محمد المختار زادني
05-12-2005, 02:53 PM
لم أعثر داخل جيبي إلا على بقايا كسرة خبز كانت أمي تجعلها زادا لسفري الطويل بين أحضان كوخنا الهشيمي ومعمل العجانين! ذلك كان قدري، أن أسافر كل ضحكة شمس أو دمعة سماء حاملا مدونات وقراطيس تعج بقواعد العجن والتشكيل التي كان يمليها على دماغي الفتي اثنان من الموكل إليهم بتشكيل الفخار والطين اللازب في شرايين الصبية من أمثالي... كنت حينها كهلاً لم أتجاوز بعد العشرة أحزان ، أترنم بتجويد المثاني في نغمة "جهاركاه" بتلقائية كُسرتْ عليها كل المقامات الأخرى ماعدا مقام " الصبا " ظل صامدا في وجه الريح المتلاعبة بهامتي، وهي تعصف بمسمعي ومغناي في غيبة المطر الحنون الذي اعتدت أن يجيرني من صفعات الصقيع . وكنت لا أقاوم ذاك الصقيع بسوى قضم جزء من الكسرة بعد أن أدفنها بين دفتي قبر أسناني وحفرة تشكلها يداي المبتلتان عرقا وسذاجة. وكانت الغيمات تتضاحك هزؤا بأحلامي وسخرية من ثوبي حين كان يحتمي بفرائصي في جبن يشبه جبن الفأرة وهي تسرق بقايا الطحين من الجرة القابعة في ناحية تضايق ضيقَ كوخنا. وكلما آن ربيع الأحزان كان سفري يطول جيئة وذهابا بين معمل العجانين وكوخنا ... سبقتني الشمس عشية حزن إلى مخبئها وتخلت عن جسدي بين حنوات الوادي المقفرة، فوجدتُني عرضة لأشباح الغيم وتهامس بنات الجن. لم أكن أفقه ما الحب ولا كان عندي للعشق معنى إلافي طعم رفيقتي الكسرة، وابتسامة أمي الكئيبة بما كان فيها من معاني القناعة. أشعرتني إحدى الجنِّيات بقشعريرة حين لامست شفتاها القفا من رقبتي المثْلجة من الصقيع؛ فركضت جزعا نحو جذع زيتونة تمتد جذورها في أوصال سحابة اعتدت الاحتماء بأغصانها كلما داهمني خوف مقيم أو فرح عابر... أغمضت جفني لأرى مصيري بين حبات المطر المتكاسلة فتناهى لسمعي صوت يزخر بتأوهات الأرواح المفجوعة في صور أمانها وأنين الريح يرتّل ما جاء من تراهات في أسفار الكهنة وأحبار المجوس بنشاز ممضّ أخرجني مني هروبا نحو حضن أمي... لحقت بي قبّرة ضلت طريق عشها واستمهلتني السير كيما نترافق! وفتحتْ باب السّرد تحكي أسرار العصافير المغرورة بعذوبة أناشيدها للزهر حين يتثاءب باسما للندى وقالت... وقالت...، لكن أذني كانت في شغل عن حديثها ؛ كنت أتسمع ضحكات بنات الجن من مشيتي ومن سذاجتي ومن جبني وجبن رفيقتي القُبّرة. صخت لما قالت إحداهن في توعُّدها لي "سترى غدا كيف كِدْتُك!" والتهمتْ الريح كل هامات بنات الجن حين وصلت بي قدماي لمكان قرب الجامع. هناك، حيث بدت حشرات مضيئة تتلألأ كالقناديل في أيدي صغار يستقبلون العيد بإحدى قرى أرض الكنانة. اقتربت أصابعي تنوي اختبار الضوء الأخضر الخافت في جسم دودة كانت تتعشى على زهرة "بابونج" فانتشر الضوء في يدي وغمر كل أطرافي وصدري ووجهي فرأيتني أشيب عاما مع كل نبضة حياة حتى جاوزت المائة حزن . نسيت كوخنا الهشيمي وقريتنا النائمة ... فما عدت أذكر إلا أنني تعلمت كيف أعجنني بمهارة قل بين العجانين لها نظير. وبعد ستة دورات حبلى بالأوجاع ، عدتُ لنفس الحنوات حيث تسكن بنات الجن، أسيرُ وفي يدي قرطاس وقلم من كماليات عصر المرض، وللمقاييس سلاسل مربوطة ببؤرة عيني بينما طرفها الآخر يتلاشى في خطوط المنظور "الكرتيزي" . تفقدت مكان كوخنا الهشيمي فقيل إن الرياح تقاسمت عيدانه وهشيمه منذ أربعة أحزان .كذا قالت النخلة العجوز وهي تتنهد ريح الحسرة وترسم بتكلف ابتسامة على وجه أكلته الأوجاع. ثم قطبت حاجبيها في وجه غصن رمان غضّ هزته نسمة لعوب آن كان يتأهب ليحدثني عن دميته الجميلة التي أهدته إياها القبّرة أثناء زيارتها الماضية للحديقة الغجرية حيث أنجبته أمه العام الفائت... ولما أحس من عمّته عدم رضاها، دسّ في كفي قصاصة ورق خلسة ثنّاها بغمزة خفيفة...جلتُ بنافذة نظري في أرجاء المكان عَلّي أرى بعض آثار الضوء الأخضر الخافت، فارتد بصري حديدا يكاد لايخبرني بشيء مماحولي. ركضت كسابق عهدي بي فما برحت مكاني! فتحت القصاصة أقرؤها فوجدت مكتوبا:" هكذا كِدْتُك ". وتعالت ضحكات ساخرة من كل الأحجار ... وإذا كتابكِ في بهو الدار مفتوح على قصيدة رثاء تئن تحت سحب الكآبة وقد بدت كسرة الخبز يغلفها الفطر المقيت مرمية في ركن تخنقه الرطوبة منذ غادرت الشمس مرآه... تملكني ذعر غريب وأنا أفزع خارج الدار وقد طاوعتني قدماي فما انتبهت إلا متى سمعتك تنادينني في ساحة اللا حزن واللا فرح وفي يدك مهراس زجاجي وقد تدلى رأس الحية نحو كفّك مادّاً لسانا يستكشف به المسحوق العجيب في جوف المهراس! فانتزعتك مما كنت فيه بشهامة الفارس الجسور ... وما كان أدهى أسفي حين وجدتني وإياك نغرق في وادي الجمود إلى حين وأنت تهمسين لي :"أحب أن أموت شوقا وأرفض أن أحيا غرقا". تعالت الضجة لابسة ثوب الصخب الفضفاض فحجبت همسك عن مسمعي ولم أعد أقدر أن أسمع سوى بوح حروفك على شاشة لايبرحها بصري إلا ليعود فيبحث في سطحها عن نغمة تذكرني الكسرة المنسية وتنسيني غرقي وإياك بوادي الجمود ...