المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ليسَ مكاني ../قصّة قصيرة /



نور الجندلي
10-12-2005, 08:10 PM
ليسَ مكاني ..

ارتديتُ الثوب الرماديّ المشجّر بالأحمر ، وزيّنته بعقدي اللؤلؤي ..
منذ مدة طويلة لم أرتده ، منذُ عشرين عاماً ............ فقط !
الآن سأفكُّ سجن الغربة ، وأهدم جدران الوحدة ، وأعود للحياة ..
سريعاً ... ضغطت أزرار الهاتف أهاتفُ جمالاً كي يوصلني ..
عبثاً ....... إنه لا يجيب !
ارتديت حجابي وقلبي يطرق ، دعوتُ الله أن ينقذني كمال من ورطتي ..
ولدي كمال .. أرجوك أجب ...
الخطّ مشغول !
تأخّر الوقت ، لكن ... عليّ أن أذهب ..
ليتني أنزلُ فأجد رياضاً ينتظرني أمام البوابة ..
علي أن أسرع أكثر الكلّ هناك ينتظرني ..
آه يا زمن ! ربّيتُهم حتى غدوا رجالاً ، أغدقتُ عليهم ثمرة حبي ، أزهقتُ عمري في عطاء لا يتوقف ، حتى غدوا كباراً ، كبار جداً ...... حتى على أمّهم !
ولدي كمال مهندس عظيم يشارُ إليه بالبنان ، وجمالُ طبيب ناجح يتداوى على يديه نصف أطفال المدينة ، ورياض مدير لشركة عقاريّة ..
في المحافلِ أرفع رأسي فخراً بهم ، ووحدي .... أبكي بحرقة ! فما عدت ألقاهم !
أخذتهم منّي الحياة وهمومها ..
ما عادوا يشتاقون لحضن الأمّ ، وقبلات الأمّ ، ودعوات الأمّ ..ورضاها !
أخبرتهم منذ أيام عن موعدي ..
قالوا سيأتي أحدنا إليكِ في الوقتِ المحدّد ، لا تقلقي أمّي ..
وهاهو الموعد قد حان ..
إلى متى أنتظر ؟! سأذهبُ وحدي ..
آه يا شوارع المدينة ، أتراكِ تسمعين طرقاتِ قلبي ..
الغربة تأكل كلّ خلاياي .. لقد كبرتًُ على المغامرة ، وما عاد قلبي يحتمل الجرأة ..
إنها الوحدة التي ترغمني أن أمشي في شوارع لم أعهدها ، وهي التي تجبرني أن أبحث مثل مشرّدة عن سيّارة أجرة تقلّني ، وهي التي تدفعني لأرجو السائق كي يدور في الشارع المطلوب خمس مرات لعلّي أهتدي إلى بيت قريبتي !
تبّاً للوحدة ! تباً لها .. كم تتعبني !
- سيّدتي .... ألن تجدي المكان ؟
- لحظة واحدة .. ها أنا أبحثُ يا بني ّ! لو كان ولدي معي لأوقفني أمام الباب ..
- ما ذنبي أنا ؟ لقد تعبتُ أدورُ بكِ شوارع المدينة ، أيُّ حظٍّ تعسٍ وضعكِ في طريقي
- أرجوكَ احتملني ، لن أضايقك أكثر ..
- إن لم تجدي المكان حالاً سأضطر لتركك هنا .. على أقرب رصيف ..
- يبدو أن الثوب المشجّر لن يليق عليّ بعد الآن ، ولن أبدو جميلة وأنا أضع على جيدي العقد اللؤلؤيّ ..ولن أهنأ بلقاء عائليّ حميم ..
جدران بيتي أكثر دفئاً !
- كم يزعجني زحام المدينة ، وأكثر من هذا ، الرّكاب الذين لا يعرفون إلى أين يذهبون
- ستحتسي الغربة معي الليلة كوباً من الشاي ، وسنثرثر معاً عن الوحدة ..
- كلما قلتُ لن أقلّ عجوزاً معي في السيارة ، عاودني الغباء لأكرر فعلتي ثانية !
- سيأتي غداً كعادتهم أبنائي الأعزاء ، يوقفون مراكبهم أمام بوابة منزلي ، وسينزلون محملين بفاكهة وحلوى ، وكأنّ شيئاً لم يكن سيقبّلون جبيني ويديّ ، ثم يغادرون .. لأتخم ألماً ..
- سأتركُ هذه المهنة من الغد وأعمل أيّ مهنة ، أيّ مهنة لا أحتكّ بها بنساء هرمات .
- لا يا ولدي أرجوك لا تزعج نفسك أكثر .. سأضاعفُ لكَ الأجر ثلاث مرات .. ولكن .......
لطفاً منك ............. أعدني من حيثُ أتيت ،فقد أضعت منذ عشرين عاماً مكاني !

حوراء آل بورنو
10-12-2005, 08:57 PM
الفكر هو ما يغتصب حبر قلمي للتعليق و التعقيب . مررت بصفحتك فما تمكنت من المغادرة - على انشغالي - إلا و حرف إعجابي مسطر فيها .

لكن هذه البداية ، و سأعود .

تحية لك .

يحـيى الحكـمي
10-12-2005, 09:55 PM
ستحتسي الغربة معي الليلة كوباً من الشاي ، وسنثرثر معاً عن الوحدة

أما أنا فتاه بي النص ... القصصي حتى اكملته قراءة وتعجبا من هذا النسج الخيالي البديع ......

........ الغربة الوحدة العزلة الحزن ......... هذه ألفاظي الخاصة التي اعلكها ليل نهار

تحياتي لك

سحر الليالي
10-12-2005, 10:40 PM
أختي المبدعة نور الجندلي :

ما أروع قصتك !!!

أسجل إعجابي الشديد بقصتك الرائعة

وبانتظار جديدك دوما

لك خالص ود المعطر بالزهور

أسماء حرمة الله
11-12-2005, 04:26 AM
سلام الله عليك ورحمته وبركاته

تحيـة كتبتُها بماء الزهر

الأخت العزيزة المبدعة نور،

"أعدني من حيثُ أتيت، فقد أضعت منذ عشرين عاماً مكاني !
ستحتسي الغربة معي الليلة كوباً من الشاي ، وسنثرثر معاً عن الوحدة "..

وأنا أيضا جلستُ بشرفتك طويلاً، وقد أسرني الحرفُ فيها، وأسرتني الصورُ المنسوجة بدقةٍ وإحساس، وتلعثمَ حرفي باحثاً عن لغةٍ يلملم بها حزنَ بطلة القصة، ويجمعُ بها تفاصيلَ مكانها الذي ضاع منذ عشرين عاماً، علّه يستطيع إعادتَها إليها.
أعرف تماما مايعنيه احتساءُ كوبٍ من الشاي مع الغربة مساءً، وغزل خيوط الوحدة على مهل.. فالغربةُ تعشقُ منْ أضاعوا مكانهم طوعاً أو كرهاً، لأنّ هذا هو ناموسُ عشقِها، وتعشقُ الساهرين وهم يشربون نخبَ الوجع، بينمـا يشرب أحبابهم نخبَ نسيانهم.
سأكون دوماً على ضفاف حرفك الجميل الذي آنس غربتي الليلة..شكرا لكِ نـور من الأعمـاق..
تقبّلي مني خالص التحايا والتقدير والإعجـاب
وألف باقة من الورد والمطـر

نور الجندلي
12-12-2005, 07:37 PM
غاليتي حرّة
أسعدني مرورك الأول
وكرم منك المرور الثاني
دمت بخير

نور الجندلي
12-12-2005, 07:40 PM
أخي الفاضل يحيى
أحيانا نصنع الغربة بأيدينا مع أننا قادرون على تبديدها ربما بركعتين بين يدي الله ودعاء وصدق مناجاة
فرج الله عنكم وعن كل المسلمين
دمتم بخير

نور الجندلي
12-12-2005, 07:42 PM
غاليتي سحر الليالي
شكرا لتواجدك الرقيق
دمت بحفظ الله

نور الجندلي
12-12-2005, 07:46 PM
غاليتي الراقية دوماً أسماء
مروركِ عطّر شرفتي بعطرٍ أصيل
وانعش مسائي بتواجدك
بوركت يا صاحبة القلب الكبير
ودمت معطاء

د. سمير العمري
04-11-2007, 10:00 PM
نص أجبرني على أن أصفق له تقديرا واحتفاء لأنه أجاد أن يخط في النفس سطورالألم والحزن والأسف من حال تزيد مع الأيام بما تحمل من عقوق وجحود وبما ترسم من معاني الضياع في وحدة وغربة الأيام وزمانا ومكانا.

نص متألق ومبدع بقدر ما هو مفزع وموجع.


طال غيابك يا نور عن واحتك فمتى يكون فجر عودتك؟!



تحياتي

مصطفى حمزة
23-03-2013, 04:58 PM
ليسَ مكاني ..

ارتديتُ الثوب الرماديّ المشجّر بالأحمر ، وزيّنته بعقدي اللؤلؤي ..
منذ مدة طويلة لم أرتده ، منذُ عشرين عاماً ............ فقط !
الآن سأفكُّ سجن الغربة ، وأهدم جدران الوحدة ، وأعود للحياة ..
سريعاً ... ضغطت أزرار الهاتف أهاتفُ جمالاً كي يوصلني ..
عبثاً ....... إنه لا يجيب !
ارتديت حجابي وقلبي يطرق ، دعوتُ الله أن ينقذني كمال من ورطتي ..
ولدي كمال .. أرجوك أجب ...
الخطّ مشغول !
تأخّر الوقت ، لكن ... عليّ أن أذهب ..
ليتني أنزلُ فأجد رياضاً ينتظرني أمام البوابة ..
علي أن أسرع أكثر الكلّ هناك ينتظرني ..
آه يا زمن ! ربّيتُهم حتى غدوا رجالاً ، أغدقتُ عليهم ثمرة حبي ، أزهقتُ عمري في عطاء لا يتوقف ، حتى غدوا كباراً ، كبار جداً ...... حتى على أمّهم !
ولدي كمال مهندس عظيم يشارُ إليه بالبنان ، وجمالُ طبيب ناجح يتداوى على يديه نصف أطفال المدينة ، ورياض مدير لشركة عقاريّة ..
في المحافلِ أرفع رأسي فخراً بهم ، ووحدي .... أبكي بحرقة ! فما عدت ألقاهم !
أخذتهم منّي الحياة وهمومها ..
ما عادوا يشتاقون لحضن الأمّ ، وقبلات الأمّ ، ودعوات الأمّ ..ورضاها !
أخبرتهم منذ أيام عن موعدي ..
قالوا سيأتي أحدنا إليكِ في الوقتِ المحدّد ، لا تقلقي أمّي ..
وهاهو الموعد قد حان ..
إلى متى أنتظر ؟! سأذهبُ وحدي ..
آه يا شوارع المدينة ، أتراكِ تسمعين طرقاتِ قلبي ..
الغربة تأكل كلّ خلاياي .. لقد كبرتًُ على المغامرة ، وما عاد قلبي يحتمل الجرأة ..
إنها الوحدة التي ترغمني أن أمشي في شوارع لم أعهدها ، وهي التي تجبرني أن أبحث مثل مشرّدة عن سيّارة أجرة تقلّني ، وهي التي تدفعني لأرجو السائق كي يدور في الشارع المطلوب خمس مرات لعلّي أهتدي إلى بيت قريبتي !
تبّاً للوحدة ! تباً لها .. كم تتعبني !
- سيّدتي .... ألن تجدي المكان ؟
- لحظة واحدة .. ها أنا أبحثُ يا بني ّ! لو كان ولدي معي لأوقفني أمام الباب ..
- ما ذنبي أنا ؟ لقد تعبتُ أدورُ بكِ شوارع المدينة ، أيُّ حظٍّ تعسٍ وضعكِ في طريقي
- أرجوكَ احتملني ، لن أضايقك أكثر ..
- إن لم تجدي المكان حالاً سأضطر لتركك هنا .. على أقرب رصيف ..
- يبدو أن الثوب المشجّر لن يليق عليّ بعد الآن ، ولن أبدو جميلة وأنا أضع على جيدي العقد اللؤلؤيّ ..ولن أهنأ بلقاء عائليّ حميم ..
جدران بيتي أكثر دفئاً !
- كم يزعجني زحام المدينة ، وأكثر من هذا ، الرّكاب الذين لا يعرفون إلى أين يذهبون
- ستحتسي الغربة معي الليلة كوباً من الشاي ، وسنثرثر معاً عن الوحدة ..
- كلما قلتُ لن أقلّ عجوزاً معي في السيارة ، عاودني الغباء لأكرر فعلتي ثانية !اس- سيأتي غداً كعادتهم أبنائي الأعزاء ، يوقفون مراكبهم أمام بوابة منزلي ، وسينزلون محملين بفاكهة وحلوى ، وكأنّ شيئاً لم يكن سيقبّلون جبيني ويديّ ، ثم يغادرون .. لأتخم ألماً ..
- سأتركُ هذه المهنة من الغد وأعمل أيّ مهنة ، أيّ مهنة لا أحتكّ بها بنساء هرمات .
- لا يا ولدي أرجوك لا تزعج نفسك أكثر .. سأضاعفُ لكَ الأجر ثلاث مرات .. ولكن .......
لطفاً منك ............. أعدني من حيثُ أتيت ،فقد أضعت منذ عشرين عاماً مكاني !
مشهدٌ إنسانيٌّ مؤثّر ، لاتقوى على تصويره إلاّ ريشة فنان إنسان كريشة نور الجندليّ
غربة أمّ وحيدة ، وسطَ أبنائها ، في حيّها ، وكأنّ العمرَ ، والتجاعيد ، والهمة المضعضعة إن حلّت بالأبوين ملامح تُسيء إلى مكانة الأبناء الاجتماعية
في اجتماعاتهم النفاقيّة الفقاعيّة !
سردٌ ممتع لم يُفارقه تعاطفنا مع تلك الأمّ المجروحة التائهة ، التي مثّلت نموذجًا لأم موجودة في كلّ مجتمع ، ولغةٌ منتقاة بدقّة لتثير فينا
ماأراد الموقف والمعنى .
وحوار السائق الواقعيٌّ جداً لمحنا فيه السائق الذي لا يرى في الراكب إلا دافع الأجرة وحسب .
وحوار الأمّ مع السائق الذي لمحنا فيه أنها ليستْ إلاّ أم .. حتى مع السائق الماديّ كانت عطشى للأمومة !!
وهي منذ عشرين عاماً تعاني من غربتها ! ربّما منذ رحل زوجها .. موئلها الأوحد حين الكبر !
نور الجندلي
أين أنتِ أيتها الأديبة الداعية المجاهدة ؟!
يابنة حمص الإباء والكرامة ، يابنة الإنشاءات المذبوحة كباقي أحياء التوحيد في مدينة ابن الوليد
أين أنتِ يا علمًا من أعلام سورية ، بل الأمّة ، يفخر به القلم والفكر والدين ؟!
أسأل الله العليّ القدير أن تكوني بخير من الله ، وفي أمنه وحفظه ، وأن تعودي إلينا وإلى من ينتظرك - داعيًا - من عشاق القلم النبيل الجميل المجاهد .. آمين

نداء غريب صبري
19-04-2013, 12:41 AM
بوح جميل يا نور
صادق وحزين ومؤلم
ويقول الحق في زمن الجحود

شكرا لك أختي

بوركت

ربيحة الرفاعي
04-10-2014, 05:39 PM
قدرة تأثيرية عالية تحسب للنص وكاتبته، وأداء قصّي جميل مع اصطياد حذق للموضوع

ماتعا كان مروري بها

دمت بخير

ناديه محمد الجابي
05-10-2014, 09:20 PM
رائعة قصتك .. فكرة عظيمة ذكية المبنى بهية النسيج
رسمت حروفك وجع الوحدة والغربة للأم عندما تأخذ الدنيا منها
أولادها ليتوهوا في دروب الحياة ويتركونها تناجي أطيافهم
استمتعت بمتعة وتشويق السرد وبهاء اللغة والأسلوب
أسجل إعجابي بقصتك الرائعة. :001:

آمال المصري
23-12-2015, 09:24 PM
في المحافلِ أرفع رأسي فخراً بهم ، ووحدي .... أبكي بحرقة ! فما عدت ألقاهم !

بل تبكي الحروف حرقة معها على عقوق من صنعتهم رجالا, وصنعوا منها هرمة تقتات منها الوحدة تناجي أطيافهم التي هجرت المكان
نص يئن وجعا وجدت أجواءه ملائمة مع يوم الأم ليكون تذكرة لمن كدَّ بقُبلة على يديها
بوركت أيتها الرائعة
وتشتاقك الأماكن فمرحبا بك
تحاياي