة الأنصاري، وكانت أختها تحت القعقاع بن عمرو، فاستشارته أيهم جدير بها؟ فكان جوابه شعرًا يقول فيه:
فإن كنت حاولت الدراهم فانكحي ... سماكًا أخ الأنصار أو ابن فرقد
وإن كنت حاولت الطعان فيممي ... بكيرًا إذا ما الخيل جالت عن الردي
وكلهم في ذروة المجد نازل ... فشأنكم إن البيان عن الغد
وفتح المسلمون المدائن الدنيا على شاطئ دجلة الغربي، وكان عليهم أن يعبروا النهر إلى المدائن القصوى، بالشاطئ الشرقي، واستطاعوا بمعاونة بعض أهل البلاد أن يخوضوا مخاضة في سرعة أذهلت أهل المدائن، ففوجئوا بالمسلمين دون أن يروا سفينا. وكان للرجاز شأن كبير في تشجيع المجاهدين على عبور دجلة؛ إذ وقف نفر منهم على الشاطئ الغربي يدفعونهم ويبشرونهم ويذكرونهم بالجزاء والثواب، يقول مالك بن عامر بن هانئ وهو أول من عبر دجلة يومئذ:
امضوا فإن البحر بحر مأمور ... والأول القاطع منكم مأجور
قد خاب كسرى وأبوه سابور ... ما تصنعون والحديث مأثور
وكان يزدجرد قد سبق المسلمين وفر إلى حلوان، وغنم المسلمون أمواله وخزائته وجواهره، فكانت غنائمهم في ذلك اليوم لا تحصى، مما أسال ألسنة الشعراء في وصفها، يقول أبو بجيد نافع بن الأسود:
وأسلنا على المدائن خيلا ... بحرها مثل برهن أريضا
فانتشلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولوا وحاض منا جريضا
وطارد المسلمون في هذا اليوم بغلا كان محملًا بجواهر كسرى ومخصصاته من حلي ودروع فألجئوه إلى الماء، وأخرجه زهرة بن حويه وهو يرتجز قائلًا:
فدا لقومي اليوم أخوالي وأعمامي ... هم كرهوا بالنهر خذلاني وإسلامي
هم فلجوا بالبغل في الخضام ... بكل قطاع شئون الهام
وصرعوا الفرس على الآكام ... كأنهم نعم من الأنعام
وبعد فتح المدائن مصرت الكوفة والبصرة، وصارتا مركزين حربيين، أنيط بهما فتح الجناح الشرقي في هذا الميدان، وصار لكل منهما جند خاص، وقد أشار إلى ذلك عبدة بن الطبيب فأسماها كوفة الجند في قوله:
إن التي وضعت بيتًا مهاجرة ... بكوفة الجند قد غالت بها غول
وكان من أول مجهودات هذين المعسكرين إخضاع الجزيرة التي كانت بمثابة قاعدة حربية لحلفاء الروم من نصارى العرب، فنفس ذلك عن المجاهدين في الشام، وقد أشار إلى هذا عياض بن غنم فقال:
من مبلغ الأقوام أن جموعنا ... حوت الجزيرة يوم ذات زحام
إن الأعزة والأكارم معشر ... فضوا الجزيرة عن فراخ الهام
جمعوا الجزيرة والغياث فنفسوا ... عمن بحمص غيابة القدام
غلبوا الملوك على الجزيرة فانتهوا ... من غزو من يأوي بلاد الشام
وبفتح الجزيرة استتب للمسلمين أمر العراق.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)