دمع الأراجيح
إلى: شهداء الكرادة
- كيف أفكّ طلاسم لغة الرماد وأستدلُّ عليك؟.
أعزف لحن الدعاء صامتاً، مرعوباً حدّ الثمالة، أسير بخطى حثيثة نحو الموت، نحو الفجيعة، أحرم لمناسك العويل في حضرة الجحيم ورائحة شواء أشلاء الموتى، في حضرة جثث متفحّمة، بلا ملامح، وأخرى متشابهة، تشكّلت من لحم متناثر؛ فكان لها طعم واحد، طعم الموت لا غيره:
- أيُّهم أنت، يا ولدي؟، من يدلّني عليك.
في تلك الليلة الغاصة بالمسرات، الباذخة بالطيب والصفاء، كانت الأضواء تتراقص في حلّة من الألوان البرّاقة، ممزوجة بفرح الطفولة، محفوفة بنجوم حالمة، وصبايا مجدولات بالغنج، الأشياء تنساب في فرح، الناس تمتطي أهازيج العيد، ثملة بالأماني، الأطفال تحدّق في مرايا الأراجيح، تلوّح لهم بذراع من سرور عند طرف الزقاق، مصفوفة بين جذوع النخيل، واحدة قرب الأخرى، يغرد الأمل على حبال وصلها كبلبل فتّان:
- بابا، متى تأخذني لتلك الأراجيح؟
- عند مطلع العيد، سنكون هناك.
أمرر أصابعي على وجه الكون، أتذكر وجهك، عينيك المفعمتين بالنور، يا لهما من عينين! حينَ تبسمان في وجه المساء، تزهر الأقمار في السماء، وتضيء كنجمة بعيدة في ليالينا الموحشة؛ فجأة يغيب مشهد بهجتنا على أعتاب صوت الناعي؛ فنصحو على عزف جنائزي مترع بالوحشية، يخفق قلبي لمطلع تلك الليلة، لم يكن فجراً، كان فجيعة معتّقة بالجحيم، منذراً بقيامة جديدة؛ تكشف لنا عتمتها، وغزل حاكته عناكب حمالة الحطب، ليلة مزيّنة بالخداع، تحتطب عريها، تضرم النار في وجه الجمال، تشوّه معالم البراءة والنقاء؛ يبدو هذا الليل مخادعاً، يتحايل علينا، كي يوسمنا بالحزن الأبدي؛ يحاصرني الذهول من كلّ صوب، يرتديني الجنون معطفاً بالياً، يريق دماءنا على دكّة التكبير؛ لماذا نموت، وتسرق الأحلام من عيون أطفالنا؟
- أيُّهم أنت، يا ولدي؟، هذا.. لا، هذا، بل هذا...من يدلّني عليه.
يهزّه صوت خفي:
- للجثث المتفحّمة رائحة واحدة، لا يعرفها إلّا الأمهات.
الأمهات يفترشن عباءة الذهول، يتوضّأنَ ببقايا رماد، يرهفن السمع لصدى صرخة مشروخة، ترددها حيطان متّشحة بالسخام، لأنين طويل، لزفرة قتيل، ينزل بوح خفي من نافذة السماء، النسوة يحدّقن في الجثث المتفحّمة دون أن يطرف لهن رمش، يأخذن قبضة من أديم الرفات، تخفق القلوب، تشهق برائحة القماط وعبق الكركرات، الأمهات يحتمين بصوت المسحراتي، يتدثّرن بالسواد؛ فتراني مجنوناً يلوك شفاه الخيبة، أغرق في بحر الغياب، أحمل ما تبقّى من روحي المتفحّمة، أركض حافياً في الشوارع، أتشكّل طقساً ملتاعاً بكامل الفجيعة؛ فتتوارى الضحكات، التهاني، الحلوى، الدمى، الملابس الجديدة، العيديات، خلف ظلال موتٍ شاخصٍ على رصيف العيد، بينما الأراجيح وحدها ظلّت باكية، تهرق دمعها، تنشد النواح حتى مطلع القيامة.