تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : النصف الآخر



محمد المختار زادني
24-11-2005, 04:30 PM
علموني منذ أربعين موتا وأربعين حياة أنني أتقلد سيفا لابد تشكر الحمائل سيادته، وعلموني الكرامة والشهامة والقناعة، وعلموني الكثير عن حمزة وعن الطائي وعن السموأل وعنترة العبسي...
وأفقت على كيان مشطور إلى شطرين؛ إحدهما أنا، والثاني لايعرف عنه أحد شيئا سوى أنه مطمور وسط زحام الركاب على ظهر سفينة تعوم في المحن نحو مكان ما، بين الشمس والقمر. كم سخرت مني وُريْقاتُ الحنـاء حين لمستها أول مرة ! وكم دغدغت الفراشات الجميلة عصب الفضول في غياهب جهلي، وتطايرت بعشوائية في كل اتجاه، سابحة في عبق العبير الدافق من شفاه زهور الأقحوان و"البابنج" ؛ متحدية خفة جسدي الصغير ! لم أكن أعرف عن نصفي الآخر غير ما وصفت جدتي في أحاجيها المسائية آذ كانت تهدهد خيالي وتثقل جفني المتعبين من شقاوتي طول اليوم... توالت عهود أحلامي ردح موت وردح حياة، وطالت شقاوتي موج البحر على شاطئ "الحوزية" ، وعمق نهر "أم الربيع" تحت أقواس الجسر العتيق . وغير ما مرة غصت باحثا عن ذاك النصف المفقود في قاع النهر أو في قلب موجة عاتية جاءت تتكسر على الصخرة المباركة التي كانت جدتي تلتمس لي منها الصحة والنجاح، فتناثرت ماسات ولآلئ من حولي فملأتْ ذاك الشاطئ ضحكات ساخرة . كنت أقبل التحدي إذ أغادر المدينة قبيل ميلاد الشمس وأعبر الغابة إلى الشاطئ تحت رداء الضباب حينا وتحت همس النجوم أحيانا أخرى؛ كان صوتي يعجب الطيور المتثائبة في أعشاشها إذ كان ينطلق من حلقي المبحوح دون إذن:«أين ياشطّ لياليك النديات الحسان ...» .وكانت ضحكة الشمس الأولى تزدريني وتغير لون خيالاتي، وتؤلّب عليّ اخضرار العشب الناعم تحت ماس الندى اللماح. ولكن الشاطئ كان كريما وحنونا حيث كان يرحب بتفرّدي ويحبّ تزاحم الأحاسيس في صدري، ويحترم إلحاحي ويكتم أسرار بحثي عن نصفي الآخر. ومتى تولّت كآبتي ، كنت أودعه السماح لصوتي بالبكاء : « ...وحين تغيـبـينْ ؛ يغرق قلبيّ في دمعاتـي ...».
وبعد عشرين موت وعشرين حياة، شاخت الأشجار ولم تعد تهرب من يدي الفراشات، ولا عادتْ تسخر مني وريقات الدفلى، أما الحناء فقد غادرت جنبات النهر منذ خبا الفضول في جهلي، منذ غزتْ بنايات المصيف شاطئ "الحوزية" .
أخذتني جناحات الذكرى غداة عشق حارق إلى هناك ، ولم أدر إلا وظل شجرة سروٍ يعانق نصفي بحرارة ويؤذّن في سرب حمام كان يعبر الأفق إلى حيث الغيم يدون يومياته، أن يحط على كتفي . فحام السرب مليا ثم تدنى بلطف وتحلق حول هامتي وبدأت الجناحات تداعب شعري وتظلل كتفي في حنو ذكّرني بدفء حضن جدتي ... شكوت غربتي وتفرّدي وما لاقيت من نصب في البحث عن نصفي الآخر لحمامة لطيفة فسال هديلها:« ...ته في الحقول الخضر كالحلمْ، ته يا جميل..، ته يا جميلُ فكلنا عشاقْ ! ». وذاب صدى النشيد في عرض السكون دون أن أجد نصفي الآخر...

عادل العاني
24-11-2005, 06:20 PM
كم أنت رائع رقيق أخي محمد ...
رغم إني قرأت ما خلف السطور ...
وسأقول لك إن كان نصف منك قد ضاع ...
فالحقيقة اليوم إننا كلنا ضائعون ...
حتى يتسنى لنا ونحضى بحمزة آخر ...
بعنترة آخر
بحاتم آخر
لنصحو ونجد النصفين متحدين ...
بارك الله فيك , ودمت لنا

زاهية
24-11-2005, 06:44 PM
أياً كان الرمز
فقد اكتشفت اليوم كاتباً
نثرياً رائعاً
سلم الفكر واليراع أخي الفاضل المبدع
محمد المختار زادني
:001: :tree:
أختك
:0014:
بنت البحر

عبلة محمد زقزوق
24-11-2005, 07:33 PM
رائع موضوعكم البحث عن الذات ... أو النصف الآخر إن صح القول والمقال .

فمن منا كان قادرا على إيجاد تلك الهوية المفقودة لذاته أو النصف المفقود لتكملة ذاته ؟

والكمال لله وحده

فما زلنا يا أخي نفتقد لهذ الوقت الذي يسمح لنا بالإنصات لهذا الصوت القابع في الأعماق

والذي من خلاله سنستشف بدون شك أغوار ما نحمله من مكنونات صارخة

موجعة ... من طحن كل ما هو مادي ملموس للذات ، ومن الأحساس بالفقر لفقدان الذات

للحس والإحساس ( تبلد الاحساس ) ، وهروب الجمال من أعماقنا ، وتحدينا للثابت والمحال .

فنلتزم الهروب والأستكانة خلف هذا الجدار ... من جهل الذات ... خوفا

ورعبا من هول ما ستتحدث به نفوسنا لحظة هذا التواصل فنستمر فرارا من

لافرار منه ( مواجهة الذات ) ، وكف البحث عن هذا الضال والمفقود لإكتمال تجانس الروح والذات .

فلله درك مع قصص وروايات ؛ جدتك وجدتنا أخي الكريم

أ / محمد المختار زادني

فما زلنا لهذا النبع من قصصها نحيا على أمل الفوارس والفرسان ... في زمن فقد

معنى من معاني الذات .

د. سلطان الحريري
24-11-2005, 07:35 PM
أخي الحبيب محمد المختار زادني:
سعيد بمعانقة حروفك التي أخذتني وباقتدار إلى عالم رحب ، يحسن صاحبه صياغة الواقع حروفا من نور..
لعلنا أيها النقي نبحث عن نصفنا الثاني ، وقد ضعنا في متاهات التقسيم..
حرف جميل استمتعت بمتابعته؛ فدم مبدعا كما أنت

سحر الليالي
24-11-2005, 10:50 PM
أخي محمد مختار :

موضوع رائع وجميل

سلم قلمك

تقبل خالص اعجابي واحترامي وتقديري المحمل بالورد

أسماء حرمة الله
24-11-2005, 11:43 PM
سلام الله عليك ورحمته وبركاته

تحيـة مكتوبة بقطر الندى

الأخ العزيز المبدع محمد،

"""وأفقت على كيان مشطور إلى شطرين؛ (أحدهما) أنا، والثاني لايعرف عنه أحد شيئا سوى أنه مطمور وسط زحام الركاب على ظهر سفينة تعوم في المحن نحو مكان ما، بين الشمس والقمر..
وبعد عشرين (موتا) وعشرين حياة، شاخت الأشجار ولم تعد تهرب من يدي الفراشات، ولا عادتْ تسخر مني وريقات الدفلى، أما الحناء فقد غادرت جنبات النهر منذ خبا الفضول في جهلي، منذ غزتْ بنايات المصيف شاطئ "الحوزية" .
أخذتني جناحات الذكرى غداة عشق حارق إلى هناك ، ولم أدر إلا وظل شجرة سروٍ يعانق نصفي بحرارة ويؤذّن في سرب حمام كان يعبر الأفق إلى حيث الغيم يدون يومياته، أن يحط على كتفي . فحام السرب مليا ثم تدنى بلطف وتحلق حول هامتي وبدأت الجناحات تداعب شعري وتظلل كتفي في حنو ذكّرني بدفء حضن جدتي ... شكوت غربتي وتفرّدي وما لاقيت من نصب في البحث عن نصفي الآخر لحمامة لطيفة فسال هديلها:« ...ته في الحقول الخضر كالحلمْ، ته يا جميل..، ته يا جميلُ فكلنا عشاقْ ! ». وذاب صدى النشيد في عرض السكون دون أن أجد نصفي الآخر...""

رحلتُ مع حروفكَ وأريج الحكايا يلاحقني، يالَروعة ماتكتب!! وياللرقة المكتوبة بمداد الروح!! ربما كُتِبَ علينا أن نظل نبحث عن نصفنا الآخر الذي ضاع في زمنٍ كهذا..زمنٍ غارق في المحن والكروب، ولكن وكما قال عـادل: سنحظى بإذن الله بحمزة آخر وبطائيّ آخر ..والأمـل لن يغيب مهما طال غياب الشمس عن شرفاتنا..ولعلّ الشروقَ يكون قريبـا..فيعود النصف الآخر إلينا من رحلة ضياعه، وصدقني لن يضيع هديل الحمامة التي ناجيتَها أبدا ولن يذوب صداه في عرض السكون..وستكمل الحقول اخضرارها، لِيُورقَ الحلمُ من جديـد..
لاتحرمنا حروفك الرائعة أيها المبدع الرقيق..
لكَ خالصُ تقديري واعتزازي
وألف باقة من الورد والمطـر

محمد المختار زادني
25-11-2005, 03:29 PM
إخوتي الأفاضل

لاأملك إلا أن أنحني أمام تعليقاتكم القيمة
ومهما حاولت الهروب من البوح بالحقيقة
فإنكم تجبرونني بصدقكم وكرمكم أن أقول
ما يخالج دواخل النفس المتعبة التي ماتزال
تتفاعل بين جنبيّ مع المرارات المحيطة بي.

إخوتي ! صدقوا أو كذِّبوا ولكم كل الحق...
قرأت تعليقاتكم بجفنين مغرورقين ! لأني وجدتُ
أخيرا مكانا يحضن أحلامي التي رافقتني طوال
عقود من الحزن. كنت أتمنى أن أجـد ساحـة
لا كذب فيها ، يسودها الصفاء والإخاء والصدق
والوفاء؛ وكل القيم النبيلة المحكيّ عنها في
الأساطير والقصص والتاريخ المكذوب حتى كان
هذا الفضاء بمنتدياته ومنابره حيث الكلمة للأرواح
والعقول النيِّرة والمباضع الجرِّيئة فاستأنست بكم
نفسي وأعدتُ الكرة أترجم ما كان في دواخلي من
بقايا حكمتم عليها أو لها فلا يهمّ مادمت أثق فيما
تعلقون به ... والحقيقة أنكم الآن جزء أكبر من
حياتي بارك الله فيكم جميعا ورزقكم نور البصيرة
وصدق الإحساس وكرم البوح بما قد يهتدي به
الناس إلى القيم الكريمة ...

وبوركت أقلامكم

مع الشكر والتقدير للمبدعة أسماء حرمة الله

د.جمال مرسي
25-11-2005, 04:08 PM
رائع أينما و حيثما كتبت أخي محمد .. زادك الله من علمه و فضله
جعلتنا نفتش معك عن نصفنا الآخر و الذي ندعو الله أن نجده في زحام هذه الحياة
و مشاغلها
دمت بخير و سعادة

للتثبيت

محمد المختار زادني
26-11-2005, 07:05 PM
شكرا جزيلا أستاذنا الفاضل د. جمال

وهذا دليل آخر على جمال ذوقك

ورهافة حسك . . .

تحياتي الخالصة

مع التقدير والاحترام لشخصك الكريم

سيد يوسف
04-12-2005, 10:15 PM
الاخ الحبيب/محمد المختار زادني
سأرد واعقب تعقيبا تلقائيا لكنه يحمل صدق مشاعرى
بارك الله فيك
رائع وموفق باذن الله
سيد يوسف

محمد المختار زادني
10-12-2005, 03:52 PM
الأستاذ سيد يوسف

تحية أخوية

وسأنتظر منك الرد بشوق

أجمل تحياتي