تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : في معية الرافعي و (تحت راية القرآن) -1-



عبدالرحمن الخلف
07-01-2006, 03:14 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل:

في خضمّ النتاج الأدبي الحاضر ووسط معمعة الكتابة الأدبية الإلكترونية, أجد في صومعة الكتاب الورقي مُلتجأ , حيث الدفء والمجالسة الحقة , أقلب أوراقاً محبرة بمدادٍ أصيل لم تنخِرْ بعد , قوامها البيان والسامي من الفكَر والمعاني ..

ومن بين ما أطلت النظر فيه من الكتب الخالدة كتاب الرافعي : (تحت راية القران) ففيه عبرة وعبرات وفيه دروسٌ في الأدب والنقد و فيه طرفٌ كألذّ ما تكون الطرف وفيه شحنات تضخ اللغة في القلم , غضاً كان أم هرما .. فآثرت تسليط بعض الضوء عليه ليكون محلاً لن يخلوَ من نظرٍ أو بحثٍ أو متعة ..
على يقينٍ أني لن أحيط بكافة فصول الكتاب عرضاً وتفصيلا ولكنها إضاءات متفرقة حسب الاستطاعة وحسب ما يجود به الوقت الذي لن ألزم نفسي به حيث سأضيف من وقت لآخر ما يمكن إضافته ..
كما أن هذا الموضوع حقٌ مشاعٌ لكل عابر يحمل بجعبته ما يزيد ويفيد .
وقد وقفت على بعض ما هو محل نظر أو بحث أو نقد دون ادعاء لعلم أو أسبقية وإنما تحريضٌ لمن هو أعلم وأقدر ليرِدَ الماء فإن وجد فيه ما يستحق أن ينيخ الركاب من أجله و يمتح غرْب العلم بأشطان العزيمة فحسن, وإن وجده سراباً بقيعة، فليصدف عنه , وحسبنا بعد هذا أن ننال نصفَ أجر الاجتهاد.

................................................

http://www.arab3.com/gold/images/Jan06/arab3_quXmsI.JPG

مقدمة الناشر:

الطبعة التي أنسخ منها هي طبعة "المكتبة العصرية _ بيروت_1422هـ" ويظهر على الغلاف الداخلي للكتاب هذه العبارة: "راجعه واعتنى به د. درويش الجنيدي" وعندما تتصفح الكتاب ابتداءً من أول سطر بعد هذه "الترويسة" وحتى آخر سطر من الفهرس لا تجد أثراً للمحقق _إن جازت التسمية_ لا في الحواشي ولا حتى في المقدمة التي تولاها الناشر ولم يحسنها وهي مقدمة من بضعة أسطر لا تليق بالرافعي ولا بكتابه ولا بأدبه.. وللحق فقد أعجبتني جملة وردت في سياق ترجمة الرافعي حيث وصف الناشر شعره بــِ" نقي الديباجه, على جفاف في أكثره. ونثره من الطراز الأول" أما الباقي فهو سرد بدائي مستغرب من الناشر وكان الأجدى والأولى أن يقوم بالتقديم د.درويش على اعتبار أنه صاحب الجهد في المراجعة وكي نرى بصمته في هذه الطبعة بدلاً من ورود اسمه في الديباجة كجزء من الديكور!

مقدمة المؤلف:

عرّف الرافعي الكتابَ على أنه :
(المعركة بين القديم والجديد) (مقالات الأدب العربي في الجامعة, والرد على كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين وإسقاط البدعة الجديدة التي يريد دعاتها تجديد الدين . اللغة والشمس والقمر)

تأتي مقدمة المقدمة _التي أسماها الرافعي تنبيهاً_ كمفتاح للذهول ومصيدة ذكية للقارئ الملهوف ففضلاً عن أنها حوت إثارة مبكرة وتشويقاً متقنا , فقد صيغت بلغة شفافة بديعة جمعت بين الجزالة و السلاسة بقالب أدبي رفيع يقطع كل طريقٍ لمدعي وعورة لغة الرجل وتكلف معانيه! فتأمل قوله هنا :


(نلفت القراء إلى أننا في هذا الكتاب إنما نعمل على إسقاط فكرة خطيرة , وإذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه فقد تكون غداً في من لا نعرفه , ونحن نردّ على هذا وعلى هذا بردّ سواءٍ , لا جهلُنا من نجهله يلطف منه , ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ فيه .
والفكرة لا تسمّى بأسماء الناس , وقد تكون لألف سنة خلَت ثم تعود بعد ألف سنة تأتي , فما توصف من بعد إلا كما وُصفت من قبل ما دام موقعها في النفس لم يتغيّر , ولا نظنّه سيأتي يومٌ يُذكر فيه إبليس فيقال : رضي الله عنه .
ونحن مستيقنون أن ليس في جدال من نجادلهم عائدة على أنفسهم , إذ هم لا يضلون إلا بعلم وعلى بينة! فمن ثم نزعنا في أسلوب الكتاب إلى منحى بياني نديره على سياسة من الكلام بعينها , فإن كان فيه من الشدّة أو العنف أو القول المؤلم أو التهكم , فما ذلك أردنا , ولكنا كالذي يصف الرجل الضالّ ليمنع المهتدي أن يضل , فما به زَجْر الأول بل عظة الثاني , ولهذا في مناحي البيان أسلوب ولذلك أسلوبٌ غيره , ألا وإنّ أقبح من القبح ما جهله يسمى قبحاً, وإن أحسن من الحسن ما جهله حسناً, ولكل معنى باعتباره موضع, ولكل موضع في حقه وصف ولكل وصف في غرضه تعبير , ولكل تعبير أسلوبه وطريقته , فهذا ما ننبه إليه .
ولو كان أصحابنا غير مَن هم في الأثر والمنزلة لكان أسلوبنا غير ما هو في النمط والعبارة , والسلام.)إهـ

إنها الحرب إذن!
هكذا قدم الرافعي لكتابه الذي أرى فيه توثيقا لحقبةٍ حاسمة وهامة من تاريخ مصر بل والأمة جمعاء حيث نشأت دعوات التغريب والهجمة على الفصحى وعلى الموروث بكافة أشكاله لينبري ثلة من النبلاء المخلصين _رحمهم الله_ المتسلحين بنور العلم والإيمان فذبوا عن حياض الدين واللغة وصاحبنا أحد هؤلاء العظماء .. فلله درهم و جزاهم عن الأمة أعظم الأجر والمثوبة ..

ولعلي هنا أقف عند الجملة الأخيرة التي أرى أنها عبقرية من الرافعي .. كيف ؟ حين جعل الكلام يحتمل الوجهين تحقيراً أو تقديرا !
فقوله: ( ولو كان أصحابنا غير مَن هم في الأثر والمنزلة ) يحتمل أنه يعني أن منزلتهم وضيعة عنده وعليه هم يستحقون هذا العنف الكتابي والشدة في القول .. ويحتمل كذلك أنه يعني أن منزلتهم عالية عنده فجاء العتاب على قدر المحبة !
ولاشك عندي أنه يعني الأولى!

ثم تأتي سلسة مقالاته التي نشرت بمجلة الهلال والزهراء والبيان وجريدة السياسة ومن ثم مقالات الأدب العربي في الجامعة, كما يتخلل الكتاب مقالات لشكيب أرسلان وغيره ومقتبس من جريدة الأهرام وبعض وقائع الجلسات التي دارت في مجلس النواب حول قضية طه حسين .
وأكثر فصول الكتاب إثارة , الفصلان اللذان تحدث فيهما بتفصيل عن قضية الكتاب الرئيسة وهما:
- الفصل الذي أورد الرافعي فيه نص خطاب لجنة العلماء إلى شيخ الأزهر والذي حذرت فيه من تدريس كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) في الجامعة وطالبت بوضع حدٍّ للفوضى الإلحادية الواردة فيه.
- الفصل المسمّى (فلما أدركه الغرق).

*************

الميراث العربي

هذا مقال نشر في مجلة (الزهراء) وهو من بداية لسلسة مقالات لأبي السامي هب فيها للدفاع عن العربية والتأصيل لها سارداً الشواهد التاريخية التراثي منها والمعاصر لتفنيد ما أسماه بـ(المذهب الجديد) كما أسلفنا.

بدأ هذا الفصل بشاهد طريف يبين لنا أصل تشبيهه أصحاب المذهب الجديد بـ(أبي خالد) في فصل لاحق من هذا الكتاب.

يقول الرافعي:

(كان أبو خالد النميري في القرن الثالث للهجرة, وكان ينتحل الأعرابية ويتجافى في ألفاظه ويتبادى في كلامه ويذهب المذاهب المنكرة في مضغ الكلام والتشدق به, ليتحقق أنه أعرابي وما هو به, وإنما ولد ونشأ بالبصرة, قالوا فخرج إلى البادية فأقام بها أياماً يسيرة ثم رجع إلى البصرة فرأى الميازيب على سطوح الدور فأنكرها وقال: ما هذه الخراطيم التي لا نعرفها في بلادنا...؟

فهذا طَرَف من العربية يقابله التاريخ في زماننا هذا بطرفٍ آخر من جماعة قد رزقوا اتساعاً في الكلام إلى ما يفوت حد العقل أحياناً, ووهبوا طبعاً زائغاً في انتحال المدنية الأوروبية إلى ما يتخطى العلل والمعاذير, ورأوا أنفسهم أكبر من دهرهم, ودهرهم أصغر من عقلهم, فتعرف منهم أبا خالد الفرنسي, وأبا خالد الإنجليزي, وغيرهم من أجازوا إلى فرنسا وإنجلترا فأموا بها مدة ثم رجعوا إلى بلادهم ومنبتهم ينكرون الميراث العربي بجملته في لغته وعلومه وآدابه ويقولون : ما هذا الدين القديم؟ وما هذه اللغة القديمة؟ وما هذه الأساليب القديمة؟ ويمرّون جميعاً في هدم أبنية اللغة ونقض قواها وتفريقها؛ وهم على ذلك أعجز الناس عن أن يضعوا جديداً أو يستحدثوا طريفاً أو يبتكروا بديعاً, وإنما ذلك زيغ الطبع, وجنون الفكر, وانقلاب النفس عكساً على نشأتها, حتى صارت علوم الأعاجم فيهم كالدم النازل إليهم من آبائهم وأجدادهم وصار دخولهم في لغة خروجهم من لغة, وإيمانهم بشيء كفراً بشيء غيره كأنه لا يستقيم الجمع بين لغتين وأدبين, ولا يستوي لأحدهم أن يكون شرقياً وإن في لسانه لغة لندن أو باريس!)إ.هـ

إذن القضية هنا قضية منهج وأسلوبٍ لا يمكن المساومة عليهما ولقد أعجبني هذا التشبيه الطريف من الرافعي الذي ينطبق على شريحة فكرية عريضة تبدأ من زمانه ولا تنتهي بزماننا, فهم كما يقول المثل العامي: (ضيع مشيته ومشية الحمامة) ومن الواضح كما يقرر الرافعي في غير موضع أن أصحاب بدعة المذهب الجديد لم يأتوا بمنهجٍ مستقلٍ مكتمل العناصر جامعٍ مانع كي نقول إن مشروعهم حضاريٌ ذو شخصية عربية يقوم على الحاجة الفعلية للتطوير لا على حاجة وأغراض المستعمر!
وإنما يتبين لك مدى اعتلال أفهامهم وضعفهم المعرفي عند أول أطروحة, وكم هي جميلة تلك الإشارة التاريخية التي أتى بها الرافعي حين بيّن أنّ ابن المقفّع ليسَ بمسلمٍ ولا عربي ولكنه بعد أن نشأ على اللغة العربية والأدب العربي والرواية العربية وتتلمذ على يد (ثور بن يزيد الأعرابي) والذي كان من أفصح الناس لساناً ومع ذلك لم تتأثر فصاحته بما ترجمه من اليونانية والفارسية ولم يقل بوجوب هدم البيان العربي بعدما وجد الحكمة والخيال وأساليب الحكاية الكتابية في الأدب اليوناني, وإنما صهر كل هذه الآداب الإنسانية ودمجها في اللغة ولم يدمج اللغة فيها.

ثم يشير الرافعي إشارةً هامة تبين الانفتاح المعرفي في تراث الأدب العربي و أن القضية ليست تحجراً وانغلاقا, فيقرر أن اللغة لم تخلق على الكفاية وقد حكى التاريخ الإسلامي الانفتاح الهائل من العرب على كافة العلوم الإنسانية بلغات شتى لأمم الأرض قاطبة فلم يذوبوا ويذوّبوا لغتهم في هذه اللغات بل أثبتوا قدرة اللغة العربية على التطور والثبات على اعتبار أن الحاجة للتحرير والتطوير مسلّمة عندهم كسنةٍ كونية لا مناص منها, ولكنّ ذلك لا يعني بشكلٍ من الأشكال أن يكون لكل قطرٍ لغة قائمة وأدب مستقل وهو مالم يفعله أحد طوال التاريخ الإسلامي.

ثم يستعرض الرافعي شاهداً غربياً على التمسك بالأصالة والمحافظة على اللغة القومية وهو (المجمع العلمي الفرنسي) حين رأى أن مصطلح (naval blockade ) (نظام الحصر البحري) وافدٌ إنجليزي من مخلفات الحرب العالمية الأولى وقرر إبطال هذه المصطلح و(فرنسته).
فتأمل كيف تباهي أمة أوروبا بلغتها وكيف يفخر الفرنسيون بلسانهم ويعدّون كلمةً وافدةً على لغتهم كجندي محتلّ يلزم طرده! بينما أبو خالد الفرنسي يتنصل من لغته الأم و يعمد على هدمها!

ونختم الحديث عن هذا الفصل المهم الثمين مضموناً الطريف أسلوباً السهل عرضاً.. بخلاصةٍ من درر الرافعي يجب أن تخلد حين قال:

( إنما الأمور بمقاديرها في ميزان الاصطلاح, لا بأوزانها في نفسها, فألف جندي أجنبي بأسلحتهم وذخيرتهم في أرضٍ هالكة بأهليها ربما كانوا غوثاً تفتحت به السماء, ولكنّ جندياً واحداً من هؤلاء في أمة قوية مستقلة, تنشقّ له الأرض وتكاد السماء أن تقع, فالمذهب الجديد فساد اجتماعي ولا يدري أهله أنهم يضربون به الذلة على الأمة.
وتلك جنايتهم على أنفسهم وجنايتهم على الناس بأنفسهم, وهم لا يشعرون بالأولى فلا جرم لا يأنفون من الثانية!)إهـ.


يتبع..

خالد الحمد
07-01-2006, 03:27 PM
جميل ياعبدالرحمن جميل

واصل فكلي عين قارئة

حسنا ياأبانزار سوف أقرأ وأقرأ

ولكن بعد أن أصل المغرب سوف أحضر

القهوة الشقراء المزعفرة حيث فنجانها يساعد

على التركيز أقدح من المباح الشاي امنعنع

قراءة عابرة ومرور سريع

شكرا لك ولجهدك

دمت مبدعا

حمزة الحلبي
07-01-2006, 07:16 PM
ما اجمل ان يعي عقلاء الأمة مكامن القوة والضعف والذود والعداء في فلاسفتها
ولعمري ما اساء امرؤ كما اساء ابو خالد الفرنسي
فجند ثقافة مصر - وهي امر لا يشك فيه - لتغزو جميع المنطقة العر بية على مطية لغوية عرجاء انتجت جيلا اعرج تزداد الهوة بينه وبين تراثه واصالته يوما بعد يوم
اما وقد جاء من يؤصل الاصيل ويترك الدخيل ويأخذ بيد ابناء الأمة يقاربهم الى مجدهم وتراثهم فهو ما تقر به النفس , وتجد الأحلام سبيلها الى الحقيقة.

الشاعر عبد الرحمن مشكور جهدك
تحية لك

د. محمد حسن السمان
07-01-2006, 08:24 PM
سلام الله عليكم
الاخ الفاضل الاستاذ عبد الرحمن الخلف

جهد واضح , وانتقاء ناجح .

سلمت يداك , وانا سابقى متلهفا للمتابعة , وبانتظار
جميل ما تكتب , ليكون لنا وقفة , حيال الموضوع ,
بارك الله بك .

اخوكم
السمان

عدنان أحمد البحيصي
07-01-2006, 08:38 PM
أخي عبد الرحمن
إقرأ اخي ودعنا معك نقتبس نوراً من كلام هذا الهمام

فلعلنا نخلع عن أنفسنا عباءة التمسك بحضارة كلها زيف وكذب

وندرك أننا أصحاب حضارة لو أردنا أن نكون

شكرا لك أيها المبدع

حسن كريم
08-01-2006, 01:24 AM
جزاك الله عنا خيرا يا عبد الرحمن.

الله
الرافعي مصطفى صادق
يا لها من قمة
رحم الله رائد البيان العربي.

د. محمد حسن السمان
08-01-2006, 06:44 PM
سلام الله عليكم
الاخ الفاضل الاستاذ الاديب عبد الرحمن الخلف
تحية محبة صادقة , وبانتظار المزيد مما يخطه
يراعك الطيب .

اخوكم
السمان

خالد الحمد
09-01-2006, 06:53 PM
أين أنت ياعبدالرحمن؟

هل حجيت أو هجّيت؟!D::014:

تحية لنبضك:noc:

عبدالرحمن الخلف
12-01-2006, 12:28 AM
أهنئ إخوتي وأخواتي بالواحة بعيد الأضحى المبارك وأسأل الله لنا ولهم القبول وللأمة التمكين..

الأخ /بحرالشوق :بل دجيت يارفيق :011:

الإخوة:
حمزة الحلبي
alsamman
عدنان الاسلام
حسن كريم

بارك الله حضوركم وتوقيعكم وإنه سيسعدني هذا الحضور أكثر لو أتيتم بما يثري الموضوع بحثا وطرحا بل ونقضا!

لكم تقديري العميق,,

عبدالرحمن الخلف
12-01-2006, 12:46 AM
(الجملة القرآنية)

في فصل (الجملة القرآنية) وهو من أثمن فصول الكتاب وأنفعها, يتحدث الرافعي عن الأسلوب البياني الفصيح وما دار في تلك الفترة الحاسمة من جدل وصراع حول ماهية ( المذهب الجديد ) ويتبين لنا من خلال هذا الفصل مدى القلق الذي كان يساور الرجل من مخاطر التجديد بصورته التي رُوّج لها .
وسأتجاوزُ شبهة الحساسية من التجديد التي قد تُثار هنا, إلى تأصيل الرافعي لأصول البيان والكتابة ليقودنا في نهاية الأمر إلى بابٍ أصليٍ كبير لعلي أسميه: (كيف تكتب؟) على اعتبار أنّ باب (ماذا تكتب؟) من المسلّمات التي نتجاوزها هنا نحو الأدوات اللغوية والروافد المعرفية للكاتب مبتدئا كان أو محترفا.

دعونا نعود للشرارة التي أدت بالرجل إلى كتابة هذا الفصل حين قال في مطلع المقال:

( نبهتني إحدى الصحف العربية التي تصدر في أمريكا عندما تناولت الكلام على (رسائل الأحزان) بقولٍ جاء في بعض معانيه أني لو تركت (الجملة القرآنية) والحديث الشريف ونزعتُ إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليَّ ولملأتُ الدهر ثم لحطمتُ في أهل المذهب الجديد حطمةً لا يبعد في أغلب الظن أن تجعلني في الأدب مذهباً وحدي!
ولقد وقفت طويلاً عند قولها (الجملة القرآنية) فظهر لي في نور هذه الكلمة ما لم أكن أراه من قبل, حتى لكأنها (المكروسكوب) وما يجهر به من الجراثيم مما يكون خفيَّاً فيستَعْلِن ودقيقاً فيستعظم, وما يكون كأنه لا شيء ومع ذلك لا تُعرف العلل الكبرى إلا به.) إ.هـ.

إذن فالقضية تبدت له وكأنها حربٌ جديدة يتحتم عليه خوض غمارها, فالأمر لا يتعلق في نظره بلسانٍ ينطق حروفاً أو قلمٍ يكتبها, كلا.. الأمر أكبر من ذلك, لقد كان يرى أن الأبعاد الخطيرة لأطروحات التجديد وإن بدت فنية صرفة إلا أنها تؤدي في النهاية إلى تجفيف المنابع وتنحية المصادر الربانية عن منهج الأمة التي لا يمكن فهمها ومن ثم تطبيقها دون فهمٍ سليمٍ للغة التي كتبت بها.

وتأمل معي هذه الصورة البانورامية الهرمية التي أبدعها حين قال واصفاً تذوّق اللغة:

(ثم ما هي اللغة؟ أفرأيت قط شعباً من الدفاتر قامت عليه حكومة من المجلدات وتملك فيها مَلك من المعجمات الضخمة… أم اللغة هي أنت وأنا ونحن وهو وهي وهم وهن, فإذا أهملناها ولم نأخذها على حقها ولم نحسن القيام عليا وجئت أنت تقول: هذا الأسلوب لا أسيغه فما هو من اللغة, ويقول غيرك: وهذا لا أطيقه فما هو منها, وتقول الأخرى: وأنا امرأة أكتب كتابة أنثى… وانسحبنا على هذا نقول بالرأي ونستريح إلى العجز ونحتج بالضعف ويتخذ كل منا ضعفه أو هواه مقياساً يحدُّ به علم اللغة في أصله وفرعه, فما عسى أن تكون لغتنا هذه بعدُ وما عسى أن يبقى منها وأين تكون نهايتها؟ ثم أي علم من العلوم يصلح على مثل هذا أو يستقيم عليه؟ وفيمَ تكون المجاذبة والمدافعة, وبم يقوم المراء والجدل إذا اتفقنا على أن بعض الجهل لا يمكن أن يكون قاعدة في بعض العلم؟
إن هذه العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالداً عليها فلا تهرم ولا تموت, لأنها أُعدت من الأزل فلكاً دائراً للنيِّرَين الأرضيِّين العظيمين . كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أُخْـذَة السحر, لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع.) إ.هـ.

إن ما سُطّر أعلاه لينوء بالعصبة أولي قوة !
وحريٌ بوزارات التربية والتعليم العربية أن تضعه في مقدمة مناهج اللغة والأدب ليكون نبراساً للناشئة ومصباحاً في طريقهم العلمي, أنظر لهذا التشبيه البليغ العِلق: (شعبٌ من الدفاتر)! وانظر لهذه النظرية العجيبة.. السهلة في مبناها الساحرة في تركيبها ومعناها: (بعض الجهل لا يمكن أن يكون قاعدة في بعض العلم) التي أرى أنها تصلح أن تدرّس كقاعدةٍ أصولية!
وتأمل كذلك في عمق تشبيهه هذا: (لأنها أُعدت من الأزل فلكاً دائراً للنيِّرَين الأرضيِّين العظيمين) فبدأ بالفعل المبني للمجهول_وحاشاه سبحانه وتعالى أن يكون مجهولا_ (أُعِدَّتْ) حيث يرسّخ الرافعي في هذه المفردة منهجاً ودينا ليؤكد أن لغة الضاد ليست فعلاً صوتياً ليندثر كبقية الصوتيات ولا هي بقية حضارة عابرة غابرة لتُحفظ في المتاحف والمكتبات, وإنما هي ناموسٌ من نواميس هذا الكون وآية من آيات الخالق العظيم.. وجدت لتبقى.
ثم تكتمل الصورة المجازية البديعة في المفردة المنتقاة بعناية: (فَلكاً دائراً) ياااه… إنها إذن منظومة متحركة بأمر ربها.. فضاؤها غير الفضاء.. أرضيٌ يحوي كوكبين (نيِّرَين أرضيِّين) يضيئان ليلَ البشرية الحالك وزيادة على هذا فهما في متناول الخلق حين يريدون البصيرة.
إنّ هذا المجاز إنما أراد الرافعي به ربط اللغة بالدين, وهي قضيته الأولى وشغله الشاغل, وهو الذي أدرك ببصيرته وبوعيه أنّ الأمة إنما أُتيت _حين أُتيت_ من باب اللغة والأدب في حيلة استعمارية وجدت صدىً ورواداً من أبناء جلدتها وكادت أن تنطلي على العموم لولا فضل الله وتكفله بحفظ الدين بحفظ اللغة تباعا.
وإنما تعزّ الأمة وتسعد بالعناية باللغة وفهمها على أكمل وجه.

ثم يعلّق الرافعي بسخريته اللاذعة على العجز اللغوي لدى أصحاب المذهب الجديد بقوله:

( فأمّا أن لا تدري يا أبا خالد وتزعم العفة, وأن تعجز ثم تجنح إلى الرأي؛ وأن تضعف ثم تتمدح بالسلامة؛ فهذه أساليب ابتدعها مَنْ قبلك من أذكياء الثعالب… وزعموا أنه اقتصر على القول بأن العنقود حامض وأراه ما اقتصر على ذلك إلا لأن زمنه كان أحسن من زمننا وأسلم وأقرب إلى الصدق… فلو هو كان من ثعالبنا… لزعم بأنه ابتاع زجاجة من الخل وصبها بيده في حبات العنقود الحلو وبذا صار إلى الحموضة ولهذا تركه!
وكيف تريد ممن عجز عن الفصيح أن يثني عليه, وهو لو أثنى عليه لطولب به, ولو طولب به لبان عجزه وقصوره, ولو ظهر الناس منه على العجز والقصور لما عدُّوه في شيء ولذهب عندهم قليل ما لا يحسنه بالكثير الذي يحسنه؟ )إ.هـ.

ونرى هنا إعادةَ صياغة للمثل العربي المعروف بقالبٍ ساخر جعله ملائماً لثعالب المرحلة!

وأقف خاشعاً لأختم الكلام عن هذا الفصل بالتأمل في هذه الحجة الباترة التي ساقها الرافعي بتسلسلٍ منطقي عجيب:

(وكيف تريد ممن عجز عن الفصيح أن يثني عليه, وهو لو أثنى عليه لطولب به, ولو طولب به لبان عجزه وقصوره, ولو ظهر الناس منه على العجز والقصور لما عدُّوه في شيء ولذهب عندهم قليل ما لا يحسنه بالكثير الذي يحسنه؟)إ.هـ.


يتبع..

الصباح الخالدي
12-01-2006, 02:07 AM
والله احب الرافعي وأحب كتبه
كان كتابه تحت راية القرآن انيسي زمنا
بورك هذا العرض

عبدالرحمن الخلف
11-02-2006, 01:13 AM
أخي الصباح:
ممتن لحضورك وتوقيعك..
ولأبي السامي علينا دَين حان وفاؤه..

لك تقديري,,

...........................




(قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة!)


في هذا الفصل يفصّل الرافعي في نقده لكتاب طه حسين القضية (في الشعر الجاهلي) وبدأ أول ما بدأ بعنوان الكتاب! إذ حملَ على طه حسين تلقيب نفسه بأستاذ الآداب العربية وهو اللقب الذي رأى أنه يعني أن الرجل أستاذ الشعر والكتابة وأساليبهما وما دخل في ذلك من تفسير ونقد تاريخ الأدب وتحليله وتصحيح رواياته وجميع مسائله والمقابلة بين نصوصه ثم علومه الآداب المعروفة كفنون البلاغة وفنون الرواية! بينما الرجل (لا هو شاعر ذو مكانة ولا هو كاتب ذو فن وإذا أسقطنا هذين فما يبقى منه إلا خلط يسمى علما وجرأة تكون نقدا وتحامل يصبح رأيا وتقليد للمستشرقين يسميه اجتهادا وهدم أحمق يقول هو البناء وهو التجديد!)

فيا ليت شعري لو بعث الرافعي ورأى ألقاباً أسبغت اليوم على من هب ودبّ ماذا عساه أن يصف وماذا عساه أن يدَع؟!
وهكذا بدأ الرافعي نقضه لأساس الكتاب بنقض مكانة صاحبه من الأدب فذاك معلق بهذا.. و قد جعل من منهج طه حسين أنموذجاً للاشيء فهو يرى أنه لم يأتِ بجديد ولم يجدد قديما وإنما هو الشك! يقول الرافعي في ذلك:

(ومعنى ذلك أنك إذا عجزتَ عن نصٍ جديد تقرر به شيئاً جديداً فشك في النص القديم, فحسبك ذلك شيئاً تعرف به ومذهباً تجادل فيه؛ لأن للمنطق قاعدتين : إحداهما تصحيح الفاسد بالقياس والبرهان, والأخرى إفساد الصحيح بالجدل والمكابرة.) إ.هـ.

ثم يمضي الرافعي في تحديد خصائص أستاذ الآداب من وجهة نظره حيث يرى أنه يجب أن يجمع بين الخيال الإبداعي الخصب كشاعرٍ و ناثر وبين التمكن العلمي والفكري والفلسفي وهو ما يمكن أن يطلق عليه (الناقد الأدبي) وحين انتفت تلكم الخصائص عن طه حسين ووجده يتوكأ حصرياً على المنطق والمقاييس والأوزان في دراسته لتاريخ الأدب عده لا شيء!

ليخلص إلى قاعدة ذهبية رافعية في دراسة الأدب:

(والأدب من العلوم كالأعصاب من الجسم, هي أدق ما فيه لكنها مع ذلك هي الحياة والخلْق والقوة والإبداع, ولا تقاس بقياس العظام المشبوحة الغليظة, ولا توزن بميزان العضلات المكتنزة الشديدة, ولا ينفع فيها المتر ولا الكيلو.. فإن جاءك صاحب المتر أو الكيلو فاقذف به الطريق, وإن قال لك أن المتر مقسم إلى مائة جزء وكل جزء مقسم إلى عشرة أجزاء...)إ.هـ.

فتأمل!

ثم يدلف الرافعي لنقد محتوى الكتاب إذ يبدأ بقضية شعر أمية بن أبي الصلت حيث يدعي طه حسين أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم نهى عن رواية شعره بعدما رثى قتلى بدر من المشركين وهجا الصحابة مما أدى بالتالي لضياع (الكثرة المطلقة) من الشعر الوثني واليهودي, وهذا ادعاء يرى الرافعي أن طه حسين نقله عن المستشرق الفرنسي (كليمان هوار) الذي ذهب إلى أبعد من هذا وأشنع عندما رأى أن شعر أمية مصدر من مصادر القران! كبرت كلمة تخرج من أفواههم..
والحقيقة أن ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن روايته من شعر أمية هو فقط رثاءه قتلى المشركين في بدر وأكد الرافعي على أنه (ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم استنشد من شعر أمية ومازال يقول للمنشد (إيه إيه) حتى استوفى مائة بيت!)
ويستفيض الرافعي في ذكر الأدلة على بطلان نظرية محو شعر اليهود أو النصارى أو الوثنيين من قبل الصحابة بأمرٍ من الرسول أو من الخلفاء من بعده ويذكر قصة سهيل بن عمرو حين أسره المسلمون وأراد عمر رضي الله عنه أن ينتزع ثنيتيه كي لا يستطيع الخطابة فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق الرجل, فلو كان من ديدنه أن يمحوا آثار كلام المشركين وأشعارهم لوافق على اقتراح عمر في إسكات أحد وسائل المشركين الإعلامية وهي (الخطابة).

ثم يعرج الرافعي على شبهة طه حسين في قضية اختفاء الشواهد الدينية الصرفة في الشعر الجاهلي لكل من الوثنية والنصرانية واليهودية مما يؤيد نظرية المحو ثم الوضع ليقرر أن هذا من ضعف الحس الشعري عند طه حسين إذ لا يمكن تصوّر قالبٍ ديني لشعر هذه الفئة يميزه عن غيره _وفقاً للرافعي_ فالشعر عندهم مثل شعر سائر العرب فيه كافة الأغراض من فخر وهجاء ووصف ونسيب ويرى الرافعي أنّ الشعر كلما اقترب من العقائد ضعف ولان ويضرب بشعر حسان مثلاً.. إذ يذهب الرافعي إلى ما ذهب إليه الأصمعي وبعض المتأخرين من ضعف شعر حسان في الإسلام عنه في الجاهلية لالتزامه الأغراض الدينية وتوظيفه القصيد في خدمة الإسلام والدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ولعلي أقف هنا لأختلف مع هذا الرأي.. فأجدني لا أتفق مع الرافعي ولا مع الأصمعي في نظرية الضعف الفني للشعر الرصين, فإذا كان دليلهم ضعف شعر حسان فهذا مردود, لأن حسان دخل في الإسلام وهو هرم وهرمت معه قريحته فالمقارنة هنا بين شعره في شبابه في الجاهلية وبين شعره في هرمه في الإسلام غير وارده ولا عادلة. كما أنّ العيب _لو سلمنا به_ إنما يكون في الشاعر وليس بالشعر وغرضه فحتى لو كانت صنعة الشعر وجمالياته تتجلى في السواد الأعظم من الأغراض المحددة بالوصف والفخر والنسيب فهذا لا يتعارض أبداً مع إمكانية صناعة الجمال بطرق الأغراض السامية الرصينة.
فلم يكن الرافعي _فيما أرى_ بحاجة لهكذا استطراد إذ أن ما أورده من حجج كان كافياً لرد شبهة طه حسين الضعيفة المتهافتة, ومنها استشهاده بمقولة الجاحظ:
(ونصرانية النعمان وملوك غسان مشهورة في العرب معروفة عند أهل النسب, ولولا ذلك لدللت عليها بالأشعار المعروفة.) إ.هـ.

ولعل الخلاصة في نقض نظرية المحو والوضع الطه حسينية تتلخص في هذه الحمم الرافعية:

(وضع الإمام المرزباني كتاباً غير الكتاب الذي أومأنا إليه آنفاً. قال ابن النديم إنه أكثر من خمسة آلاف ورقة أتى فيه على أخبار (الشعراء المشهورين) من الجاهلية, وبدأ بامرئ القيس وطبقته, ثم المخضرمين, ثم الإسلاميين إلى أول الدولة العباسية, فهذه أخبار شعراء مائتي سنة من التاريخ, بل المشهورين منهم, وقد كتبت في خمسة آلاف ورقة, أي عشرة آلاف صفحة, لم ينته إلينا منها صفحة واحدة, فكيف مع ضياعها وضياع كثير من أمثال هذا الكتاب الجامع الممتع_ولعله أراد الممتنع_ يُقبل عقلاً من مؤرخ علمي يجلس في كرسي التحقيق أن يقرر مثل هذا الهُراء الذي جاءنا به الدكتور طه حسين في إنكار الشعر وإثباته, على حين أنه مع هذا النقص الفاضح تنقصه كذلك ملكة الشعر فما هو بشاعر يدرك بالحس كما أدرك مثل ذي الرمة حين سئل عن شعرٍ أنشده حماد الراوية في مدح بلال بن أبي بردة فقال: إنه جيد وليس له, فلما عزم بلال على حماد ليخبرنّه قال: إن الشعر قديم ولا يرويه غيري وقد انتحلته. ولجرير والفرزدق وغيرهما من الشعراء أخبار كثيرة من مثل هذا, يقرأون بنفوسهم كما يقرأون بأعينهم, فلا يحسن أن يقول المؤرخ في الشعر إلا إذا كان شاعراً يوثق بملكته فإن الحس والملكة من أقوى أسباب الرأي في مثل ذلك.) إ.هـ.

أما المنزلق الخطير في هذا الكتاب والذي نبه له الرافعي هو تلك النزعة الديكارتية التي تجلت في دعوة طه حسين إلى التجرد من كل خلفية دينية عند البحث في الأدب العربي وتاريخه مما أدى به إلى أن يتساوى عنده أن يكون القران منزلاً أو من نظم الرسول عياذاً بالله! فها هو يقول معلقاً على فرية المستشرق (كليمان هوار) التي رأى فيها أن شعر أمية بن أبي الصلت مصدرٌ من مصادر القران:
( ليس يعنيني هنا أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أو لا يكون) صفحة 38.

يقول الرافعي معلقاً على هذه الزندقة:

(فالأمر عنده على حد الجواز كما ترى, وليس يعنيه أن يكون دينه ودين أمته صحيحاً أو كذبا... ولو كان طه حسين بليغاً من أئمة البلاغة لقلنا: رأي رآه وإن كان كفراً وإلحاداً, ولكنه هو هو هو... على أن كلامه في هذا الكتاب عن القرآن الكريم كلام من نسي دينه بل كلام من لا دين له فليس في الأمر عنده معجزة ولا إعجاز ولا تنزيل) إ.هـ.

ثم ينهي الرافعي الكلام في هذا الفصل برد شبهة طه حسين الساذجة والتي كرسها وكررها ظاناً أنه يفحم بها أصحاب المذهب القديم وهي أن اختلاف لهجات العرب كان يجب أن يترك اثراً في موسيقى ووزن الشعر الجاهلي مما يؤكد أنه موضوع بعد الإسلام !
ويبدو لي أن الرد على هذا التسطح الفكري لم يأخذ من وقت الرافعي دقائق معدودة, فما علاقة اللهجات بالإيقاع والبحور والأوزان ؟! وغاية ما يصل إليه اختلاف هذه اللهجات هو (إبدال حرف بحرف أو حركة بحركة أو مدّ بمد), تنصهر كلها في القالب العمومي للشعر دون أن تُأثّر فيه.
وأورد الرافعي مثالاً لذلك قول شاعر من بني تميم:

(ولا أكول لكدْر الكوم قد نضجت ,,, ولا أكول لباب الدار مكفول
يريد: لا أقول لقدر القوم الخ, وهي القاف المعقودة التي ينطقونها بين القاف والكاف, وقد كانت شائعة في العرب, وهي غير القاف الخالصة التي يقرأ بها القرآن, فهل روي كلّ شعر بني تميم على هذا الوجه؟ وماذا لو أبدلت الكاف في البيت قافاً لتوافق اللغة الفصحى في الإنشاد؟) إ.هـ.

و يختم الرافعي الحديث في هذا الفصل المثير بلغة الواثق وبعد أن أودع خصمه في العراء بتوقيعٍ تهكمي:

(فالدليل الذي حسب أستاذ الجامعة أنه ليس أقوى ولا أعضل منه في بابه هو كما تراه أوهنُ أدلته وأسرعها اضمحلالاً, فكيف بغيره مما تمحل وتكلف له التلفيق؟
إذا أخذت قيسٌ عليك وخِندِف ,,, بأقطارها لم تدرِ من أين تسرَحُ) إ.هـ.


يتبع..

د. محمد حسن السمان
11-02-2006, 05:21 AM
سلام الـلـه عليكم
الاخ الفاضل الاديب الاستاذ عبد الرحمن خلف

اعود متابعا لقراءتك للرافعي , مقرا لك من جديد بقوة
يراعك وتمكنك الرائع , ولقد وقفت عند اكثر من مسالة ,
ولكنني وقفت طويلا عند مسألة استاذ الادب العربي بين
الرافعي وطه حسين , لاننا في مرات عدة كنا في هذه الواحة
المباركة , نناقشها , ونناقش مسألة النقد الادبي والناقد الادبي ,
ولم يدر بخلدي قبلا ان الموضوع يمكن ان يكون بهذا الوضوح
عند الرافعي , حتى اتيت عليه بامعان من خلال القراءة التي قمت
بها مشكورا , واقتبس مايلي :
------------------------------------
ثم يمضي الرافعي في تحديد خصائص أستاذ الآداب من وجهة
نظره حيث يرى أنه يجب أن يجمع بين الخيال الإبداعي الخصب
كشاعرٍ و ناثر وبين التمكن العلمي والفكري والفلسفي وهو
ما يمكن أن يطلق عليه (الناقد الأدبي) وحين انتفت تلكم الخصائص
عن طه حسين ووجده يتوكأ حصرياً على المنطق والمقاييس
والأوزان في دراسته لتاريخ الأدب عده لا شيء!

ليخلص إلى قاعدة ذهبية رافعية في دراسة الأدب:

(والأدب من العلوم كالأعصاب من الجسم, هي أدق ما فيه
لكنها مع ذلك هي الحياة والخلْق والقوة والإبداع, ولا تقاس
بقياس العظام المشبوحة الغليظة, ولا توزن بميزان العضلات
المكتنزة الشديدة, ولا ينفع فيها المتر ولا الكيلو.. فإن جاءك
صاحب المتر أو الكيلو فاقذف به الطريق, وإن قال لك أن المتر
مقسم إلى مائة جزء وكل جزء مقسم إلى عشرة أجزاء...)إ.هـ.

----انتهى---------------------------

لقد امتعتنا وافدتنا ايها الاستاذ الفاضل , واعود لاشكرك من كل
قلبي لهذا الجهد الكبير الصادق .

اخوكم
السمان

عبدالرحمن الخلف
14-02-2006, 09:55 PM
بل الشكر لك يادكتور محمد على هكذا تفاعل مع مخطوطتنا الفقيرة..

ولاشك أن ما اقتبست كان وسيظل محل جدل بين النقاد..

وأكاد أجزم أن الرافعي رحمه الله أحكم قبضته على مصطلحات الأدب بحرفية فائقة ودقة ممتنعة فلقد أوتي ما أوتي من ملكات النظر والتحليل والتعالق بشكل يندر على مدى قرون.. دون أدنى مبالغة..

لك تقديري العميق,,

زاهية
15-02-2006, 02:29 PM
بارك الله فيك أخي الكريم عبد الرحمن الخلف على هذا الجهد الكبير ونفع بك وبه الأمة.
سأعود لقراءة الموضوع كاملاً بإذن الله فأنا من المحبين جداً لأدب هذا العملاق الرائع الرافعي .
أختك
بنت البحر

عبدالرحمن الخلف
17-02-2006, 10:50 PM
الأخت زاهية
مرحبا بك أيتها النقية..
بانتظار قراءتك وتعليقاتك..

تقديري,,

عبدالرحمن الخلف
17-02-2006, 11:28 PM
(كتاب الشعر الجاهلي)
يورد الرافعي في هذا الفصل نص خطاب لجنة العلماء إلى شيخ الأزهر والذي حذرت فيه من تدريس كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) في الجامعة وطالبت بوضع حدِّ للفوضى الإلحادية الواردة فيه, وقد فصلت اللجنة في المآخذ الشرعية والتاريخية على الكتاب وفندت كافة الحجج الواردة فيه ثم خلصت في ختام الخطاب إلى الآتي:

(فاللجنة ترفع لفضيلتكم ما وصلت إليه على سرعة من الوقت مما سطره المؤلف من الكفر الصريح, وتترك ما ينطوي في ثناياه من الإلحاد والزندقة مما لا يخفى على الناظر.
نرفعه مطالبين فضيلتكم والحكومة بوضع حد لهذه الفوضى الإلحادية, خصوصاً التي تنبت في التعليم لهدم الدين بمعول الزندقة كل يوم, فما نفرغ من حادثة إلا ونستقبل حوادث لا تدع المؤمن مطمئنا على دينه.
نطالب فضيلتكم والحكومة بذلك حرصاً على أبناء الدولة أن يتفشى هذا الداء فيهم, وهم رجال المستقبل وسيكون بيدهم الحل والعقد في مهام الأمور.
ونحن لا نفهم كيف تصرف أموال المسلمين وأوقافهم على تعليم نتيجة هذا الإلحاد الذي يبثه الداعي ويقاضى عليه مرتباً ضخماً من هذه الأموال.
وهل بهذه الطريقة وعلى هذا النحو تخدم وزارة المعارف أبناء الأمة ورجال الغد وتبني صرح التعليم والتربية؟
نسأل الله أن يوفقكم لما فيه المصلحة والسلام.
26 شوال سنة 1344هـ
الإمضاءات
محمود الديناري. عبدالمعطي الشرشيمي. محمد عبدالسلام القباني. عبد ربه مفتاح. عبدالحكيم عطا. محمد هلالي الأبياري. عبدالرحمن المحلاوي. محمد علي سلامة.)إ.هـ

ونلاحظ هنا قوة الخطاب وحسمه للأمر وعدم تمييعه, ليت شعري أين علماء اليوم من هذا؟!

ثم يعرض الرافعي ردة فعل "طه" على الخطاب:

قلنا فما كان بعد ذلك إلا أن خنَس أستاذ الجامعة وذهبت كل شجاعته الأدبية في رغيف من الخبز ... وأصبح دينه بين عقله وبطنه , فجعل له خوف الجوع ديناً , وخشي أن يخرجوه من الجامعة فرفع هذا الكتاب إلى مديرها لينشره على الأمة , قال:

حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل مدير الجامعة المصرية

أتشرف بأن أرفع لعزتكم ما يأتي :

كثر اللغط حول الكتاب الذي أصدرته منذ حين باسم: (في الشعر الجاهلي) وقيل إني تعمدت فيه إهانة الدين والخروج عليه, وإني أعلّم الإلحاد في الجامعة , وأنا أؤكد لعزتكم أني لم أرد إهانة الدين ولم أخرج عليه, وما كان لي أن أفعل ذلك وأنا مسلم أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, وأنا الذي جاهد ما استطاع في تقوية التعليم الديني في وزارة المعارف حين كلفت العمل في لجنة هذا التعليم , ويشهد بذلك معالي وزير المعارف وأعوانه الذي شاركوني في هذا العمل , وأؤكد لعزتكم أن دروسي في الجامعة خلت خلواً تاماً من التعرّض للديانات , لأني أعرف أن الجامعة لم تنشأ لمثل هذا.
وأنا أرجو أن تتفضلوا فتبلغوا هذا البيان من تشاؤون وتنشروه حيث تشاؤون وأن تقبلوا تحياتي الخالصة وإجلالي العظيم .


طه حسين


فكتبنا المقالة الآتية :


فلما أدركه الغرق

عندي نسخة من ((كتاب كليلة ودمنة )) ليس مثلها عند أحد , ما شئتُ من مثل إلا وجدته فيها , وقد رجعت إليها اليوم (13 مايو سنة 1926) فأصبت فيها هذه الحكاية .
قال كليلة : أمَا تضربُ لي المثل الذي قلت يا دمنة ؟ قال دمنة : زعموا أن سمكة في قَدْرِ ذراع كانت في غدير , فلما سال به السيل جرى بها الماء إلى نهر قريب , فدخلها الغرور فقالت : هذا لعمري ميراث أبي قد كنت عنه غافلة , وما أكثر ما يضيّع التهاون والعجز ! ثم إنها لبثت في النهر ما شاء الله حتى خرج بها التيار إلى البحر , فقالت : يا ويلتا , أعجزت كل هذا العمر عن ميراث أعمامي! ... ثم ما زالت في ميراث أعمامها حتى قذف بها الماء إلى المحيط فاتسع لها منه ما يسعها ... فقالت : قبّح الله العجز ولو من كسلٍ وهُوَينا , لقد كدت أُسلَبُ ميراث أجدادي! ... لولا أن من دمهم فيّ لم يزل يدفعني ولم يزل يسمو بي . ثمّ إنها طفت يوماً على الماء فإذا الأسطول الإنجليزي يمخر العُباب إلى جبل طارق في عشر بوارج وعشرين مدرعة ومائة سفينة طوربيد وخمسين غواصة , فطار بها الغيطُ قطعا وقالت : من هذا الوقح المتهجم على ميراث أجدادي لا يخشى أن يقتحم علي وقد حميت هذا الملك من حيث يجري الماء إلى حيث يبلغ الماء ؟ ثم إنها شدّت نحو الأسطول وهي تخبط بذنبها من الغيظ تريد أن تضربه بهذا الذنب ضربة تلوي به , ولكن الأسطول كان بعيداً , ثم إنه كان سريعاً , ففاتها فقالت : أولى لك , ما نجا بك والله إلا حِدّة الهرب وسرعة الفرار .
قال دمنة : ثم اضطجعت على الماء تسكن من غضبها فنامت واسترخت , فمر بها زورق صيد , فما أحسّت إلا الشبكة وقد أخذتها , فغاصت في الماء وجعلت تختبط عالية سافلة لا ترى مذهباً ولا مفرّاً , فلما أعياها ذلك وبلغ منها الجهد قالت : أيتها الشبكة , دعيني , فوالله ما قلت إن المحيط ميراث أجدادي ولا البحر ميراث أعمامي ولا النهر ميراث أبي!
قالت كليلة: فمثل من هذا يا دمنة ؟ قال : مثل طه حسين في كتابه لمدير الجامعة ...)إ.هـ.

ياااه .. أي بيان هذا ؟!
أرأيت الكمّ الهائل _أعلاه_ من الاستعارات والصور وهذه الإشارات الساخرة العميقة الدلالة التي أصاب بها خصمه في مقتل ..؟ ولا أنسَ التناص العميق في عنوان المقالة (فلما أدركه الغرق.. ) بالفعل لا وصفَ أبلغ وأدق وأقسى من هذا الوصف القرآني البليغ .. وبالمناسبة يكاد يكون اختيار العنوان من أصعب المهارات لدى الكاتب , لأنه المفتاح السحري لباب الفكرة التي يتمحور حولها النص لتنتقل من عقل صاحبها إلى عقل المتلقي دون مطبات .
لقد تكاملت لدى الرجل كافة قوى الإبداع وأحاط بفكرته إحاطةً يعجب منها الأديب قبل العامي .. أرأيت قوله: ( وقد حميت هذا الملك من حيث يجري الماء إلى حيث يبلغ الماء ) أتراه اخترع مفردات هنا ؟ أم هو يقول كلاماً كلنا نعرفه ولكننا لم نجد الشكل البديع الذي يخرج به ؟ إن هذه الجملة وحدها مدرسة في البلاغة .. ولها من السحر ما يجعلك تفرق بين السمين و الهزيل .

ولي وقفة لغوية هنا مع مفردتين لم أستسغهما مِن مَن هو بمثل أدب الرافعي , الأولى قوله :
(فطار بها الغيطُ) مفردة الغيط هنا شاذة عن المعنى فكل معاني الغيط التي بحثت عنها في (لسان العرب) لا تشير بحال إلى المعنى الذي أراد وهو (شدة الغضب) فمعنى (الغيط) كما يقول ابن جني : الغائط ومن الشاذ قراءة من قرأ : (أَو جاء أَحد منكم من الغَيْطِ) .
وقد تأكد لدي بعد هذا أنها غلطة مطبعية حيث سقطت نقطة الظاء في (الغيظ).

المفردة الأخرى (تختبط) في قوله : (وجعلت تختبط عالية سافلة ) والتي لا أدري أكانت خطأً مطبعياً هي الأخرى ؟! أم أنه أرادها كما هي ؟! جاء في لسان العرب : (والناقةُ تَـخْتَبِطُ الشوكَ: تأْكله؛ أَنشد ثعلب: حُوكَتْ علـى نِـيْرَيْن، إِذْ تُـحاكُ؛ تَـخْتَبِطُ الشَّوْكَ، ولا تُشاكُ .
و الـمُخْتَبِطُ: الذي يَسْأَلُكَ بلا وسِيلة ولا قَرابةٍ ولا معرفة) ج7ص282
ولعله أراد (تتخبط).

ثم أورد سبعة اعتراضات على الكتاب القضية , كل واحد منها يقول لصاحبه : أنتَ أبدع لغةً وأمضى حجة ..
أختارُ منها :

(5- ألَا تنطق عبارة الكتاب أنه ما كتب إلا لغرضين : أولهما أن (تبلغه) الجامعة الحكومة كأنه حلٌ للمشكلة معها, والثاني أن (تنشره) الجامعة في الصحف كأنه حلٌ لمشكلتها مع الأمة. فهل مع مثل هذين الغرضين يكون للنية السليمة موضع أو للإيمان محل في هذا الكتاب ؟

7- هل يظن طه أن الأمة وعلماءها وأدباءها من البلاهة والغفلة بحيث يقنعهم هذا العذر البارد, عذر 12 مايو؟
إلى أن خلص إلى قوله :
هذه سبعة اعتراضات لابد من ردها قبل أن نصدق سمكة دمنة!)إ.هـ.

يتبع ..

زاهية
18-02-2006, 12:21 AM
ماشاء الله قرأتُ الموضوع كله ومن خلاله عدت إلى أيام دراسة الأدب الجاهلي في جامعة دمشق وما كان يدور في المحاضرات من أحاديث تنتقد طه حسين وحماد الراوية وقولهما بأن الشعر الجاهلي لم يكن موجوداً وإنما كتب بعد الإسلام وكل ماأوردته هنا بارك الله فيك .
لقد قدمت في هذا الموضوع مادة مفيدة جداً ومختصرة ببراعة لمن يريد الاطلاع على حقيقة طه حسين الذي مازال يُقال عنه عميد الأدب العربي وهو عدوه بما فجر من شكوك تسيءإلى اللغة والقرآن .ربما كانت أفكاره الاستعمارية التي تشربها من أسياده الفرنسيين لها دور باعتناق الكثيرين من الأدباء الشبان في ذلك الزمن لأفكاره التخريبية ولكن نحمد الله أن هذا الزمن الذي نحن فيه ورغم الموروث الهائل من أفكار التجديد المغرضة فإن هناك صحوة أدبية عامة تواجه المنحازين للحداثة والتغريب.
سأتابع هذا العطاء الرائع بإذن الله
مع دعواتي لك بالخير والتوفيق
أختك
بنت البحر

عبدالرحمن الخلف
18-02-2006, 05:49 AM
أخت زاهية
لا شك أن هناك صحوة ما ومما لاشك فيه أن معظم أطروحات التغريب الثقافي ونبذ الموروث والانسلاخ من الهوية باتت منتهية الصلاحية اليوم وقد تعرت وتصحرت لأنها نشأت في وسط لا يقبل بها ففقدت مقومات الحياة.. وتعفنت ولا يصح إلا الصحيح وأظن أننا بحاجة ماسة لإعادة دراسة تلك الفترة من تاريخ الأمة لأن الأدوار الان باتت تتشابه والوجوه تتطابق فما أشبه الليلة بالبارحة.. والاستفادة من الرواد الذين مثلوا جبهة صلبة في وجه الاستعمار الفكري هامة بل واجبة..
وهذه الصحوة التي أشرت إليها تحتاج للنضج والتبلور بشكل يضمن لها الموازنة بين مقتضيات المرحلة وثوابت الأمة..

شكراً لوقتك ووعيك,,

عبدالرحمن الخلف
18-04-2006, 12:00 AM
أستاذ الآداب والقرآن:
إلى هيئة كبار العلماء ومجلس إدارة الجامعة

يواصل الرافعي في هذا الفصل تفنيد كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) بشكل أكثر حدة ولعل الشواهد التي أوردها _كما سيتبين لك لاحقاً_ تستحق هذه الحدة إذ أنها جمعت بين الإلحاد والتناقض وانعدام الموضوعية فكفى بها مدخلاً لسحل الرجل ببطئ كما يفعل هنا الرافعي، إذ أنه لم يكتفِ بقذف حممه اللغوية المعتادة ضد خصومه بل حلل مَحاور الجدل وفندها تفنيداً مانعاً جامعاً يلقف ما صنعوا.

ويبدأ الرافعي هذا الفصل بتعليقه على مقولة لأديب نصراني قال فيها فيما معناه أن رسالة علي عبدالرزاق (الإسلام وأصول الحكم) (والتي ثارت حولها ضجة أدت بالأزهر إلى تجريد الرجل من صفته ووظيفته ونسبته إلى مايشبه الكفر) إنما هي تسبيح لله في جنب كتاب طه هذا الخ.. فيعلق الرافعي على هذا بقطعة أدبية أثملتني:

(وكتاب طه حسين هو تسبيح لله في جنب مايكون في نفس طه حسين، فلولا دين الحكومة والقضاء والنيابة _كما يقول هو في كتابه_ لكان قد هدم السماء والأرض وترك الآخر يلعن الأول ولافترى بين يديه ورجليه ويسرته ويمناه وما فوق وما تحت، سخطةً على الدين وكتابه, والإسلام ونبيه, وعلى الأمة وعلمائها؛ وهو على ما يعرف من دين الحكومة والقضاء والنيابة لا تراه ينظر في معنى من معاني الإسلام إلا جاء بشرّ النظرين وأشدهما جهلاً وحمقاً؛ وتراه يزهى في كتابه بأنه ممن "خلق الله لهم عقولاً تجد من الشك لذة وفي القلق والاضطراب رضا" )إ.هـ.

ولاحظ هنا أن الرافعي بدأ هذا الفصل بعمومية لا تضيف شيئاً لمحور الموضوع بقدر ما تضيف بعض المقبلات للقادم من دسم المناظرات، ولعلي هنا أقف لأستلهم درساً من هذا المعلم الشامخ حيث تلاحظ اكتمال أدوات النقد والتحليل لديه بشكل يفوق الوصف على العكس من كتّاب ومنظري هذا الزمان إذ يندر من تجده يجمع بين الصياغة الأدبية وبين المنهج العلمي في البسط والتحليل عند محاورة المخالف فهناك من يتقن الأولى ويغفل الثانية؛ فتنعدم الجدوى من الحوار إذ لا يكاد المتلقي يخرج بتصور واضح حاسم في القضية محل الصراع, كما تجد من يغفل الأولى مع الإغراق التام في الثانية، وهذا وإن كان يطرح طرحاً ممنهجاً ذا بال، إلا أنه لا يكاد يجد القبول لدى شريحة كبيرة من المتلقين لنخبوية ما يطرح من جانب ولإغفاله عنصر الصياغة الأدبية الجذابة من جانب آخر، أما الرافعي _وتحديداً هنا_ فتجده يجمع بين العنصرين بحرفية تامة.

وقبل أن يبدأ الرافعي تفصيل الشبهات الواردة في الكتاب يبين الهدف الجلي من اهتمامه بهذه القضية إذ يقول مؤصلا:

( ولو نعلم أن كتابه وإلحاده حديث بينه وبين نفسه أو بينه وبين مثل "كازانوفا" _أستاذ مستشرق في الجامعة المصرية_ لأهملناه، ثم لما كان حكمه عندنا إلا ما قال الله تعالى: {فَمَن أبْـصر فَلنفْسِه ومن عَمِيَ فَعَليهَا} ولكن كتابه دروس ألقاها في الجامعة, على طلبة يقول هو أنهم زهاء مائتين؛ فلقد أمِر أمره إذن بقوة هذه الجامعة، وأصبحت الجامعة هي المتهمة بإزاغة عقيدة مائتي طالب، وصارت في معناها العلمي كمستشفيات المبشرين في معناها الطبي... ومن ثم وجب على أئمة الدين أن يحيطوا عقائد أبنائنا وإخواننا، وأن يزعوا الجامعة ويردّوا جماحها ويكسروا شِـرّتها، وإلا شركوها في الإثم وأعانوها عليه، وقد أبلغنا فاللهم اشهد؛ وإنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب! )إ.هـ.

ثم يبدأ عرض المسائل التي أثارها طه حسين والتي تنوعت بين ما هو إلحادي فج، وبين ما ينبي عن سقامة في الفهم وجهل بالصناعة، ولعلي أختار مسألتين أو ثلاث هنا مع أن المتعة لا تكمل دون التهام الفصل وما حوى كاملا.

في مسألة تكذيب طه لوجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ومن ثم تكذيب هجرتهما إلى مكة لا مجال للين أو التسامح فالوقاحة والجرأة قد بلغتا مبلغهما فهاهو الرافعي يهجم بحروف كالسيوف قائلاً:

( يقول _يعني طه_في صفحة 26 " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل, وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً؛ ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل وإبراهيم إلى مكة... قال: ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة, وبين الإسلام واليهودية، والتوراة والقرآن من جهة أخرى " . انتهى...
فانظر هذه الوقاحة في قوله " للقرآن أن يحدثنا " كأنه زعم زاعم له أن يقول وأن لا يقول؛ وإذا لم يكف النص في كتاب سماوي تدين له الأمة كلها لإثبات وجود المنصوص عليه فما بقي معنى لتصديقه, ومابقي إلا أن يكون القرآن كما يزعم المستشرقون أساتذة طه حسين وأولياؤه كلاماً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم نفسه, ومن نظمه وعمله كما نقل عن هذا الخرف المسمى كليمان هوار؛ فهو يدخله ما يدخل كلام الناس من الخطأ والغفلة والحيلة والكذب، فله أن يزعم ماشاء ولكن ليس علينا أن نصدق أو نطمئن، وإذا هو ذكر اثنين من الأنبياء، وإذا هو ورد فيه قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} فذلك غير كاف في رأي الجامعة المصرية لإثبات أن إبراهيم وإسماعيل شخصان كان لهما وجود تاريخي.)إ.هـ.

إلى أن يقول:

( أولا يعلم أستاذ الجامعة أن النصوص واردة بأن العرب لا يعدون اليهود منهم وإن كانت الدار واحدة واللغة واحدة، فما حاجتهم إلى حيلة روائية سخيفة، وهم لم تُفصّل طباعهم على طباع طه حسين, ليكذبوا وينافقوا وهم يعلمون أنهم كاذبون منافقون، على حين أنهم مستيقنون أن اليهود أهل كتاب وعلم فلا يقبلون من أمة جاهلة أن تضع لهم التاريخ، ثم كيف دخل هذا الكذب واندست هذه الحيلة في القرآن؟ نبئوني "بعلم" إن كنتم صادقين. )إ.هـ.

فتأمل هذا الدفق الفكري المتراص العجيب وانظر للرجل كيف يحيط بالفكرة ويحكم جوانب القضية ثم يشكل ذلك كله بقالب أدبي بديع رصين، كما أنه وكما أسلفنا لم يسرف في الشخصنة حد تفلت الموضوع الرئيس منه وهذه يجب أن تدرس لكل مريد للكتابة النقدية ولكل محاور مجادل.

أما ما لفت نظري في هذا الفصل فهو إشاراته غير المنطقية إلى "الجامعة المصرية" في غير موضع في هذا الفصل وغيره وتحميلها خطورة الأفكار الواردة في كتاب طه حسين مثل :
(غير كاف في رأي الجامعة المصرية)(وإذن فالقصة في رأي الجامعة المصرية) (انتهى كلام الجامعة المصرية)الخ.. والمسألة وإن بدت نابعة من الجامعة على الظاهر ولكنه ما كان ينبغي له أن يستعدي الجامعة في قضيته _قضية الأمة_التي لا شك كان يحتاج فيها لحشد التأييد الجمعي قدر الإمكان، والغريب أنه كان يثني على السيد (لطفي بك السيد) مدير الجامعة في أكثر من فصل ويصفه بأوصاف فخمة مثل: العبقري_الفذ_ الغيور_ الأديب الأريب_ عقلٌ من العقول النادرة في مصر بل والشرق كله الخ.. فلربما عُد هذا تناقضا، كما أنه بهذه الإشارات التي يوجهها نحو الجامعة في صلب مناقشة أفكار الكتاب يخرج عن الموضوعية فيما أرى، وأعلم أن ما كان يرمي إليه كان أبعد وأعمق من نقد كتاب لطه ولكنه كان يحتاج إلى التكتيك الحذر في هكذا موقف.

ومن الاستطرادات التي خرجت عن الموضوعية في هذا الفصل ما جاء في قوله:

(لقد تناولت الآن هذا الكتاب الكريم عندما انتهيت في الكتابة إلى هذه الكلمة وسألت الله أن يخرج لي آية تشير إلى طه حسين وغروره وحماقته وتخاليطه، ثم فتحته على هذه النية فوالله لقد خرج قوله تعالى: {إنّ الذين لا يؤمنون بالأخرة زينّا لهم أعمالهم فهم يعمهون} ويا أسفاً ثم يا أسفاً_ ثلاث مرات، كما يقول الفرنسيون _ لو فهم طه ما في قوله:{زينّا لهم أعمالهم} إذن لأكل نصف أصابعه عضاً من الندم! )إ.هـ.

فهذا الكلام لا يضيف قيمة علمية لصلب الموضوع كما أنه لا يقوي _وهو الأهم_ موقف الرافعي تجاه المد التغريبي، كما لا أظنه يفيد القارئ بشيء.

ومن أعجب المحاور في هذا الفصل وأميزها تفنيد الرافعي لنظرية الحياة الفلسفية والعقلية لدى العرب في الجاهلية التي اخترعها طه؛ فجاء عرضه مفصلاً دون إطناب نافذ الحجة حيث عرض هذه النظرية على الشواهد القرانية والتاريخية ثم عرضها على عقله _ وأي عقل_ثم خرج بتصور عن جهل النظرية وصاحبها جهلاً مركباً فبدأ بحرقها ثم نسَفَها في اليم نسفا.

واسمحوا لي معشر القراء الأفاضل أن آتي بجل كلام الرجل في هذا الباب لأنه يعد قطعة جمالية واحدة لا يمكن بترها حين يقول:

( وفي ص20 من كتاب طه حسين ترى الجهل المركب تركيباًمزجيّاً كبعلبك ومعديكرب... فهو يزعم أن القرآن يمثل للعرب حياةً عقلية قوية في الجدال الديني والفلسفي، لأنه وصفهم بشدة الخصام، قال: " وفيم كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون؟ في الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم " فيا فضيحة الجامعة المصرية في جامعات الأمم! ألا يتفضل أستاذها على الأدب والتاريخ فيذكر لنا مجلساً واحداً من هذه المجالس العربية الفلسفية ومادار فيه من البحث والتحقيق والجدل والخصام والمحاورة في معضلات الفلاسفة التي ينفقون فيها حياتهم، لنصدق أن معنى اللَّدد والخصام الواردين في القرآن صفةً للعرب إنما هو الحوار في مسائل الدين والجدال في معضلات الفلسفة؛ أمِن حججهم الفلسفية كانت تلك الحجارةُ التي نص التاريخ على أنهم كانوا يقذفون بها النبي صلى الله عليه وسلم حتى يُلجئوه إلى الحائط، وذلك التراب الذي كانوا ينثرونه على رأسه؟ أم قولهم: شاعر وساحر وكذاب ومجنون، ونحوها مما يدخل في باب الحمق والسفاهة والاستهزاء؛ ومتى كانت هذه من صفات الفلاسفة يا شيخ الجامعة؟ أم كان من حججهم الفلسفية حين عرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام ويتلو عليهم القرآن أن أتبعوه عمَّه عبدالعزّى يقول من ورائه " يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب" ؛ أو كانت مجالسهم العلمية والدينية والفلسفية حين كان صلى الله عليه وسلم يجلس فيدعو الناس ويتلو عليهم القرآن ثم يقوم فيأتي عالمهم ومتكلمهم النضر بن الحارث فيخلفه في مجلسه ويقص على الناس من أخبار ملوك فارس ويقول: " والله ما محمد بأحسنَ حديثاً مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتُها!...
إن معنى الخصام واللدد أنهم سفهاء أهل تكذيب وعناد ومكابرة وتأبّ على من يريد هدايتهم وإرشادهم، لا يمكن صرفهم عن رأي يكون فيه الهوى، كما لا يمكن مثل ذلك في الجاهل الأحمق المصرّ المبتلى بالاستهتار والشك، فإن أصل الألدّ في اللغة الشديد اللدد أي صفحة العنق، فلا يلوي عنقه في الصراع، وذلك من أكبر الأدلة على وثاقة تركيبه الجسماني فإن عنق المصارع ثلث المصارع، ولقد كانت هذه الطباع الجاهلة الحمقاء المكابرة من أوضح الأدلة على إعجاز القرآن، لأنه مع إصرارها بلغ منها، ومع عنادها أثّر فيها ببلاغته، فلو كانوا كما زعم طه" أصحاب علمٍ وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة " لما كانت هدايتهم شيئاً يذكر في باب المعجزة.
أولسنا نرى اليوم في الأمم المتحضرة الرقيقة ذات النعمة الفاشية من ينقادون أسهل انقياد وأسرعه لكل ذي مذهب، حتى لعبادة الشيطان في أمريكا بلاد كل شيء ذهبي...؟ )إ.هـ.

فتأمل هذا التفكيك المنطقي المفحم، وهذا المخزون اللغوي الذي كان حتماً أداة من أدوات الحسم لدى الرجل وقد كان يمكن لأي منبهر بالتجديد والجديد أن تنطلي عليه هذه الشبهة على اعتبار عدم مساسها _مباشرة_ثابتاً من الثوابت ولكن صاحبنا أوتي من العمق والبعد الفلسفي المؤصل بعقيدة صافية مالم يؤتَ أحدٌ من العالمين.

يتبع...

خالد علي الناصر
22-04-2006, 07:33 PM
أستاذي الكريم
أنا من أشد المعجبين بأسلوب الرافعي
وكم أعجبني تذوقك الأدبي لنصوصه الفذة

تحياتي لشخصكم الكريم

عبدالرحمن الخلف
23-04-2006, 08:55 AM
أهلاً بك أخي ناجي

أنست بحضورك ووعيك... فلك التحية والتقدير.


*************


(موقف حرج لوزارة المعارف)

في هذا الفصل يواصل الرافعي تفنيد كتاب طه بمزيد من الطرْق والتعرية, ورغم أن عنوان الفصل يشير إلى أنه موجه لوزارة المعارف ورغم أن صدر الكلام يشير إلى ذلك أيضا، إلا أن الفصل احتوى على تكملة للرد على شبهات الكتاب بالتفصيل، وعلى أية حال فطبيعة المقالات كانت تستدعي التنويع في العناوين وشيئاً من الإثارة _المحمودة_ .

بدأ الكلام عن وزير المعارف ووصفه بالعلم والذكاء وحدة الخاطر والفراسة ليخاطبه مستغرباً من سر سكوته عن استمرار تدريس كتاب طه في الجامعة ومما قاله :

( والآن يامعالي الوزير الكبير قد تناولت كتاب الأستاذ طه فحصرك في موضع أحكم شد ثلاث من جهاته الأربع بحيث لا رجعة فيه ولا تحوّل وليس إلا المضيّ بعزيمة لا تنفع فيها الهوينا وحزم فرغت كل الحيل منه وفرغ منها؛ ذلك أن وزارة المعارف تدرس هذا العلم الذي يسمى آداب اللغة في مدارسها الثانوية ومدرسة دار العلوم والقضاء الشرعي، وقد جاءت المدرسة الكبرى التي تسمى الجامعة فسفَّه أستاذها كل هذه المدارس ونفى ما يعلّم فيها من ذلك الفن وأفسده وقال بخطئه من أصوله إلى فروعه، فما يسمى في تلك المدارس شعر امرئ القيس وعَبيد وطرفة وعمرو بن كلثوم وغيرهم تسميه الجامعة كذباً وتدليساً وخرافة, وما يقال له هناك إعجاز القرآن يوصف في الجامعة بأنه خرافات وأكاذيب الأعراب واستغلال ديني أو سياسي وهكذا...) إ.هـ.

وهو بذلك يريد أن يشير إلى خطورة هذا المنهج وأنه باب شر لو انفتح لأتى من خلاله كل هادم للموروث الشرعي والأدبي بدعوى التجديد ظاهراً وبتنفيذ مخطط المستعمر باطناً، وتبلغ ذروة الحجة عند الرافعي في هذا الفصل عندما يحدد النتيجة المنطقية لاستمرار تدريس كتاب طه فهي لا تتعدى اثنتين فإما أن تكون كافة كتب مدارس الوزارة خطأ محض لا قيمة لها يجب تصحيحها وإعلان ذلك في الصحف! أو أن يكون كتاب طه سخيف باطل!

ثم يصف الرافعي حال الوزارة مع هذا الكتاب بجملة ذهبية خالدة قائلاً:

( فأما أن يكون نصف العلم يكذب نصفه في وزارة واحدة بحيث يجيء الأعلى نقضاً على الأسفل فهذا ما لا نكاد نعقله )إ.هـ.
وكأني بوزير المعارف وقد تصبب جبينه عرقاً من فرط الحجج النافذة التي يقرأها في هذا الفصل!

ثم لابد للرافعي أن يضع البصمة الساخرة ذات النكهة الفائقة في موضعين أحدهما قوله:

( ثم نرجو أن لا تنسى الوزارة_ إذا صح عندها كتاب طه حسين فأمرت بتصحيح العلم والتاريخ _ لا تنسى أن تأمر وزارة الأوقاف يومئذ بإنارة مآذن جامع القلعة... ليعلم الأزهر الشريف أن ما أقيمت عليه علوم العربية واللغة والبلاغة والتفسير من الشواهد الكثيرة المنسوبة إلى شعراء الجاهلية, وأن القرآن وبلاغته وإعجازه وأخباره, كل ذلك يجب الصوم عنه منذ اليوم, لأن أستاذ الجامعة أثبت لوزارة المعارف أنه رأى <<هلال الشك>>...) إ.هـ.

والآخر في وصفه الجامعة وهي تدرس الكتاب:

( إنها تشبه رجلاً به مسّ فزُيِّن له أن يخالف الناس لأن جنونه أوهمه أنهم مجانين وأن العاقل مثله يجب أن يتميز منهم ليُعرف بينهم فلا تجري عليه أوصافهم، ثم رأى أنه لا يُعرف بينهم إلا بالمخالفة حتى يبين منهم فـ... فـ... فوضع رأسه في حذائه ومشى...) إ.هـ.
وإنني إذ أشرت مسبقاً إلى عدم موضوعية مثل هذه الاستطرادات والمبالغة في التهكم إلا إنني أقول هنا لعل في الأمر خيره! فلربما حرمنا_دونها_ من هذا الحشد البلاغي الهائل الذي صبغ الرد العلمي بصبغة أدبية عِلْقة فكانت بمثابة اللمسة النهائية للرسام على لوحته.
ثم يستأنف الرد على أغاليط طه حسين بسهام لا تخطئ الهدف، فقد بين في هذا الفصل كيف أن طه خان الأمانة العلمية والقارئ بتحويره بعض النقولات لتخدم فكرته وتقوي موقفه, وقد أثبت الرافعي بهذا مهارة علمية فائقة وفطنة فطرية عجيبة، بدقة ملاحظاته حول الفرق بين الأصلي والمحرف في ما نقله طه عن (ابن سلام) وقد أبدع الرافعي في التهكم أيما إبداع عندما سمى هذه الممارسة من طه (ترجمة) يقول في هذا:

( لقد عثرنا في كتاب أستاذ الجامعة على نوع غريب من الترجمة، وهو ترجمة من أصول الخطأ في فكر الرجل أو فكره أصل فيه، ولا تحسبنها ترجمة من الفرنسية أو اليونانية، بل هي من العربية، وذلك أشنع لها، فلو أنت تدبرت النصوص التي ينقلها الأستاذ في كتابه ويحملها على أغراضه أو يحمل أغراضه عليها وكنت فطناً باحثاُ نقّاباً لرأيت هذه النصوص تشكو إليك وتستجير بك مما أصابها من القلة والذلة, فإن طه لا يجد النص أبداً في كتب العربية إلا كلاماً جزلا بليغاً محكم السرد موثق التركيب قد نُزلت فيه الألفاظ على منازلها وجُلبت لمعانيها وتلاءمت مع اشكالها وخرج منها أسلوب مطبوع كمصنوع أو مطبوع كمصنوع فإذا أصابه في الكتب على هذه الصفة من البلاغة خشي منه على أسلوبه وكتابته، ورأى أنّ أشد ما يفضح الثوب القذر أن تنزل فيه رقعة نظيفة لها جدة ورونق، فلا يكون له من همّ غير أن يعمد إلى النص فيُمِرَّه لسانه ويديره على أسلوبه ويرصفه كرصفه ويترجمه من عربية إلى عربية غيرها فيختلّ ويركّ، فيندمج مع عبارة طه فإذا هو لايَنبُهُ عليها ولا هي تنبه عليه ) إ.هـ.

ياااااه... ماهذا؟! أي صواعق مرسلة هذه؟! وأي منطق أعجب من هذا؟! ثم ما هذه الصياغة العبقرية التي دبج الرافعي بها حجته؟! وإياك أن تظن أن الكلام هنا على عواهنه أو هو تهمة جزاف! لا وربي.. فستأتيك الشواهد تترى كلها تفضح ما اجترحه هذا الجاهل المسمى عميد الأدب! (لا بأس فالألقاب مجانية).
ومن عجائب تلك التوطئة الآنفة أنها تقودك بسلاسة إلى حيث النتيجة المحسومة سلفاً ليحيل الشواهد التالية لها إلى مايشبه تحصيل حاصل! وفق منظومة سحرية اختص بها إمام الأدب.
ثم يورد الرافعي الشواهد على <<فضيحة الترجمة>> هذه بقوله:

( فانظر كيف يصنع شيخ الجامعة. قال في صفحة 66: <<ولابن سلام مذهب في الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع، لا بأس أن نلم به فهو يرى أن طرفة بن العبد وعبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدهم تقدماً، وهو يرى أن الرواة المصححين لم يحفظوا لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر، فهو يقول: إن لم يكن هذان الشاعران قد قالا إلا ما يحفظ لهما فهما لا يستحقان هذه الشهرة وهذا التقدم، وإذن فقد قالا شعراً كثيراً ولكنه ضاع ولم يبق منه إلا هذا القليل، وشق على الرواة ألا يروى لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر فأضافوا إليهما ما لم يقولا>>.
انتهت الترجمة... أما الأصل في اللغة العربية فهو: <<ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة والمصححين لطرفة وعبيد، والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة، وإن كان يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما من أفواه الرواة، ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير. غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر، وكانا أقدم الفحول؛ فلعل ذلك لذلك، فلما قل كلامهما حمل عليهما حمل كثير>>.
انتهى النص، وعارض أنت بلاغة ببلاغة ولغة بلغة، وقابل بين ما ذهب إليه طه وما أراد ابن سلام؛ فمهما أخطأ فلن يخطئك أن تعرف الفرقَ بين الثرثرة والقصد، وبين هزيل الكلام وسمينه؛ وبين صحة الفكر وفساده، وبين الأخذ من الدليل بقيده والاتساع في الدليل على إطلاقه، وما يرى ابن سلام إلا أن كثرة ما ضاع من شعر طرفة وعبيد إنما كان لأنهما أقدم الفحول، فبُعد العهد به ومات بموت من علموه من عرب الجاهلية. فهذا نص على بعض أسباب ضياع ما ضاع من الشعر إن كثيراً أو قليلاً، ثم في عبارته نص آخر ينقض كتاب الجامعة كله، وهو إثبات أن لنا <<رواة مصححين>>، وأنهم صححوا لطرفة وعبيد قصائد بقدر عشر، وأثبتوا أن ما عداها غثاء حمل عليهما حملاً. ويلزم من هذا أنهم درسوا الشعر وجمعوه وحققوا روايته وأثبتوا الصحيح ونصوا عليه وميزوا المنحول وردوه وفصلوا الشعراء وقالوا في كل منهم وعارضوا بين الأقوال ورجحوا واستدلوا واحتجوا وناظروا، فوجب من ثم أن نصير إلى قول أولئك المصححين ونأخذ بعلمهم ونقف عند ما نصُّوا عليه، لأنهم أهل هذا العلم ولا أهل له من بعدهم إلا بصلة تنتهي إليهم؛ وهو ظاهر أن هؤلاء الرواة لم يثبتوا في كتبهم إلا ما صح عندهم، وأنه ليس على الأرض اليوم من يستطيع بعض ما فعلوه، لأننا بالإضافة إليهم أمة من الأعاجم؛ وبديهي أن ما يكون من وسائل العلم والرواية والنقد بعد مائة سنة من تاريخ الجاهلية لا يكون مثله ولا بعضه ولا بعض من بعضه بعد أربعمائة وألف سنة، وخاصة مع انقطاع الأسانيد وضياع الكتب؛ فأين هذا كله مما يذهب طه إليه وما خرف به في كتابه؟ ) إ.هـ.

ألا ليت شعري ماذا بقي من الزبد بعد هذا البيان العلمي النقي الممرّد من قوارير؟! أولا يصلح هذا بالله عليكم لأن يكون سداً في وجه كل ناعق من دعاة العصرنة هذه الأيام الذين أصموا آذاننا من كثرة ما يدعون إليه من تجديد الفقه والتاريخ؟! إن هذا لدليل _لا شك عندي_ على بركة علم الرافعي وسطوع نوره إلى آفاق الآفاق، من المنبع هناك حيث يرقد وترقد أطراسه وحتى اللحظة إلى حيث يجب أن ينتهي إليه المصب، فتأمّل.

يتبع..

عبدالرحمن الخلف
06-05-2006, 09:57 PM
(طه حسين ابن الجامعة البكر...!)

في هذا الفصل يبدأ الرافعي بمقبلاته الشهية قبل سلخ طه حسين وكتابه فيذكر كيف أن طه حسين تجرأ وأحرج مدير الجامعة (لطفي بك) في أحد الحفلات الرياضية حين جاءه الدور حيث علق على كلمة مدير الجامعة بنوع من التعالي والنقد المتطاول مما حدا بالرجل الحكيم مدير الجامعة أن يمتص الموقف بقوله: (إنه الإبن البكر للجامعة المصرية) فكانت هذه العبارة قدّاحاً لفصل جديد من تفنيد آراء طه حسين وتخريفاته بدأه بهذه السلَطَة:

(فأما اندفاع طه للرد مدير الجامعة في حفلة رسمية أقيمت للألعاب الرياضية على حين لم يزد المدير فيها على نصح الطلبة بالجد والمثابرة فهذا هو الأصل في طه وذلك طبعه وخلقهن بني على المجاذبة والمماراة، فما من كلمة إلا ولها عنده بنت عمه أو بنت خاله...
ولو أن الخطبة في هذه الحفلة كانت في تعليم المشي على الحبل ... لردّ طه بنوع من الرد ولجأ بنبذ من الاعتراض، فإن العبرة عنده بما يهجس في خاطره لا بما هو الحق ولا الواقع ولا مقتضى الحال، وتلك طريقته في العلم وهي آفة من آفاته وأصل من أصول الخطأ فيه، ومثل هذا لا تزال الشبهة قائمة على لسانه، ولا يزال مُعِدّا لكل قول قولا، فما يسمع شيئاً إلا خيل له شيءٌ آخر ولا يفكر في أمر إلا لبس عليه أمر غيره، ولا تفاتحه رأياً فيرضاه إلا إذا أراد لأمر أن يرضاه، ولا تجادله فيقتنع إلا إذا شاء لغرضٍ أن يقتنع؛ لأن الأصل في تركيبته المراء، والحدة، واللجاجة، وطغيان القول وهي أربع مظاهرها فيه الشك والاضطراب والقلق وفساد النية، ونتائجها الإنكار والخلط والسفه والعناد، وكل ذلك يجمع طه حسين) إ.هـ.

إن الرافعي هنا يكاد يلامس مكمن الداء وخفايا العلة التي احتوت نفس طه وفكره ليصنع للقارئ رصيداً من التحليل قبل القراءة ويطعم انطباعه الأولي حين يرى الحلة الأدبية القشيبة في كلام طه بشيء من التأني فالتفكير فالرفض!
وهكذا يشحذ إمام الأدب أدواته البلاغية في وجه المد التغريبي الذي طغى على ساحة الأمة آنذاك، ليكون الأديب الحق الفاعل في قضايا أمته لا المتقوقع في صومعته الأدبية بسلبية بغيضة نكاد نراها جلية في جل أدباء العصر.
ويختم الرافعي مقبلاته بطبق أخير _قبل البدء في الجد_ بهذه القطعة اللاذعة الطريفة إذ يقول تعليقاً على وصف مدير الجامعة طه بالابن البكر للجامعة:

(لعمري إذا كان هذا كله لابن الجامعة البكر وكان _اسم الله عليه..._ يجعله من من عذره في نتف لحية أبيه وعمه وخاله ويعتدُّه من أسباب الرضا عنه إذا وقع في قبيح أو دخل في كبيرة _ إذا كان هذا لابن الجامعة البكر _ فما بقي على الجامعة إلا أن تضع له بجانب منبر التدريس حصاناً من الخشب... ليلهو على هذا وعلى هذا، فمن المنبر إلى الحصان ومن الحصان إلى المنبر...ولا تلُمِ الصبيانَ فيه على الرقص!) إ.هـ.

ثم يبدأ الرافعي بتحليل خط طه الفكري إذ يعلق على تقليده للمعري كما صرح بذلك في بيروت أن هناك فارقاً شاسعاً بين الرجلين حيث يرى الرافعي أن إلحاد المعري إلحاد شعري تجيء به القافية ويحمل عليه التخيل فلم يوجد هذا عند طه فصار : (المعري الذي بقي من المعري في مُنخل الأدب!)

ثم يقرر الرافعي أن طه أداة استعمارية فهو دائم التهكم بالنبي والقرآن والصحابة والعلماء واللغة والأدب فحقق بذلك مالم تحققه مدافع وجنود المستعمر في غزواته المتعاقبة للأمة.

ومن اللافت في هذا الفصل ربطه بين أطروحات طه وعقيدة الرافضة في الصحابة والخلفاء والراشدين حيث يلمح الرافعي بحدة نظره العجيبة هذا الملمح الهام في رده على أغاليط طه حسين فيقول:

(ومن العجائب أن طه يتوارد أيضا في طريقة الاستنتاج مع الرافضة ويطابقها مطابقة النعل للنعل؛ ولا تستبعدن ذلك مادام كلا الفريقين أسقط الإيمان من حسابه (وتجرد من دينه) عند البحث والرأي؛ وكأن شيخ الجامعة يقيس على نفسه فلا يصدق أنه كان في الأمة الإسلامية قومٌ يؤثرون الله ورسوله على كل وساوس النفس وأهوائها، وليس عنده إلا العصبية والميل مع طبع الجاهلية حتى في إمام أهل الحق عمر بن الخطاب، وقال الشيخ في صفحة 53: وقد ذكر الرواة أن عمر مر ذات يوم فإذا حسان في نفر من السلمين ينشدهم شعراً في مسجد رسول النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بأذنه وقال: أرغاء كرغاء البعير, قال حسان: إليك عني ياعمر! فوالله لقد كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك! فيرخي عنه عمر ويمضي.
قال: وفقه هذه الرواية يسير لمن يلاحظ ما قدّمنا من أن الأنصار كانوا موتورين وأن عصبيتهم كانت لا تطمئن إلى انصراف الأمر عنهم فكانوا يتعززون بنصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وانتصافهم من قريش... وكان عمر قرشياً تكره عصبيته أن تُزدَرَى قريش، وينكر_كذا كذا_ ما أصابها من هزيمة _يعني في غزوة بدر_ انتهى.
ولكن من أين لأستاذ الجامعة أن حساناً كان ينشد يومئذ في هجاء قريش في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليعزي الأنصار وينوح كالنائحة المستأجرة حتى ثارت لذلك عصبية عمر ورجع وهو أمير المؤمنين إلى عصبية الجاهلية!
ومن أين له أن عمر كان ينكر ما أصاب قريشاً من الهزيمة في غزوة بدر أو فتح مكة!
وهل كان عمر كطه حسين يشك في التاريخ ويكذبه مع أن سيفه كان من تلك السيوف التي هزمت قريشاً؟
ثم كيف يجوز لأستاذ الجامعة أن يكذب ويغير النص فيقول: (فيتركه عمر ويمضي) وكل الروايات في الكتب متفقة على أنه قال لحسان: صدقت أو صدقه. ولكن إذا قال عمر صدقت كان ذلك نصاً على أنه لم ينكر ما أنكر، لا حمية ولا عصبية لأن العصبية تأبى عليه أن يصدق، بل يكظم على غيظه (ويتركه ويمضي) فانظروا أيها الناس ما يصنع الخبيث لرمي الرجل الذي أعز الله به الإسلام واتهام إيمانه وصدقه مع ورود الحديث الشريف (ليس منا من دعا إلى عصبية) وقد رأيت كم تكرر لفظ العصبية في كلامه ثم إن قول عمر لحسان: صدقت، يدل من جهة أخرى على أنه لم ينكر عليه إلا هيئة الإنشاد.
كان ينشد الشاعر العربي فينتفخ ويربو في ثيابه ويتكلف التفخيم والتشدق وإدارة اللسان وتقليبه ويهدر كما يهدر البعير حين يستفحل ويرغو وكل ذلك في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك حيث يقول عمر أرغاء كرغاء البعير؟) إ.هـ.

فلاحظ قوة الحجة وصفاء الإيمان المدعم بعقلية علمية فذة إذ أنه لم يتح المجال لقلمه _وهو البارع لو أراد_ في شخصنة القضية أكثر مما ينبغي فأورد الشواهد ثم رد عليها بمنطق علمي راسخ يجلو ما قد يشوب النفس من شُبَه المستعمرين وأذنابهم.
إلى أن يصل بك لاستنتاج مفاده :

(على أن ما قاله طه في عصبية عمر هو كاستنتاج الرافضة وعلى طريقهم في الرأي والفكر؛ إذ يقولون أن الصحابة بايعوا أبا بكر وتركوا علياً، لا طاعة ولا رغبة بل عصبية منهم على عليّ، ورجوعاً إلى طباع الجاهلية؛ إذ كان علي قتل من عشائرهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل في الغزوات والفتوح؛ فليس يمحو الإسلام عندهم شيئاً، ولا يكون المؤمن إلا على أصله التاريخي وطبيعة الجاهلية, ويسقطون ما عدا ذلك من مظاهر النفس الإنسانية التي من أعظمها في الإسلام ذلك اليقين الديني وكان عجيبة العجائب وأنزل فيه الله تعالى: ﴿لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمن وأيدهم بروح منه﴾.
وليت طه يفهم معنى قوله: ﴿كتب في قلوبهم الإيمن﴾ ولكن قلبه هو لوح ممسوح، ونعوذ بالله من خذلانه؛ ومتى تجرد الباحث في التاريخ الإسلامي<<من دينه>> فهو شيء واحد إن كان من الرافضة أو كان أستاذاً في الجامعة، لأن هذا التاريخ إنما يقوم في أصله على معان لا يعقلها ولا يصدق بها من يجرد نفسه منها، وكيف يعقل الجبان المنخوب القلب أفعال بطل من أبطال الدنيا الذين شذت فيهم طبيعة القوة والجرأة فيقال في أحدهم إنه يحمل مائة قنطار وأنه يقطع سلاسل من الحديد بيديه وأنه يصلب رجلاً كطه حسين في خنصره...؟) إ.هـ.

ثم يختم الرافعي هذا الفصل بشبهة شنيعة خبيثة من لوثات عقل طه يقشعر لها البدن ويعجب المرء كيف يُصنع من هذا رمز تنويري ونجم للأمة إلا أن يكون وراء الأكمة ما وراءها فهاهو يقول قولاً لم يتجرأ مشرك أو ملحد قبله على قوله :

( وما كل مامر بك أيها القارىء بأشنع من قول طه في صفحة 72:<<ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال _كذا_ الشعر وإضافته للجاهليين، وهو مايتصل بتعظيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية أسرته ونسبه في قريش؛ فلأمر ما اقتنع الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون صفوة بني هاشم, وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصيّ، وأن تكون قصيّ صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها>> انتهى.
فما هذا الأمر ياشيخ الجامعة؟ ثم ما هذا التهكم؟ وهل تتهكم أيها الأحمق المغرور إلا بالحديث الصحيح: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم. واصطفاني من بني هاشم " ألا قبحك الله من شيخ سوء! وسيحيق بك ماكنت تستهزئ؛ ومن عساك تظن أنك تبلغ ضره بهذه الحماقة فتضره؟) إ.هـ.

ولاحظ هنا إشارة الرافعي _كذا_ تعليقاً على مفردة _انتحال_ التي استخدمها طه في أكثر من موضع من الكتاب مريداً بها _الوضع_ مما يدل على جهله بمعنى الانتحال وهو أن ينسب الرجل الشعر إلى نفسه والذي _بكل وضوح_ يختلف عما أراده طه من أن الشعر الجاهلي موضوع جله.

وينتهي فصل من الصواعق المرسلة أعُدّه من أمتع وأعمق فصول الكتاب وأثراها، على أن حكمي هذا قد يسقط في أي لحظة بعدما نمعن النظر فيما تبقى من الفصول!

يتبع..

وفاء شوكت خضر
29-11-2007, 11:25 AM
موضوع هام شيق ، فيه من العلم والخير ما يفيد أجيالا قادمة ..
تم نقل هذا الموضوع بواسطتي إلى قسم النقد التطبيقي والدراسات النقدية ، حيث الجزء الثاني من هذه الدراسة ..

بارك الله بك أخي الكريم عبدالرحمن الخلف .

لي عودة بإذن الله .

عبدالرحمن الخلف
29-11-2007, 02:18 PM
شكراً لك أخت فاطمة على النقل وعلى حسن ظنك الذي لا نستحق...

ولك تحياتي.