أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: ذات غربة 3

  1. #1
    الصورة الرمزية مامون احمد مصطفى أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2016
    المشاركات : 60
    المواضيع : 35
    الردود : 60
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي ذات غربة 3

    ذات غربة
    "3"

    تخطينا الوطن، والوطن المزعوم، ارست الطائرة أنفاسها في مطار ميلانو، كانت ساعات، وعلينا ان نصعد لامتطاء السحب وصولا الى مدريد، وصلنا، ارض ذكرتنا بالاسى وثقل الدجى المغلف لقلوبنا بعد ان بصقتنا اوطاننا، هنا كان اجداد، يتشابهون في الوجوه مع اهل مكة والمدينة ودمشق وبغداد والرباط والقيراوان، وقفت امام الجدران العالية، والقصور الشاهقة، والمآذن الصاخبة في العلو والارتفاع، احسست خطوات المعتمد بن عباد وهو يرقص خوفا وهلعا من خطوات ابن تاشفين، ادركت من الوهلة العظمة والخسوء، عظمة الوحدة وخسوء الفرقة، كان هنا يوما ملوك، ارتضوا لأنفسهم ان يكونوا ملوك الطوائف، فزالوا وزالت طوائفهم.

    تحت المآذن بكيت وانتحبت، وكان حقا علي ولي ان ابكي وانتحب حسرة على مئذنة لا تملك من رجاء الصدح بآذان يذكرنا ببلال بن رباح رضي الله عنه وارضاه.

    حملتنا الغيوم مرة أخرى، وهبطنا في مطار أوسلو، ومن هناك الى شرطتها، قلنا لهم باننا قدمنا طلبا للأمن والأمان، فمنحونا ما طلبنا وكل ما يتعلق به.

    وبدأت الرحلة.
    رحلة الاغتراب المفضي الى الضياع والهزيمة والخروج من الذات، رحلة التناقضات والاختلافات والفزع والمفاجأة والدوران في دوائر من الهلام تدور هي في دوائر من مجهول وغامض.

    وكان علينا، ان نلتقي اول ما نلتقي مع الناس. الذين أتوا من كل حدب وصوب، من كل فج وواد، طالبين كما عرفنا فيما بعد، أشياء لا تتعلق بالرزق او الامن والأمان.

    وكان على اللقاء هذا، الفوضوي الشتات والاجتماع، ان يكون رغم انوفنا يعج بالازدحام والتناقضات والاختلافات والمتفرقات، ازدحام يثقل العقل ويكدس المشاعر في بوتقة جديدة العهد في ملامسة التضاد، بين ثقافة وثقافة، وبين حضارة وحضارة، وبين عادات وتقاليد وعادات وتقاليد، لم تكن الرجرجات والخضخضات هي التي تظهر الصدمة، وانما كانت النفوس ذاتها تبعث أسباب كل ما ينتج عن ذلك، لتطفو على السطح، أشياء وأشياء، تقود الى انعقاد الدهشة وتمحور الانشداه.

    هنا، عرفنا كيف يتبرأ المسلم من دينه، ليس بأمر دولة، او شرط للحصول على لجوء، هنا أناس جاءوا وهم يحملون غرائزهم، كما الدود والخنازير والكلاب، فتراهم وهم يتفرقون بين دنيئة ودنيئة، وبين انحطاط وانحطاط، وقلة كرامة، وانعدام عزة نفس. حملوا انفسهم من الأوطان، من حضن الوالدين وظل الصنوبر ورائحة الياسمين، لا تدفعهم حسرة او غصة، وحين وصلوا، بذات اليوم واللحظة، تحولوا الى مهرجين بارعين امام من منحوهم اللجوء، كانوا سعادينا تتقن فن اجتذاب عين لا تستطيع أخطاء كم الذل والهوان والعبودية التي تقدم من اجل فقط لفت انظار امرأة تجاوزت كل ما يمكن ان يقرنها بوصف امرأة قادرة على اجتذاب نظر غوريلا او بابون، وفي المقابل كانوا يتنصلون من اصولهم، من جذورهم، تنصل الحياة من الموت، وفي لحظات يشهرون انيابهم القاسية المشحوذة، المغذية بانتقام الذات من ذاتها، ليغرسوها بما تحمل من سم وزعاف في أبناء وطنهم ودينهم، وكأن تغذية السم واجب مقدس.

    هنا أيضا، عرفنا عن قرب ودون الحاجة الى مجهر او مكبر، معنى المثل الفلسطيني الذي ردده الأجداد واجداد الاجداد، " ما أكذب من شاب تغرب الا ختيار ماتت اجياله". ومعناه بلغتنا التي نكتبها، ليس هناك اكذب من شاب تَغًرب، الا عجوز تبقى في الحياة بعد ان مات الجيل الذي يعرف ماضيه. فما اقتربنا من مجلس الا وسمعنا من يتحدث انه حين ترك وطنه، لم يتركه لحاجة او فاقة، لأنه حين غادر قدم ومعه مبلغ من المال قادر على ان يمده بالبقاء في الوطن لأعوام طويلة، ولم يدرك وهو يتحدث بان الشؤون الاجتماعية في البلد الذي هو فيه هي من تمنحه فتات الفتات الى اللحظة التي يتم التحقق فيها من اهليته لامتلاك اللجوء ام لا، وهناك من قال بانه ترك الوطن، لان الوطن لم يدرك ما فيه من طاقات وقدرات وخبرات ومعجزات تستطيع ان تصحح مسار الوطن والمواطنين، في حين انه لم يدرك بان لهثه فقط خلف فتاة تعفن الخمر في فمها وملأ البول سروالها وهي تتنقل بين احتساء الخمر والحمام، هو تنقل العاجز الوضيع عن الاقتران بالعجز والوضاعة لانهما يرفضان انتسابه اليهما تعففا من انهيار مدلولهما.

    وهناك أيضا، وهو الأخطر والأكثر سمية، من وجد نفسه يملك قليلا من قدرة التحدث، وحبوا في امساك القلم، فنظر الى ذاته فعرف انها ذات خاوية فارغة، وتلمس قدراته فادرك يقينا بانه لا يملك من امر غروره وغرور ذاته أي مقوم من مقومات ما ظن واعتقد، فلم يلجأ الى الهدوء والركون والاعتراف بقيمة نفسه وما يملك من قدرات، فنظر كثعلب، رأى ان الالتصاق بمن يطلبون منه التنازل عن ذاته وتكوينه وكرامته ملجأ يمكن اللجوء اليه، فاندفع وهو يعتقد، بانه صاحب امره وقائد شخصيته، نحوهم، وبأسلوب عصري،، استقبلوه ليقدم فروض العبودية وطقوس الولاء، وكان كلما قدم فرضا كلما رفعوه درجة، وكلما مارس طقسا انزلوه درجة، ليبقى مراوحا بين الصعود والنزول، ويبقى في دائرة تقديم الطاعة والعبودية وهو يلهث لهاث كلب احرقته الشمس والهبته المسافات الطويلة.

    ورأينا أيضا، من باع ذاته في سوق مفتوحة، امام الملأ وعلى اعين المارة، وحين عوتب قال بفم يكاد يتفجر من امتلاءه في العهر، بان العتاب يأتي من فم العجزة، ولو تمكنتم من ممارسة ما مارست من بيع لذاتي ووطني وكرامتي ونخوتي وشرفي لما ترددتم في ذلك، والغريب ان مثل هؤلاء وصلوا الى مراتب يمكن من خلالها التأثير في قرارات أوضاع ودول وثورات واوطان.

    وكان علينا وسط هذا الازدحام، ان ننظر الى اليمين واليسار، الى الأعلى والاسفل، الى الامام والخلف، حتى نستطيع ان نأخذ نفسا سريعا من تلاطم الموجات الناتجة عن الزلازل، وكان علينا أحيانا، رغما عنا، وبسبب تشابك المعطيات والحياة ان نتعامل مع مثل هؤلاء في ظروف كثيرة، وحين كنا نضطر الى ذلك، كانت النفوس في ذواتنا تتأور وتتلظى، لكننا لم نملك شيئا لنفعل، او قرارا لنتخذ، ليس لعجز فينا، بل لما يفرضه المجتمع من تداخلات وتشابكات تغطى بالقانون وطبيعة الحياة في الغربة.

    هنا، أدركنا أيضا قيمة المثل الذي ردده الأجداد واجداد الأجداد،" من خرج داره بنقل مقداره" وفي لغتنا التي نكتب يكون المعنى، من خرج من داره – أي وطنه وارضه – يقل قدره وتقل قيمته. وهو عين الصواب وبؤرة اليقين وعين المطلق، لان الوطن الذي عشت فيه، يعرفك وتعرفه، معرفة العادات والقيم والتقاليد والأعراف، يعرفك معرفة الدين والإسلام والسنة، يعرفك وتعرفه معرفة التفحص والتنقيب وسبر الاغوار، بل ويزيد على ذلك انه يمنحك وفق كل تلك المعارف ان تختار وتحدد بشكل قاطع وثابت مع من ستتعامل ومع من ستفصم العرى، بل ويمكنك هناك ان ترفع ذاتك عن ملامسة انفاس من يمكن ان يكونوا حملا او ثقلا عليك.

    ولكن، وقبل الانتقال الى موضوع اخر ودلالة أخرى، احب أن أؤكد، وربما استعيد التأكيد بدلالة قادمة على خير متفجر في الغربة التي اعيشها واتنسمها، فاجد هواءها جافا جارحا، التأكيد على شعب رايته قادما من الجوع، بل من قاع الجوع، واصرارا وتأكيدا ازيد من الجوع الذي يمسك بالأحشاء لتخز الروح فتفرغها عبر عذاب طويل يستمر لأيام وربما لأسابيع من الجسد الذي لو امسكته قبل الموت جوعا وبعده لتهشم بين يديك كقشرة لحاء تكالبت عليها الفصول لتحولها الى هشيم ونثار لا يمسك ولا يرى، اهل الخير والبركة، اهل القرآن الذي كان يخالط الجوع والعذاب والموت والتلظي مخالطة الصديق والشفيع، اهل الصومال، ذوو البشرة المغطسة بالسواد، والقلوب المنقوعة بالفطرة والبراءة والنقاء والبياض، أولئك الموزعين بين سمرة لطيفة وسواد فاحم، وجوع اجهز على الالاف منهم، رايتهم هنا، في المساجد شبانا وشيبا، يجلسون يتدارسون القرآن المحفوظ في صدورهم بالساعات حتى لا يفلت من بين أيديهم، ورايتهم وهم يبتسمون ابتسامة تكاد ترقص الأنهر سعادة وهم ينظفون المساجد ويؤسسون مساجد، رايتهم وهم يبحثون عن بعضهم بعضا، كي يتكاتفوا، فيسند قويهم ضعيفهم، رايتهم وهم مفجوعين من العرب الذين كانوا يوما يتمسحون بهم ظنا منهم بانهم يحملون البركة. ورأيت الدهشة التي تنعقد كسحابة مثقلة بالضباب والتشوش على تقاسيمهم وهم يتابعون تنصل العرب من ذاتهم المسلمة الخلاقة.

    فانعطفت نحو الغرب محاولا لَمً الصورة، فوجدت الغرب يشكل خطرا فعليا على الإسلام والمسلمين، لكنه الخطر الطبيعي ممن له ايمان واعتقاد مغاير لاعتقاد المسلم وايمانه، ومن الدعاية الاعلانية الوحشية التي تشن على الإسلام كرسالة بصورة مشوهة مدروسة، فادركت وبعد سنوات طويلة، بان الشعوب الأوربية لا تحمل فهما للإسلام ورسالته الا من خلال تلك الدعاية، فان خضعوا لنقاش جاد، ممنطق وهادئ، فانهم وان رفضوا القبول والتسليم بما يقدم لهم من صورة حقيقية عن الإسلام، يظلوا مدركين بان هناك تفسيرا وصورة أخرى غير التي تقدم لهم من وسائل الدعاية والصحافة، فيصبحوا على اقل تقدير متحفظين مع المسلم، بدليل انهم يغيروا انتقاء المفردات التعصبية التي كانوا يستخدمونها قبل الخضوع للنقاش.

    وهنا تبرز المشكلة الأكثر تأثيرا، وهي المسلم ذاته الذي يعيش بالغرب، فهو منزوع الشخصية الى درجة التشظي والتفتت، وهو أيضا مبهور بما يقدم الغرب من صور للحرية التي يريدها هو كشخص منزوع من ذاته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك الفئة التي تبحث عن الشهرة والظهور عن طريق ممارسة الانسياق مع تطلعات الفئة التي تقدم الصورة الوحشية عن الإسلام، وهناك فئة الرويبضة الذين ظنوا انفسهم قادرين على حمل القلم والحديث عبر الشاشات، فقدمهم الإعلام العربي ذاته، واعلام دول أخرى، والغرب، كمتحدثين عن الإسلام وقضايا الأوطان والعروبة، فقدموا رؤيتهم القاصرة عن فهم شيء، وساندهم الإعلان بذلك، فاصبحوا امام الناس وكأنهم يدركون ويعقلون، وقد تحدثت الى احدهم مرة، وطلبت منه فقط ان يشرح لي مفهوم الجهاد في الإسلام، فلم يجد غير السيف يقترن بهذا المفهوم، فطلبت منه فقط ان يخبرني عن تفسير قوله جل شانه بالخنس والجواري الكنس، فعجز، فتماديت وطلبت منه ان يفسر لي معنى كلمة وقب، فعجز، فتماديت اكثر وطلبت منه ان يقول لي معنى الابتر، فعجز أيضا، فانتقلت به الى الحديث وطلبت منه ان يقرأ لي حديث قدسي واحد، ليس بنصه الكامل ومحتواه الكامل، ولكن بصيغة تجعله يأتي بجملة واحدة كما هي حرفيا في الحديث، ففشل. وبعد أيام وجدته على احدى الشاشات يناقش فكرة الإسلام والمسلمين، ويتنطع الى العلماء تنطع الجاهل امام المعرفة.

    مثل هذا كثر، وهم يظنون أنفسهم شيئا، ويظنهم الناس شيئا، بسبب انحطاط العلم والمعرفة ليس فقط عند من مثله، بل عند المتلقي الذي يدور في رويبضة هؤلاء دون ان يمتلك القدرة على الفصل بين ما هو ناتج عن معرفة او ما هو ناتج عن بهلوانية.

    وليس هذا ما يعنيني كثيرا، ولكن حقيقة واحدة من هذه الغربة احب نقلها، وان كان في النقل حسرة، وفي الاحرف لوعة وعذاب، وفي الجمل حزن وكآبة، وهي ان المسلمين بالغرب وفي الأوطان الإسلامية – الا من رحم ربي – هم من يتحملون الوزر الأكبر في تشويه الإسلام، بما يحملون من مصالح فردية ضيقة، او مصالح حزبية لا تتعدى سم الابرة، وهم المتفانون عن سبق إصرار وترصد، من اجل إرضاء الغرب، بحكوماته واحزابه، ومن اجل إرضاء امرأة اضناها الجفاف وارهقها الخريف المتمكن منها، تراهم او تراه يستبسل في سكب كرامته وماء وجهه امعانا واسرافا، دون ان يدير رأسه ليرى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ودون ان يتكلف التفاتة نحو الخلفاء والتابعين وتابعي التابعين، ودون ان يلحظ او ان يحاول ان يلحظ من هم في عصرنا يقدمون كل ما يملكون من اجل اعلاء راية من رايات الدين، او شعيرة من شعائره.

    لم يكلفوا أنفسهم ان ينظروا الى الصومالي والافريقي القادم من ربق العبودية التي أنهكت أجيال ممتدة من أجيال اجداده، ليفترش الرصيف ويصلي صلاة حتى لا تفوته وسط زحام عاصمة غربية او مدينة مكتظة، ودون ان يتنبهوا لشباب خرجوا من بين انياب الموت جوعا ليصلوا هنا وهم يحملون القرآن في صدورهم، ويتحلقوا حلقات لساعات وهم يسمعون القرآن لبعضهم حتى لا تضيع الأمانة التي في صدورهم.

    على المسلمين أولا، ان يطالبوا انفسهم، ليس الاعتزاز فقط بتاريخهم، بل باحترام ذواتهم، والتحقق من شخصيتهم كم تبقى فيها من نماء وبناء، عليهم ان يدركوا حقيقة يدركها الحيوان قبل الانسان، بان ما هو ملك يستحق الدفاع عنه بكل ما تملك من قوى وطاقات، فالدجاجة تدافع عن حقها وما هو ملكها، النمل مثال لا يعلوه مثال في الدفاع عن نفسه وشخصيته وملكه وتاريخه، حتى انه لا يترك عمله والنيران تلفح جسده، بل يظل يعمل وهو يحترق حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، والنحل مثل أيضا، فهو يدرك ان اللسعة تكلفه حياته، لكنه ينقض دفاعا عن شرفه وعرضه وشخصيته وملكه ليسلع مغادرا الحياة دون ادنى ندم او حسرة على المغادرة، بل هي مغادرة الشرف الرفيع الذي لا يصل اليه قلة من البشر، لكن النمل والنحل يصلون اليه يوميا بمحض الاختيار والرغبة والاندفاع بالمئات بل الالاف.

    فلا غرو ابدا ان نقف اما سورتين في الكتاب المكنون، واحدة باسم النمل وأخرى باسم النحل.

    علينا ان نتعلم ان بناء الشخصية التي تخرج مواد تأسيسها من المبدأ، يمكنها ان تقدم صورة فاتنة ليس للغير فقط، وانما للتاريخ نفسه، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه وارضاه، انتقل من معاقر للخمر، بسبب التأسيس المبدئي الى مصباح يفوق قوة وسطوع الشمس، فارغم التاريخ والتأريخ للانصياع الى المبدأ الذي تكون من عدالة السماء، وبلال ابن رباح، لم يختلف كثيرا عن ذلك، تمرد على العبودية والتقاليد والأعراف والسطوة والقوة والمنعة، حين تغلغل المبدأ بأعماقه، فهزم مكة وكل سادتها، بدأب النمل وإصرار النحل المستمدة من المبدأ، وكانت قدم بن مسعود اثقل من جبل احد عند الله، بدفع المبدأ لتلك القدم لتكون علامة من علامات التاريخ الخالد الذي سيدخل الازل بإرادة الله جل شأنه.

    كم كانت الأوطان علينا عسيرة، وكم وجدنا الغربة محكمة العسر والضيق حين التقينا بذاوتنا التي تنكر ذواتها هنا، وكم فرحت وتشققت فرحا حين لامست يد صومالي او افريقي فأحسست قوتها ومتانتها واعتدادها بذاتها بعد ان خرجت من موت كان الجوع يحكم قبضته عليها، كم شممت رائحة اليد المعطرة بالمصحف محمولا عليها وفي الصدور.

    وكم تمنيت لو أصل او اشعر بوصولي الى نقطة اقتراب مع هؤلاء الذين نهضوا من الموت وهم يتدارسون القرآن اثناء شعورهم بتغلغله فيهم، ليبقوا أقوياء الشخصية متناء الذات، في رخاء تحقق بعد عدم.
    كانوا سابقا يتمسحون بقادم من القدس او من مكة او المدينة، ظنا بانه يحمل بركة يريدون ان تصل اليهم، تمسح فطرة مكتظة بالإيمان، وتمسح براءة لا يعرف كثيرا بين حلال وحرام ومستحب وغير مستحب، فهل علينا الان ان نقمع تمسحهم بالفظاظة كي نعلمهم الفرق بين حلال وحرام، ام علينا ان نرفق بانفسنا كعرب وأصحاب رسالة خصنا الله باختيار لغتنا لغة القرآن، كي يتعلموا وحدهم وبفطنة الايمان والاعتقاد الفرق بين الحلال والحرام، وكي نتعلم نحن من جوعهم المميت معنى الشخصية التي ثبتت وهي في طريق الموت على المواصلة في حفظ الشخصية المتصلة بالقرآن، وثبتت على ذات الشخصية حين من الله عليها بالرخاء وسعة الحال؟

    هنا نهاية دروس الغربة، التي تعلمت، ولو كان الامام الشافعي رضي الله عنه وارضاه حيا، لقلت له: هناك في الغربة غير الفوائد الخمس التي احصيت، هناك حسرات وتشظيات وانكسارات ومآزق، هناك قهر وكمد وضنك وكبد، هناك أيضا ما يجعلنا نغذي الامل بمثل أولئك الذين حاربوا الموت بالدعاء والثبات، وما زالوا يعلموننا معنى الثبات على الشخصية التي تربى بين انامل المبدأ والعقيدة بكل ما فيها من عدل وعدالة.


    مأمون احمد مصطفى
    النرويج – 16-03-2014

  2. #2
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Apr 2013
    الدولة : مصر
    المشاركات : 362
    المواضيع : 47
    الردود : 362
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    طرح جميل ومقصد أجمــــل . صيغ بأسلوب قصصي بارع، زاخر بأسلوب أدبي ممتع ..
    لا أدري لِمَ يترك خاليا من القراء حتى وقتنا هذا؟ لابد أن الداعي للهروب هو زيادة الحجم.
    شكرا لك أخي الأديب/ مأمون . وافر سلامي

  3. #3
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,131
    المواضيع : 318
    الردود : 21131
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    نظرة شمولية رائعة للغربة والمغتربين ـ والإسلام والمتأسلمين، والمدعين
    ومن باعوا أنفسهم وأوطانهم وكرامتهم وشرفهم ليقدموا فروض العبودية وطقوس الولاء..
    رائعة نثريتك وبديعة انزيحات اللفظة فيها وماتع أسلوبها وعذبة أحاسيسها
    بوح مؤلم بحس رهيف ويراع مكلوم في نص صادق وحاد ومؤلم بحقيقته
    وحرف فاخر وفكر محلق يتهادى في سماء الجمال حسا وإبداعا.
    نبض جميل بلغة راقية عذبة شاعرية تلج القلب فورا
    سماء احتشد الحزن في أفقها فامطر حرفا اخضر له عشب البلاغة
    سلم الفكر والقلب والقلم
    ولك تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. ذات غربة 2
    بواسطة مامون احمد مصطفى في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 28-12-2016, 05:22 PM
  2. ذات غربة 1
    بواسطة مامون احمد مصطفى في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 20-12-2016, 07:45 PM
  3. ذات يوم .. ذات حلم
    بواسطة راضي الضميري في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 29
    آخر مشاركة: 19-02-2010, 07:45 PM
  4. غربة في غربة
    بواسطة عمر الشادي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 23-04-2005, 08:59 AM
  5. غربة طفل
    بواسطة الاسطورة في المنتدى مَدْرَسَةُ الوَاحَةِ الأَدَبِيَّةِ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 15-05-2003, 09:34 PM