خرج وابتعد عن زحمة المدينة , وراح يبحث من نافذة السيّارة عن مكان يستطيع أن يخلو فيه بنفسه قليلا , وصل به القلق الى حدّ لا يطاق , ارتفع الضّغط ايضا وانخفضت نسبة السّكر , وأحسّ بالمرارة في حلقه , ربّما هذا الشّارع المنعطف عن الطّريق يفي بالغرض , بدون مخرج , وهذا ماكان يبحث عنه , دخله وسار حتى وصل الجدار المقابل الّذي يغلقه وركن أمامه , ترك الأغنية الصّاخبة عل حالها وأشعل سيجارة , زفر بعمق وأخرج دخانا كثيفا من فمه لكنّه لم يخرج شيئا من صدره , فما تراكم في هذه السّنين الأخيرة وصل عمق بحر الظلمات , وهبهات أن يخرج أو يطفو على السّطح , حذّره الطّبيب آخر مرّة بشدّة من السّجائر , وكان قد توقّف عنها , ومازالت يعيده اليها القلق والهموم , واستوطنت في جسمه وبرغم شبابه كل أمراض العصر المزمنة , من سكر وارتفاع الضّغط وآلام المعدّة والمفاصل , صباح ثقيل جدا هذا الّذي ساقه الى هنا , خرج من بيته غاضبا وقد أسمع زوجته أقبح أنواع السّباب والشّتائم , ضرب ابنه الصّغير وعنّف أخاه بشدّة قب أن يوصلهما الى المدرسة , ودخل في عراك مع مستخدميه في ورشة المقاولات الّتي يملكها ويديرها , وختمتها حماته بشجار في الهاتف وهو في عز زحمة السّيارات وسط المدينة , ثم أسمعه أبوه كلمات قاسية بعد رفضه لتلبية طلبه في خدمة بسيطة وخرج من سيّارته غاضبا , ثم شتم أمّه في الهاتف عندما اتّصلت به تكلّمه عن ما حصل مع أبيه , في طريقه اتّصل ببعض الأصدقاء ولم يجبه أحد , اثنان لم يردّا وآخر قال له صراحة : أنت لا تكلّمني الاّ في مصالحك لكنّي عندما أحتاجك لا أجدك , الصّراحة راحة كما يقولون , ليته قالها من زمان وارتاح , وليته كان يفهم , صاحبنا لا ينقصه أصدقاءا , هو يريد خدماً , لقد حوّل أصدقاء الطّفولة الثّلاثة الى أقمار تدور في فلكه , تمد الضّوء لكوكبه , بلا مقابل , يريد أن يحكم سيطرته عليهم , ويجب أن لا يفعلون شيئا في حياتهم , ليفعل هو كل شيء , ويظل هو دوما في المقدّمة , بسيارته هذه مع أنّ ثمنها ليس باهضا , ومؤسسة المقاولات , ومنزله والحديقة التّابعة له , الّذي بناه على أطراف المدينة , وزوجته وطفليه , وصل إلى كل ما يمكن أن يصل اليه شابا في مثل سنّه , في هذه البلاد وفي هذه السّنين وظروفها الصّعبة , لكنّه قدّم عمره وحياته كلّها ثمنا لذلك , بعد نجاحه في شهادة البكالوريا دخل العسكرية بعد اجتيازه امتحان الظبّاط , واختار الطّريق الّذي يضمن مستقبلا يصعب أو يستحيل تحقيقه بمسلك الشهادة والوظيفة , ومالّذي سيتغيّر بالنّسبة له , فحياته منذ أن وُلد كلّها عسكريّة , أبوه حضرة الظّابط وبيته الثّكنة , تربّى بالرّعب , الأمر والنّهي فقط , ولم يكن له يوما رأيا أو اختيارا , فكبّر مهزوز الثّقة في نفسه , لم يتزوّج عن حب , لأنّه لا يعرف أصلا معنى الحب , ظروف عمله كانت صعبة زمن الإرهاب , خرج من معركة الحياة بأمراض جسميّة مزمنة , ونفسيّة وربّما عقليّة أيضا , وراح ينتقم من الجميع , يفرغ شحنات القسوة على كل من يتعامل مع , ويمارس معه السلطويّة والتجبّر , الأغنية الصّاخبة المرتفعة من مذياع السّيّارة لم توقف تسلسل الخواطر الّتي تجول في مخيّلته , قد تكون قد مضت ساعات الآن منذ أن ركن سيّارته ودخل محطّة استراحته الّتي اختارها في زحمة مسيرة حياته , هنا في هذا المكان النّائي في أقاصي المدينة , في هذه الأثناء كان عمّال إحدى الورشات منهمكون في بناء جدار ضخم يغلق الشّارع نهائيا من الجهة الّتي ركن في السّيارة ومكث فيها , أنهى العمّال عملهم وانصرفوا قبل حلول الظّلام , أطفأ آخر سيجارة من آخر علبة , وخرج خلفيّا حتى يصل لنهاية الشّارع ويسلك طريق العودة , لكنّه تفاجأ بجدار ضخم قد أغلق عليه الشّارع .