( انزلاق غضروفي حاد )
قصة / محمد محمود شعبان
================
عدتُ اليوم للهيئة بعد شهر غياب، كان الاستقبال حارا، والاحتفاء بمسح الجوخ على أعلى مستوى، سكرتير المكتب أحضر لي ملفا محشوا، وبدأ دولاب المتاعب في الدوران، مائة طلب سلفة على المرتب، مائة وخمسون شكوى وأكيد معظمها كيدي، سبعون طلب إجازة مرضية، تسعة عشر طلب نقل، تظلمات، مخالفات إدارية وقانونية لا عدد لها، هذا كله غير كومة الموظفين والموظفات المنقطعة أمام باب مكتبي لأخذ إذن بساعة وساعتين ومنهم من سيخرج ولن يعود، وفي الليل تظاهرات واعتصامات عند باب النقابة، مع كل ذلك العبث المزمن فلا يتخلف أحد منهم أبدا عن يوم الخامس والعشرين من كل شهر حين صرف الرواتب. ألا يضربون يوما عن أخذ الرواتب؟!. شيء عجيب والله.
( عبد الفتاح السنهوتي ) صديق العمل المقرب عادني أثناء رقدتي وأخبرني أن الهيئة كانت تسير في غيابي أدق من ساعة بيج بن، وحكى لي من الروائع ما جعلني أضحك وأقهقه مع أنني كنت ممنوعا من أقل حركة، شهر كامل مستلق على ظهري بسبب انزلاق غضروفي حاد، كنت شبه مشلول، حتى قضاء حاجتي كان على السرير، يااااااه شهرا صعبا كان ـ لا أرجعه الله ـ، لكن أسلوب عبد الفتاح في الإدارة بالنيابة عني رغم رفضي التام له، جعلني أضحك، أصابتني نوبة ضحك لم أجد لها تفسيرا، وهو يقول:ـ ماذا أفعل يا ( ريّس )؟، أنا أعرف أن أسلوبي في الإدارة لا يريحك، لكن الهيئة من بعد الثورة مبعثرة ولا تجد من يلمها ويسيّرها على الصراط المستقيم. قلت له:ـ وما موضوعاتك الجديدة معهم ـ يا عبد الفتاح ـ؟. ضحك وهو يقول:ـ الكل مُلْتَهٍ ومترقب الموضوع الجديد، الكل يده على قلبه، الرعب يتملك الجميع، مسألة وقت ويخرج القانون من مجلس الشعب، القانون سيجبر كل موظف أن يجعل من عينيه عيونا على الآخرين، ويحسب حسابا دقيقا لكل كلمة وخطوة . ..
تذكرتُ وأنا أتصفح الملف المحشو بمصائب ومشكلات الموظفين أمرا دار بذهني طوال الشهر الماضي لقد فكرت بجدية في تسوية معاشي، أنا لم أعد قادرا على تحمل كل هذا العبء الإداري، وكل هذه المهاترات الروتينية العقيمة، والمتابعات الأمنية المضنية، أنا لم أعد صغيرا ـ يا ناس ـ كما كنت، لقد حاصرتني الشيخوخة وأنا على مشارف الستين، هل سأقضي السنوات الأربع القادمة حتى إحالتي للتقاعد في هذا الهم والضغط يكفي ما لدي من ضغط دم وسكري وعسر هضم وإمساك مزمن. وخشونة المفاصل و. و. و .. أخرجت ورقة بيضاء، وجعلت أكتب طلب معاش مبكر، لكن ومع نهاية آخر حرف كتبته بالطلب، وقبل أن أختم بـ " وتقبلوا فائق الاحترام " تذكرت أمرا عجيبا حدث لي. الانزلاق الغضروفي الحاد كان يغطى أثره القوي على كل هذه الآلام القوية أيضا، وكأنها لم تكن موجودة، وكأنني لم أكن أعانيها أصلا، وعقب انقضاء هذا الشهر عادت تلك الآلام وبقوة كما كانت، كما كنت أشعر بها وأكثر، شيء عجيب حقا، لا شك أن ذلك كان لطفا من الله. لكن التسوية الآن قد تكون فكرة غير صائبة؛ فمعاش التقاعد لن يفي تجهيز زواج ( ولاء ) ابنتي البكرية، ولا مصاريف تعليم ابني ( جلال )، فضلا عن دوائي ودواء ( علية ) زوجتي. لا لا ، ينبغي إرجاء هذا القرار برمته الآن ..
إذن هذا هو وقتك ـ يا عبد الفتاح ـ ، مزقت طلب المعاش المبكر، ألقيته وملف الشكاوى والطلبات في سلة المهملات، أرسلت في طلب عبد الفتاح السنهوتي، سألته أولا:ـ هل كان يأتيك ـ يا صاحبي ـ كل هذا الكم من الأوراق يوميا؟. قال وهو يقهقه بخبث:ـ لا طبعا، وهل أنا أهبل مثلك؟!. سألته ثانيا عن ( مدام بشرى):ـ إلى أين وصل موضوعها؟. قال لي :ـ خالص ـ يا سيدي ـ قرار النقل عندك في الملف، بأمر من الأمن، وأنت وشأنك، وقعه أو لا توقعه أنت حر. قلت :ـ طيب، وبعد هذا، ماذا سنفعل؟، ألا توجد مواضيع أخرى قابلة للـ ( فرقعة )؟. نظر لي بتعجب وكأنه يتعرفني لأول مرة، ثم استطردتُ قائلا بلا تردد :ـ هيا هيا ـ يا عبد الفتاح ـ ابحث لنا عن ( فرقعات ) جديدة.